}

النقد العربي المعاصر.. ما بين قيم النقد والخطاب السائد(3)

ليندا نصار ليندا نصار 4 أغسطس 2019
هنا/الآن النقد العربي المعاصر.. ما بين قيم النقد والخطاب السائد(3)
(Getty)
تفكيك الخطاب النقدي العربي اليوم بات أمراً محفوفاً بالمخاطر، بل صار أقرب ما يكون إلى حفر في بركان خامد قابل للاشتعال في أية لحظة، ولا سيما مع تزايد فلسفة براغماتية تسعى إلى جعله ما يسمى بالعمل المدر للدخل، وإلى بحث عن التخندق الاستراتيجي في سيرورات الثقافة العربية من أجل تحصين الاسم لا التجربة. وهنا لا بد من التنبه إلى أن طرح الملف يأتي من ضرورات تسعى إلى التفكير في سؤال النقد بعيدا عن تلك المقولات الجاهزة التي عادة ما تعيد وتكرر ما هو سائد. إن هاجس هذا الملف هو الوصول إلى بعض الرؤى التي من شأنها أن توضح الإرباكات التي عادة ما تتصف بها بعض الكتابات النقدية التي لا تميز بين النقد ودراسته ونقد النقد، وكذا بناء مقاربات تبني وعيا آخر يتيح إمكانات لجميع الحساسيات، سواء أكانت منتمية إلى الجامعة أو إلى خارجها، في تقييم الأعمال النقدية من داخل الجوائز أو من خارجها.  ونسعى في هذا الملف إلى محاولة تقريب القراء من وجهات النظر المختلفة لدى النقاد والأكاديميين والمنشغلين بسؤال النقد في العالم العربي، وذلك من أجل معرفة تمثلاتهم في ظل التحولات التي يعرفها المشهد الثقافي العربي من جهة، وطبيعة الخطاب النقدي السائد من جهة ثانية، وهذا المطلب يحتاج إلى التفكير في راهن العربي وضروراته القصوى، وإمكاناته في ضوء التحديات الجديدة التي يشهدها المجتمع العربي ومستويات التطوّر الحضاري وأشكال المحو، والوصول إلى رؤى يمكنها أن تكون بوصلة لتحصين النقد من أزماته المتعددة. فهناك عديد من المتتبعين يشيرون إلى دخول النقد العربي إلى غرفة العناية المركزة جراء المضايق التي فرضتها الفورة الإبداعية، وكانت سبباً في عدم قدرته على مواكبة التجارب والحساسيات، بل صارت بعض النصوص التي يغيبها النقد هي من تحظى بالقراءة العالية والتتويج في منصات عربية وعالمية. في المقابل نجد مشاريع نقدية عربية رائدة ولكنها تعد على الأصابع وتبقى وليدة اجتهاد فردي في غياب أو تغييب للمؤسسة الأكاديمية وفلسفة النقد باعتباره أداة لبناء ممكن آخر للمجتمعات العربية وتحصينها من الفكر الواحد.
يطرح الملف أسئلة من قبيل: هل يمكننا الحديث اليوم عن خفوت للنقد العربي أو هو خفوت مرتبط بضرورات التسطيح والوعي المعلب؟ لماذا يغيّب النقد الأصوات الجادة؟ وهل هناك ضرورة له بالنسبة إلى المبدع؟ أليست هناك مسؤولية للناقد اليوم في ما يتعلق بالنزاهة الفكرية؟ وهل هناك أخلاقيات للنقد؟ ولماذا نجد الأسماء النقدية نفسها هي التي تتكرر في الندوات والجوائز؟ لماذا يتم تغييب الأصوات النقدية الجديدة؟ وهل هناك حدود فاصلة بين الدراسة الأكاديمية وبين النقد الأدبي؟
نتناول في الجزء الثالث من هذا الملفّ آراء كلّ من النقاد عبدالدايم السلامي، وصلاح بوسريف، وحورية الخمليشي.


عبد الدائم السلامي: النقد فعلٌ إبداعيٌّ لن
يُوجَد إلاّ خارج مدرّجات الجامعة
النقد فعلٌ إبداعيٌّ لن يُوجَد إلاّ خارج مدرّجات الجامعة، أيْ في الميادين العامّة حيث تعيشُ النصوصُ وشخصياتُها وقُرّاؤها. وبناءً على هذا، انصبّ جهدُ كُتَيِّبي "كنائسُ النّقد" على إعادة النظر في الممارسة النقدية عربيّاً، حتى تجتاز محنتَها وتَحْتَازَ لها مكانةً "أدبيّة"؛ بمعنى أن يتوفّر النّقد على "أدبيّة" مّا - في جُملتِه وفي رؤيته- تمنحه حقّ الحياة ضمن باقة آدابنا (وهو مطلب قديم دعا إليه باحثون كُثْرٌ، ولكنّه لم يتحقّق إلى الآن في مُنجَزِنا النقديّ)، ذلك أنّ أغلبَ ما يكتبه نقّادُنا اليومَ إنّما هو لا يزيد عن كونه أوامرَ ووصايا محمولةً في خُطَطٍ "وَعْظيّةٍ" لتَحْيِيدِ النّصوص والإغارة عليها وإسكاتِ معانيها باسم القراءة العلمية!
فأنْ يكونَ النصُّ النقديُّ أدبيّاً أمرٌ لا يتعارض إطلاقا مع وظيفته الثقافية، وهي النّظر في النصوص المقروءة للوقوف على فنونها وثيماتها في اتصالها بأحوال وقتها، وفي خلال ذلك يمكن أن يُظهر النّاقد ما في تلك النصوص من هَناتٍ فنيّةٍ وميزاتٍ. ليس النّقد جهاز "سكانير" تدخله الرواية فيكشف عن معاطِبِها بكلّ أمانته التكنولوجيّة وإنّما هو حُسنُ تدبيرٍ لحركةِ عناصرها خبراً وخطاباً، ذلك أنّ "الفرز النقديّ" للأعمال الأدبيّة كما هو سائد بيننا اليومَ قد خلق سُوقاً نقديةً سوداءَ تُباعُ فيها ذِمَمُ أهلِ النّقدِ، وتُشترى بها الامتيازات.
إن حالَ النَّقدِ العربيِّ الآن تُنبئُ بكونه يعيش قَلَقاً وحَيرةً مَبْعَثهما تردُّدُه بين نوعيْن غالبيْن على ممارسته دون قدرتِه على الحَسْمِ في الانتصارِ لواحد منهما: أمَّا النوعُ الأوّل فيتَّكِئُ فيه أصحابُه على صفاتهم الأكاديمية، بل قُلْ هم يتحصَّنون بها، فإذا هم فيها مثل "سانت بوف" الذي عارضَه مارسيل بروست بسبب أنّه يرى فيه ناقداً يعرف كلَّ شيء عن النصوص، ولكنّه لا يفهم شيئاً منها. فتراهم ينشرون بين الناسِ قراءاتٍ يصِفونها بهتاناً بـ"الموضوعيّة" و"العِلْمية" (من هنا تأتي سُلطتُهم، ومن هنا أيضاً ينتهي اجتهادُهم النقديُّ ويبدأ كَهَنوتُهم)، وهي قراءاتٌ يُكرِهون فيها الأعمالَ الأدبيّةَ على الخضوع لشروط ما يستدعون لها من مناهجَ ومقولاتٍ

نظريّةٍ ذاتِ سياقاتٍ وثقافاتٍ تختلف عن ثقافة نُصوصِنا الإبداعيةِ وسياقاتها الاجتماعيّة، ورأسُ الأمرِ عندهم ليس النظرَ في شخصية النُّصوص وأدبيّتِها وإنّما اختبار عضلاتِهم في عرضِ هذا المنهج أو ذاك، ومن ثمَّ هم يَعْتَدُون على معاني النصوص التي يدّعون قراءتَها، بل هم يُعنِّفونها بصفتِهم الذّهبيّةِ "الناقد الأكاديميّ" (النَّقْدُ فنٌّ، وهو نقيض الأكاديميا)، فلا يَرَوْن فيها إلاّ كتابةً مارقةً تحتاجُ إلى أن تدخُلَ معابِدَ المناهج لتعترفَ بآثام معانيها وتتطهَّرَ منها طهارةَ التّوبةِ.
أمّا النوعُ الثاني من النّقد فيُنجِزُه قُرّاءٌ جُدُدٌ اطّلعوا على النظريات النقديّة الغربية ولكنّهم لم يقدِّسوها وإنّما راحوا يستفيدون منها ضمن ما يجوز لي أن أطلق عليه عبارة "التناص النقديّ"، محاولين في أثناء ذلك مُجاوزتَها صوبَ مقترحاتٍ لهم نقديّةٍ تنحازُ إلى النصِّ الأدبيِّ العربيِّ وتَجْري فيه مَجْرى الإبداعِ.
إنّ الأكاديميا في الأدبِ قتلٌ للإبداعِ، وتقديسٌ للثَّابتِ وحراسةٌ له، إنّها حياةٌ معزولةٌ عن الحياةِ: حياةٌ كَنَسيَّةٌ، قليلةُ الخيال ومُتَجهِّمةٌ، بل هي شكلٌ من أشكال الوثنيّةِ على حدِّ رأي جستينيان الأول، لا يضحَكُ أتباعُها كما نضحكُ نحن في الدُّنيا، ولا يُحِبّون ما يقرؤون كما نُحِبُّ، فلا تراهم يَخْرجُون من قاعات الدّرس و"المجلاّت المُحكّمة" و"الندوات العلميّة" و"مَخابِر السَّرد" إلاّ مرّةً واحدةً: يخرجون فيها إلى القَبْرِ. وغالباً ما يخرجون خروجَهم ذاكَ دون أن يبلغوا حقيقةَ أنّ النصوصَ كائناتٌ متحرِّكةٌ، حُرّةٌ وحالِمةٌ حُلْمَ صبايا تنتظر الواحدةُ منهن ظهورَ فارسٍ يمدُّ لها يدَه وقلبَه معاً، فكيف لثابتٍ سَجينٍ أن يُلِمَّ بأحوالِ مُتحرِّكٍ حالِمٍ؟


صلاح بوسريف: النقد المعاصر
كان في جوهره صدى للماضي
كنت مراراً وقفت عند هذا الموضوع بالذات، ونبهت إلى ما يجري من اختلالات في علاقة النقد بالإبداع، وأن النقد لم يعد قادرا على السير بالوتيرة التي يجري بها النص الإبداعي، خصوصا في الشعر، الذي نأى بنفسه، في عدد من التجارب الشعرية، عن "القصيدة"، التي استغرقت الشعر، وسمت نفسها به، دون وعي المسافة الإبداعية بينهما، ودون إدراك معنى البناء في الشعر، الذي هو أحد أهم عناصر شعرية النص الشعري. النقد، في نماذجه الأولى، التي واكبت ما سمي بـ"الشعر الحر"، اكتفى بتبرير التعديلات التي جرت على "القصيدة"، بنوع من "المساومة"، وسعى جاهدا لأن يضمن استقرار هذا التغيير، ليصير أفقا للشعر العربي المعاصر.
السياقات الجمالية التي خاض فيها نقاد هذه المرحلة، ومن جاؤوا بعدهم، حصرت الشعرية في

التفعيلة، وتحديدا في "البحور الصافية"، بتعبير نازك الملائكة، رغم أن السياب، مثلا، استعمل بعض "البحور المركبة". والنقاش ظل يدور حول الوزن، باعتباره هو ما تتأكد به شعرية النص وشرعيته. وحين نعود إلى الشاعريين العرب القدامى، سنجدهم خاضوا نفس النقاش، والفرق، بهذا المعنى، لم يكن فرقا في النوع، بل في الدرجة. ما يعني أن النقد المعاصر كان، في جوهره، صدى للماضي، رغم ادعائه الحداثة والتحديث. من جاؤوا من النقاد بعد "الرواد"، لم يخرجوا من هذا المعنى، مع بعض التنويع الذي تأثر بالبنيوية، في تطبيقاتها المبتسرة، وما ظهر من مفاهيم ظلت هي مدار النقد لا النص في ذاته. هذا حدث في المغرب، كما حدث في المشرق.
إذا تأملنا ما صدر من دراسات وكتابات نقدية، وأطاريح جامعية، سنكتشف أن كل هذا الركام من الكتابات النقدية، ظل يدور، زمنيا، بين ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، في أقصى الحالات، وظل يدور، أيضا، في حلقة شعراء، هم أنفسهم يتكررون في هذه الأعمال، وكأن الشعر العربي، خلال الخمسين عاما الباقية التي تمتد من ثمانينيات القرن الماضي إلى اليوم، لا يوجد فيها شعر، ولا شعراء، ولم تضف شيئا له قيمة معينة! لا يمكن اختزال الشعر في شاعر دون آخر، ولا في زمن دون زمن، ولا في شكل دون شكل، أو في "حداثة القصيدة"، كما أسميها، وأعني بها "الشعر الحر"، لأن هذا فيه خرق لشروط المعرفة والعلم، ولطبيعة التحولات التي تجري في الثقافة عموما، وبضمنها الشعر. النقد العربي، في الجامعة وخارجها هو نقد أعمى، لأنه يكتفي بلمس بعض أطراف الفيل، ليسمي بها الفيل كاملا، وهذا غير مقبول على الإطلاق، ويساهم في بقاء الكلام عن الشعرية العربية المعاصرة ناقصا فيه تضليل، وليس هو ما يجري في الشعر حقيقة، لأن الجزء لا يمكنه أن يصير كلا أو أن يكون هو الكل.
النقد عند العرب، منذ الشاعريين الأوائل، انتقائي، لا يحتكم إلى النص بل إلى الشخص، وكما كنت كتبت في مقدمة كتاب "الشعر وأفق الحداثة"، فنحن ننظر إلى الشجرة، باعتبارها الغابة كاملة، وبالتالي، فنحن لا نعرف شيئا عن الشجرة، كما أننا نجهل الغابة نفسها، لأن الغابة ليست كلها من جنس الشجرة، ولا من نوعها، أو ما تحتمله من خواص في طبيعتها. الجامعة ساهمت في مأسسة "القصيدة"، وفي رفض الاختراقات التي حدثت في بعض التجارب التي كانت فيها جرأة كبيرة في خلخلة البناء، في توسيع دوال الشعر، في الخروج من أسر "القصيدة والإنشاد"، وفي رفض الوزن، أو الإيقاع كـ"دال أكبر"، به تتحدد شعرية النص الشعري، كما أوهمتنا بعض الدراسات التي لم تنتبه إلى دور الخيال في الشعر فأقصته. اليوم نحن، نصيا، في زمن الكتابة، ليس بمعناها البارتي، ولا بالمعنى الذي ذهب إليه أدونيس، في "بيان الكتابة"، وحتى في عمله الشعري، الهام "الكتاب. أمس المكان الآن"، لأن الشفاهة واللسان بقيا حاضرين في الكتاب، رغم المظاهر الخادعة للتوزيعات الخطية على الصفحة، لأن الكتابة عند أدونيس تحدرت من "القصيدة"، ولم تهدم بنيتها الشفاهية الإنشادية، لتذهب إلى مفهوم الصفحة، كما نجد عند مالارميه، مثلا. النقد العربي، إذاً، هو نقد لم يخرج من ماضي القدماء من الشاعريين من جهة، ولم يعد مراجعة المفاهيم التي يوظفها، وهي مفاهيم انتفت واختفت في اختراقات الكتابة، مثل "القصيدة"، و "البيت"، و "الوزن"، و "القافية"، بما في ذلك مفهوم "المعنى". المسلمات هي ما بات يحكم النقد عندنا، وعلى النقد أن يعيد مراجعة نفسه، بقراءة النصوص والإنصات إليها، وبالخروج من مركزية المشرق العربي، باعتباره النموذج والمثال أو الطريق، بالمعنى الهايدغري. الناقد العارف والعالم هو من يبحث عن النصوص الاستثنائية، كان من كان أصحابها، دون فرق المسافة بين جيل وجيل، لأن الشعر لا يقاس بالشخوص، بل بالنصوص. لنزح الشجرة من أمامنا، إذا رغبنا في أن ندخل الغابة، نكتشف تنوعاتها، وما فيها من اختلافات، وأضواء وظلال، هي انعكاس للشمس التي تتغير كل يوم ولا تكون هي نفسها، بتعبير هيراقليط، فيلسوف الصيرورة.


حورية الخمليشي: وضعية النقد الأدبي تشهد
تراجعاً عاماًّ مقارنة بالستينيات والسبعينيات
النقد في عالمنا العربي يعرف تراجعاً بما فيه النقد الصحافي. فهناك نُدرة في الإعلام الثقافي المتخصّص. ووضعية النقد الأدبي تشهد تراجعاً عاماً مقارنة بجيل الستينيات والسبعينيات. ومعظم ما يُصدَر من كتب ودراسات نقدية يبقى حبيس المناهج النقدية، ولا يصل إلى طرح الأسئلة الكبرى، لأنه يظلّ رهينة الشرح والتفسير والتعليق. كما تغيب عنه الذّائقة الأدبية والمصداقية والنزاهة الفكرية. إلا أن هناك استثناءات أي مجهودات فردية لدراسات هامة، سواء في مجال الشعرية العربية أو في مجال الرواية، تصدر في المغرب العربي وفي المشرق العربي وتفتح آفاقاً جديدة في القراءة.
أما بالنسبة للنقد الصحافي فقد أُغلِقت العديد من المنابر الثقافية. ومعظم هذه المنابر تفتقر إلى الصّحافي المثقف والمتكامل في تكوينه؛ أقصد الصحافي الذي يمتلك القدرة على إثارة أسئلة معرفية، وإجراء حوارات جادة مع أدباء لهم تأثير في المشهد الثقافي، وبإمكانه نقل أخبار الأدب والفكر والفن.
وقد نتساءل إذا كان النقد ينتسب إلى الجماليات، هل تمكّن الناقد العربي من سبر أغوار الجماليات بعيداً عن أي بُعد أيديولوجي وبعيداً عن الامتثال لإكراهات الموروث؟ فاقتحام

الجماليات في النص الأدبي مسألة أساسية وخاصة المنهج اللغوي الجمالي الذي يمكّننا من التفاعل بين الشعري والفلسفي، وبين الشعري والفنّي، وكذلك الشعري والروائي. فالشعر والرواية مجال خصب لمصطلح القراءة الفاحصة.
ففي نقد الشعر مثلاً، لا يخفى على أحد أننا لا نجد في زمننا مشاريع نقدية كبيرة، يمكن أن تتحوّل إلى مرجعية شعرية عربية كما نجد في الشعرية الأوروبية وفي الثقافات الإنسانية المتعددة. مع العلم أن النقّاد القدماء نجحوا في وضع معايير للشعرية العربية. فابن سلام الجمحي مثلاً قدّم أوّل كتاب في الشعرية عند العرب وهو "طبقات فحول الشعراء"، وهو من أهم الكتب النقدية الرائدة في النقد العربي. وفيه تحدّث عن شروط النقد ومنها ضرورة وجود النّاقد الذي يمتلك الدّراية والمعرفة بأسرار الصناعة النقدية، ويميّز الشعر الجيّد من الرّديء والصحيح والمُنتَحَل. وكان للشعر علماؤه كالأصمعي وابن قتيبة وقدامة بن جعفر وابن المعتز، الذين وضعوا له أُسساً ومقوّمات. واليوم ليس لدينا نقّاد كبار كما ذكرت مقارنة بجيل الستينيات والسبعينيات من صنف طه حسين، وعز الدين إسماعيل، وحسين الواد، ومحمد مندور، وغيرهم.
أقول بأننا نحتاج إلى رؤية نقدية جديدة في ضوء النظريات الحديثة. يجب علينا أن ننظر إلى النقد بنظرة مستقبلية تساهم في بلورة الوعي الإبداعي والفكري والثقافي عموماً في ظل العولمة الثقافية والتحولات التي يعرفها العالم، والانتقال من النص المكتوب إلى النص المرئي بعيداً عن منطق المجاملات لنصوص تفتقد أي لون أدبي حقيقي، وأن يرتكز النقد بالدرجة الأولى على الجانب المعرفي الذي ينبني على المعرفة بخصوصية النقد وتاريخ الأفكار، وأن يمتلك الناقد قدرة على إثارة الأسئلة الكبرى، أسئلة مغايرة، منفَتحة على كل ما هو جمالي وإنساني، وأن يكتب الناقد بحُرّية بعيداً عن صرامة المنهج وإكراهات المؤسسة الأدبية.
النقد غير التنظير؛ فهو ليس إسقاط المناهج والمفاهيم على النص الأدبي، ولا تكرار المصطلحات النقدية، وليس قواعد جاهزة لتلقين متعة التواصل في تعليمنا المدرسي والجامعي، ولأن متعة التواصل تأتي من خلال النص الأدبي، خاصة في الأعمال الشعرية والروائية الكبيرة. يجب أن تنبني على الذوق الذي ينبني هو الآخر على العلم والمعرفة التي تجمع بين الحقول الفكرية والفلسفية والشعرية واللسانية وكذلك الفنية، حتى يتحقّق ما يسميه ياوس "المتلقي المتفاعل" الذي ينطلق في تذوّقه للعمل الإبداعي من "أُفق الانتظار" أو أُفق توقّع القارئ، وهو ما يحدّد ثقافة القارئ كنقطة أولى للانطلاق نحو آفاق أخرى يفتحها بنفسه في تواصله وحواره مع هذا العمل الإبداعي الذي يفتح له المجال لآفاق تأويلية واسعة انطلاقاً من ثقافته الأدبية والفنية.
ويجب الإشارة إلى أن هناك حدوداً فاصلة بين الدراسة الأكاديمية والنقد الأدبي. فالجامعة لا تُكوِّن مبدعين ونُقّاداً وروائيين وشعراء ولكنها تُكوِّن مُدرّسين. وقد سبق أن أشرت إلى أن الجامعة وحدها لا تصنع الثقافة، لأن الثقافة أسلوب حياة وسلوك.
أنا مع النقد المعرفي. الأكاديمي بالنسبة لي ينحصر في ما أنجزته داخل الجامعة، أي دبلوم الدراسات العليا ورسالة الدكتوراه، وما قدّمته في الجامعة من محاضرات في النقد والشعر والأدب المقارن والسيميائيات. وأنا مدينة في كل ذلك لأساتذتي. وما أنجزتُه من مؤلّفات بعد رسالة الدكتوراه هي دراسات معرفية. فالجامعة تُعلّمك الطريق الصحيح لإنجاز البحث العلمي وعليك أن تتعلّم كيف يمكن أن تكون مُبدعاً في هذا المجال، وهذا يبقى مجهوداً فردياً مبنياً على أُسس علمية معرفية بما فيه الخبرة العلمية باللغة ليكتسب الناقد خصوصيته النقدية. فالنقد إذاً هو القدرة على محاورة النصوص من مسافة الكتابة ومنحها حياة جديدة، حياة سابقة لزمنها، توّاقة إلى المستقبل، لأن النص عالَم سحري يحتاج إلى تفاعل القارئ لسبر أغواره والكشف عن أسراره الذاتية والإنسانية والكونية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.