}

النقد العربي المعاصر.. ما بين قيم النقد والخطاب السائد(1)

ليندا نصار ليندا نصار 28 يونيو 2019
هنا/الآن النقد العربي المعاصر.. ما بين قيم النقد والخطاب السائد(1)
عبدالرحيم جيران ويمنى العيد وشكري المبخوت
نسعى في هذا الملف حول النقد العربي المعاصر إلى محاولة تقريب القراء من وجهات نظر مختلفة لدى النقاد والأكاديميين والمنشغلين بسؤال النقد في العالم العربي، وذلك من أجل معرفة تمثلاتهم في ظل التحولات التي يعرفها المشهد الثقافي العربي من جهة، وطبيعة الخطاب النقدي السائد من جهة ثانية. وهذا المطلب يحتاج إلى التفكير في راهن النقد العربي وضروراته القصوى، وإمكاناته في ضوء التحديات الجديدة التي يشهدها المجتمع العربي ومستويات التطور الحضاري وأشكال المحو، والوصول إلى رؤى يمكنها أن تكون بوصلة لتحصين النقد من أزماته المتعددة. وهناك عديد المتتبعين الذين يشيرون إلى دخول النقد العربي إلى غرفة العناية المركزة جراء المضايق التي فرضتها الفورة الإبداعية، وكانت سبباً في عدم قدرته على مواكبة التجارب والحساسيات، بل صارت بعض النصوص التي يغيبها النقد هي من تحظى بالقراءة العالية والتتويج في منصات عربية وعالمية. في المقابل، نجد مشاريع نقدية عربية رائدة، ولكنها تعد على الأصابع، وتبقى وليدة اجتهاد فردي، في غياب، أو تغييب للمؤسسة الأكاديمية، وفلسفة النقد باعتباره أداة لبناء ممكن آخر للمجتمعات العربية وتحصينها من الفكر الواحد.
في إطار الملف، سنطرح أسئلة مثل: هل يمكننا الحديث اليوم عن خفوت للنقد العربي، أو هو خفوت مرتبط بضرورات التسطيح والوعي المعلب؟ لماذا يغيب النقد الأصوات الجادة؟ وهل هنالك ضرورة له بالنسبة إلى المبدع؟ أليست هناك مسؤولية للناقد اليوم في ما يتعلق بالنزاهة الفكرية؟ وهل هناك أخلاقيات للنقد؟ ولماذا نجد الأسماء النقدية نفسها هي التي تتكرر في الندوات والجوائز؟ لماذا يتم تغييب الأصوات النقدية الجديدة؟ وهل ثمة حدود فاصلة بين الدراسة الأكاديمية وبين النقد الأدبي؟
هنا الجزء الأول:

يمنى العيد: كيف نبني، فنيّاً، عالماً
مُتخيّلاً واقعُه المرجعي خراب؟
نعيش اليوم في واقع اجتماعي تغيّرت فيه العلاقات والقيم تغيّراً شبه جذري إن لم يكن جذرياً، علاقات يغلب على معظمها الطابع الافتراضي. لم نعد، مثلاً، ننتظر "حديثاً" يكتبه طه حسين، أو مقالاً تنشره هذه الصحيفة أو تلك، كي نعرف قيمة هذا الكتاب، فنقرأه، أو لا نقرأه. نعيش واقعاً اجتماعيّاً صار أشبه بجزر يتواصل أناسها باستقلالية، وبلا اكتراث بالنقد وأربابه. واقع افتراضي أنتج معايير خاصة قائم أغلبها على التبادل القيمي الذاتي. اقرئي مثلاً ما يُكتب على صفحات "الفيسبوك"، أو في المواقع، أو في غير ذلك من سبل التواصل الالكتروني... إنه، في معظمه، مدائح غير مسنودة إلى قيم تخصّ قول العمل الأدبي وفنيته.
أضيفي إلى ذلك دور الجوائز المتكاثرة ولوائحها، والكتب الموقَّعة، وما يواكب ذلك من إعلانات ومدائح مصحوبة أحياناً بقيمة مضافة توفرها ترجمة هذا الكتاب أو ذاك إلى اللغة/اللغات الأخرى.
إن العمل الأدبي، في مثل هذه الحالات، يكتسب قيمته من عالم العلاقات الافتراضي، ومن مناسبات ومعايير مسبقة، وليس من قراءته قراءة نقديّة. هذه القراءة التي يجب، كما أرى، ألَّا تقتصر على النقاد المختصين أو غير المختصين، بل أن يشاركهم فيها القارئ.
أسمح لنفسي هنا أن أشير إلى تجربتي في تدريس مادة النقد الأدبي. هذه التجربة التي مارستها بهدف أن يكون كل قارئ ناقداً لما يقرأ، بحيث لا يخضع لسلطة النقد/الناقد المختص، أو يكون تابعاً له، بل أن يكون قارئاً آخر يحاور القول الأدبي، كما يحاور، في الآن نفسه، القول النقدي المختص. مثل هذا الحوار يفضي إلى إثراء الوعي المعرفي العام بالنتاج الأدبي، ويؤهل 

القارىء لدور فاعل في عمليّة التطور والإثراء الثقافي.
أشدِّد على مفهوم القول، بدل مصطلح الخطاب الرائج، باعتبار مدلولات النص، وإحالاته المرجعيّة التي قد لا يكترث بها النقد حين يرى إلى العمل الأدبي كخطاب.
لا أرى إلى النقد/ الناقد كحكَم من حقه أن يقرّر ما هو جيد ويستحق القراءة وما هو دون ذلك. أميل إلى اعتبار النقد قراءة، والناقد قارئاً. قد يكون الناقد المختص أكثر ثقافة من بعض القراء، وبالمقابل قد يكون بعض القراء أعمق إحساساً بجماليّة النصّ وأكثر قدرة على اكتشاف معانيه من بعض النقاد. ثمة أعمال روائية لا يوليها بعض النقاد المختصّين أهمية لأسباب تتعلق بمنظورهم الفكري/الأدبي، في حين تلقى هذه الأعمال رواجاً ملحوظاً لدى القراء. أعتقد أن على الناقد المختص في مثل هذه الحال، أن يتبصّر في مواقفه وآرائه، كما في منظوره ومعاييره القيميّة.
نحن بحاجة إلى نقد قادر على مواكبة شرط وجوده الذي هو الرواية في زمنها الآخر، زمن الحروب والاقتتال وتدمير الذات لذاتها... زمن نحتاج فيه إلى إعادة النظر في مفاهيمنا ومعاييرنا باعتبار ما نعانيه وما نصبو إليه. إنه السؤال الصعب: كيف نبني، فنيّاً، عالماً

متخيّلاً يُمتعنا فيما هو يقول حكاياتنا ويهجس بمصائرنا الإنسانية؟
لا أحمِّل الجوائز مسؤولية ما آل إليه وضع النقد، على رغم ما يشوب أحكامها، أحياناً، من مآخذ قد يكون سببها اختلاف أعضاء لجان التحكيم في ذوقهم الأدبي، وفي معايير تقويمهم للنتاج الأدبي. هذا يحصل، ولكن يبقى لهذه الجوائز فوائد كبرى في بلدان يعجز فيها معظم الكتّاب، لأسباب ماديّة، عن التفرغ زمناً يحتاجه إنجاز عمل روائي، أو بحث فكري، أو فلسفي...
هكذا أسأل: هل الموضوع هو موضوع النقد الذي تقولين بأنه "دخل إلى غرفة العناية الفائقة..." أم هو الزمن الآخر الذي نعيش والذي تغيرت فيه المفاهيم والقيم والعلاقات وقد غرقنا في الحروب والاقتتال وتدمير الذات لذاتها...  فكانت الطفرة الروائيّة هي قول هذا الواقع الذي يفقد وجوده، ويخلق حضوره البديل والمختلف.
من الطبيعي، في نظري، أن يعجز النقد، ربما لفترة، عن مواكبة هذه الطفرة الروائيّة باعتبار عالمها المختلف وأدوات بنائها المتنوعة والمنفلتة من قواعدها الموروثة... والمتفاوتة طبعا في قيمتها. إنه التجريب الفني الذي يطرح سؤاله الصعب: كيف نبني، فنيّاً، عالماً متخيلاً واقعُه المرجعي خراب؟

عبدالرحيم جيران: لا يعقل أن نطالب الناقد
بأن يكتب عن النصوص التي لا تستحق القراءة
ربما كانت في دعوى أزمة النقد مغالطة ينبغي الاحتراس منها لسببين اثنين: أولهما عدم التمييز الدقيق بين النقد والدراسة الأدبية، فلا ينبغي الخلط بينهما؛ لأن النقد يهتم بتقويم الأعمال بينما الدراسة الأدبية تنشغل بالبحث في ماهية الأدب ومراسه وضبط الآليات التي تتحكم في إنتاجه. فالمجال الأول ماثل في الاستجابة الفورية لما ينتج من النصوص ومحاولة تقريبها إلى القارئ، بينما الثانية مجالها الفضاء الأكاديمي بما يعنيه هذا من صناعة للمعرفة وتطويرها، وحتى بالنسبة إلى النقد ينبغي التمييز بين النقد الصحافي والنقد العلميّ.
إن المتابعة والمواكبة الفورية مرتبطة بالنقد الصحافي أكثر منها بالنقد العلميّ. ويترتب على هذا التمييز الدقيق ضرورة التشخيص الدقيق للمراس النقدي عبر وسائل علمية دقيقة تتمثل في الإحصاء والاستبيان وغيرهما، فلا يعقل أن نرتهن في هذا الأمر بالآراء المتسرعة الصادرة عن الهوى من دون دراسات علمية تشخيصية دقيقة، ومن ثمة فالأزمة في نظري كامنة أساسا في اللغط غير العلمي الذي يطول الممارسة النقدية.
وإذا كان من الضروري اختبار قيمة النقد من خلال مواكبته لما ينتج من أعمال أدبية فإن هذا الأمر لا يستقيم إلا بمراعاة شرطين أساسيين: أولهما يتمثل في وفرة المنتج وعدم تسويقه بشكل موسع وعام. ويتمثل ثانيهما في ضعف النصوص وعدم توافر الجودة لها. فلا يكون النقد منتجا إلا إذا ما صادف في طريقه نصوصا جيدة تضيف إلى مجالها وتغنيه بالجديد على مستوى الموضوع والأداة. فلا يعقل أن نطالب الناقد بأن يكتب عن النصوص التي لا تستحق

القراءة، ويضاف إلى هذا أن ليس بِمُكْنَةِ الناقد أن يتتبع كل ما يصدر من النصوص وأن يكتب عنها، فعمل من هذا القبيل هو خارج عن إرادته ولا يستطيعه على الإطلاق. صحيح أن بعض القراءات النقدية يطبعها الإنحياز في ما تكتبه إلى هذا الأديب أو ذاك، وصحيح أن هناك من ليست له الدراية والخبرة لكي يمارس النقد، لكن هذا الأمر يعد شيئا لا يمكن اتخاذه معيارا للحكم على حركة النقد في العالم العربي برمته، بل قد نعده أمرا طبيعيا في هذه المرحلة التي تتميز بالضبابية على مستوى الرؤية وفهم العالم. ولا بد في نهاية المطاف من أن يعمل التاريخ على غربلة الجيد من الرديء.
أما بالنسبة إلى المشاريع التي تتصل بالدراسة الأدبية فهي مرتهنة بالأساس بسياق البحث العلمي في العالم العربي وما يخضع له من مؤثرات سوسيو ثقافية واقتصادية وسياسية. فلا يعقل أن ينفلت الفكر وضمنه الدراسة الأدبية من التبعية السياسية والاقتصادية، وهكذا فإن ما يسود في المشهد النقدي هو الأعمال التي تترسم خطى الأجنبي من دون العناية بالسؤال الخاص بما يفرضه هذا الأخير من صياغات جديدة مرتبطة في الزمان والمكان بالقضايا المتصلة بالمجتمع العربي. ولذلك تظل الجهود الرائدة فردية تعاني الحصار والتهميش لأنها لا تستجيب لمفهوم التبعية المتحكم في السلوك سياسة واقتصادا وفكرا واجتماعا. ولا يمكن فهم هيمنة بعض الأسماء على شؤون النقد وتدبيرها تقييما وتحكيما إلا في هذا الإطار. فالأمر يتعلق بعلاقات القوة والصراع داخل المجتمع النصي، وبمن يعد نفسه لكي يكون أداة في خدمة الهيمنة الفكرية والسياسية التي تتحكم في صياغة الأفق الفكري للمواطن العربي. 

شكري المبخوت: النقد الأكاديميّ يفقد بعض
مصداقيّته حين ينزّل في غير منازله
نحتاج بين الفينة والأخرى، عند تدارس الظواهر الثقافيّة، إلى العودة إلى الأسئلة الساذجة ومراجعة المفاهيم التي تبدو بديهيّة. من ذلك نحتاج حين نتحدّث عن "أزمة" النقد الأدبي العربي إلى التساؤل عن الناقد نفسه من هو؟ وعن الخطاب النقدي أهو واحد أم متعدّد؟
يبدو لي عند طرح قضيّة النقد في الثقافة العربيّة اليوم أن ثمة ضرباً من الخلط بين خطابات مختلفة تقع تحت هذه التسمية. فما يقدّمه الأكاديميّون وفق مناهج مضبوطة وفي أطر نظريّة محدّدة عالميّا يدرج ضمن النقد الأكاديميّ. وهو لون من ألوان النقد الأدبيّ يتميّز بطرق في صياغته ومنطلقات وغايات ليست بالضرورة هي التي ينتظرها عموم المتأدّبين والقرّاء.
وفي المقابل نجد كتابات ذات طابع صحافيّ قوامها التعريف بالإصدارات الأدبيّة الجديدة ومتابعتها ولفت انتباه عموم القرّاء للجيّد منها مبدئيّا. وهذا المجال الذي يمكن أن نطلق عليه، تحديدا له لا تهجينا وتبخيسا لممارسيه، اسم النقد الصحافيّ يمكن أن ينقلب، بحسب جدّيّة أصحابه والمنابر التي يكتبون فيها، إلى إطلاق الكلام على عواهنه مثلا أو إلى إخوانيّات مرذولة وعمليّات إشهار مجانيّة أو تهجّمات ومعارك زائفة. وهذا ممّا تحتمله المنابر (صحف ومجلاّت ومواقع...) التي كثيرا ما تحيد عن أخلاقيّات المهنة الصحافيّة ومقتضيات الكتابة الأدبيّة.
وبين هذين الخطابين المتضادّين (الأكاديميّ بجمهوره المحدود والصحافيّ بطيف قرّائه الواسع)

نجد صنفا ثالثا هو ما يمكن تسميته بالنقد الثقافيّ بالمعنى الواسع لا بالمعنى الذي يطلق على تيّار نقديّ بعينه. فمثل هذا النقد يتّخذ أصحابه النصوص الأدبيّة مرقاة لتناول ظواهر جماليّة او اجتماعيّة أو إيديولوجيّة يحلّلونها انطلاقا من كتابات مفردة أو مجموعة أعمال يدرسونها باحثين في الإشكالات التي تطرحها.
ورغم هذا التمييز الأوّلي لأصناف الخطابات النقديّة الثلاثة فإنّ ما نعتقد أنّه منطلق "الأزمة" التي يعيشها الخطاب النقديّ العربيّ عموما هو الخلط بين هذه المستويات والأصناف. فمن العجب أن نقرأ كتابات يدّعي أصحابها انّها أكاديميّة في غير منابرها المؤهّلة لاحتضانها وهي المجلاّت العلميّة المحكّمة فنراها في المجلاّت الثقافيّة بل في الصحف والمواقع الإلكترونيّة غير المختصّة أحيانا محلاة بدال الدكتور. وهي كتابات قلّما تكون فيها فائدة لعموم القرّاء لأنّها محشوّة بمفاهيم تبدو غريبة مستعجمة وإن كانت من خصائص اللغة المفهوميّة الأكاديميّة فيتلقّاها القارئ على أنّها خطاب نقديّ أدبيّ فتخفق في تحقيق الغرض منها. فليس من شأن الأكاديميّ في العادة أن يحكمَ حكمَ الناقد الثقافي أو الصحافيّ بل هو يتناول بالضرورة قضايا تتّصل بعلم الخطاب الذي يجهد لأن يكون علما قائما على مناهج وطرق في الإجراء وتحليل للأشكال والبنى والموضوعات.

من هنا يفقد النقد الأكاديميّ بعض مصداقيّته حين ينزّل في غير منازله. فرهانه، من ناحية، معرفيّ وانتظارات القارئ مغايرة لذلك، ولهذا الخطاب من جهة ثانية أمراضه وعلله وحدوده لكنّ بيانها ونقدها (نقد النقد) من شأن المختصّين وأهل العلم وليس من شأن عموم القرّاء.
وإذ ركزنا على الخطاب النقدي الأكاديميّ فلأنّ صنفي النقد الآخرين يفتقران إليه ويحتاجان إلى بعض أدواته في النظر والتحليل دون ما يستلزمه الأخذ بمناهجه ولغته الدقيقة مبدئيّا. وهنا يبرز جلّ النقد الصحافيّ بالخصوص (وكذلك الثقافيّ إلى حدّ كبير) خاليا من الأساس المعرفيّ المطلوب علاوة على الذوق الأدبيّ والإلمام بالنصوص والمعالم والتجارب في تنوّعها.
واعتقادي أنّ النقد الأكاديميّ نفسه يعيش في جلّ الجامعات العربيّة نكوصا كبيرا لعجزه عن متابعة الجديد في التصوّرات الفلسفيّة والنقديّة بعد أن ابتلع "علم الخطاب" جلّ المفاهيم والقضايا التي كانت مميّزة للنقد الأدبيّ. ولولا إدلاء الأدباء، روائيّين وشعراء بالخصوص، بآرائهم في بعض النصوص المنشورة لانحدر النقد الصحافي انحداراً أكبر مما نراه اليوم. فربّما كان أهمّ ما نقرأه اليوم من نقد أدبيّ هو من صنع أكاديميّين وكتّاب لهم تكوين أكاديميّ لكنّهم يكتبون نقدا ثقافيّا لا أكاديميّا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.