وأنت بينما تتساءل عن المعيار الذي يتم عبره السماح لفلان بالعمل وعدم السماح لفلان، خصوصاً في ظل تعطيل كثيرين ممن ليس لهم مواقف مُعلنة في معارضة السلطة السياسية، لن ترى شيئاً واضحاً. القريبون من مطبخ هذه المنطقة يقولون إن الشركة المحتكرة للسوق خفضت سقف الأجور، وبالتالي يعمل من يرضى، غير أنه بالطبع هناك استثناءات لعدد قليل من الممثلين تحبهم السلطة أو تُحب من يهتم بهم، وهؤلاء أماكنهم محجوزة على الشاشة كما هي في المواقع الإخبارية التابعة لنفس رأس المال. وإذا صادفتك جلسة مع أصدقاء يعملون في
هذا التضييق الخانق والإشراف السياسي الذي انتهى من السيطرة على وسائل الإعلام وتفرّغ للعمل الدرامي والسينمائي، لم يعط فرصة كافية لما سمي "لجنة الدراما" بأن تمارس وظيفتها "الأخلاقية" في تنظيف الشاشة وجعلها أكثر بياضاً بشكل لا يضعها في منطقة الهزل، وباتت تقاريرها عن المسلسلات يوماً بعد يوم مثل نكات ثقيلة الظل. خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر:
"أعلن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، برئاسة الكاتب الصحافي مكرم محمد أحمد، التقرير الرسمي الأول للجنة الدراما الذي يتضمن تقييماً للأعمال التي عرضت في الأسبوع الأول من شهر رمضان، ورصد التقرير 949 مخالفة في 18 مسلسلاً... وفيما يلي ترتيب المسلسلات من حيث عدد المخالفات ونوعها:
ـ هوجان: 114 لفظاً سوقياً، و16 مشهد عنف، و2 إيحاءات جنسية، و18 مشهد تدخين، ومشهد شرب مخدرات، و7 لعدم احترام اللغة العربية.
ـ الواد سيد الشحات: 86 لفظاً سوقياً، و7 إيحاءات جنسية و39 مخالفة عدم احترام اللغة العربية.
مملكة الغجر: 88 لفظاً سوقياً، و3 مشاهد عنف، ومشهد إيحاءات جنسية، ومخالفتان لعدم احترام اللغة العربية، و5 مخالفات لتشويه صورة المرأة وأهلها، و5 مخالفات لعدم احترام الهوية المصرية والعربية".
طيب، ما هي طبيعة المصطلحات أو الإيحاءات التي اعتبرها التقرير تقع في منطقة المخالفات؟ الإجابة نشرتها صحف مصرية نقلاً عن اللجنة في أخبار صغيرة صرحت بها اللجنة قبل نشر
تقريرها الشامل:
"رصدت اللجنة الفنية التابعة للجنة الدراما بالمجلس الأعلى للإعلام 8 ملاحظات في الحلقة الـ11 من مسلسل (قمر هادي). وذكرت اللجنة أن المخالفات كانت في كلمات منها: ولا هيشتغل ولا نيله. إحنا في زمن أغبر. لسعه على قفاه وجري. عامل لي فيها شبح. رجاء يا زفت".
نحن إذاً، وبعدما رضينا بالهمّ، نناقش مستوى ما تؤديه هذه اللجنة، بعدما كنا نناقش عبثية إنشائها في العام الماضي، مندهشين من قبول المخرج المعروف محمد فاضل بتولي رئاستها. كنا مجانين تقريباً، لم نزل نتحدث بعد في ما نراه لا يليق بحرية الفن والرأي وما إلى ذلك. كنا لا نرى أبعد من أقدامنا ونحن نعترض على فكرة زيادة الرقابة على الأعمال الفنية، لم نكن ندرك أن عاماً واحداً يفصل بيننا وبين ما نعيش من مسخرة تجاوزت الوصاية المتكئة على مقاومة المؤامرة المُحاكة على مصر وتتسرب بين سطور سيناريوهات الدراما، تجاوزتها إلى الخوف على مشاعر المشاهدين من ربما تكشيرة ممثل في وجه زميله. لم يتبق لها سوى أن تقرأ على صناع العمل من كتاب الله: "ولا تقل لهما أفٍ".
من أين لنا بزرٍ يضغطه أحدنا ليتوقف هذا العبث؟ الطموح لم يعد في أوضاع أفضل، ولكن فقط نأمل في "كفاية.. متبسطهاش أكتر من كده" بتعبير عبد السلام النابلسي. صرنا مدركين لأن القادم، قطعاً، أسوأ. دائرة المُروعين تتسع، و"الغلابة" كلمة باتت تحتاج إلى إعادة تعريف في قواميس اللغة.
تحميل المقال التالي...