}

محمد سبيلا: الحداثة ليست ترفاً مفاهيمياً نتشدّق به

أشرف الحساني 21 مارس 2019
هنا/الآن محمد سبيلا: الحداثة ليست ترفاً مفاهيمياً نتشدّق به
محمد سبيلا
"مدارات الحداثة" (1987)، "الأصولية والحداثة" (1998)، "دفاعاً عن العقل والحداثة" (2002)، "مخاضات الحداثة" (2007).. بمثل هذه العناوين الفكرية الرصينة، التي تحفر مجراها عميقا في التربة العربية وغيرها، صنع الفيلسوف المغربي محمد سبيلا مجد الثقافة المغربية المعاصرة. فهو يعد اليوم أحد أبرز أقطاب الفكر العربي المعاصر ومن الأعمدة القوية، التي ينبني عليها السؤال الفلسفي المغربي إلى جانب كل من عبدالكبير الخطيبي، وعبدالله العروي، وغيرهما من المفكرين، الذين ناهضوا الأصولية الرجعية، التي كانت مستشرية في الجسد المغربي، إبان فترة جريحة من المسار التحديثي والديمقراطي، الذي قطعه المغرب منذ الستينيات إلى اليوم. ولم تظل أفكار محمد سبيلا تقبع في المغرب فقط، بل امتد بريقها إلى كل المنطقة العربية متقاطعة أحيانا مع مفكرين آخرين فيما يشبه التصادي، لتخوض أفكاره امتحانا عسيرا بالمشرق، خاصة مفهومي التقليد والحداثة في أفقهما العربي، وليس الغربي، الذي جعل منهما مدخلا فكريا لمقاربة المنطقة العربية وفك بعض من قيود التقليد والتبعية، التي فرضها الأصوليون منذ حصول بعض البلدان العربية على استقلالها في مطالع خمسينيات القرن المنصرم.
غير أن الأمر الوحيد الذي "أعيبه" على محمد سبيلا وباقي المفكرين العرب، الذين انشغلوا بالدرس الحداثي العربي، هو أنهم ظلوا يحومون حول مفهوم الحداثة في بعده الفكري والتقني، متناسين الحداثة في بعدها الفني والجمالي، بما هي مفهوم أشرع وأفيض من أن تظل حبيسة نفسها في هذه الرؤية الفكرية، وبالتالي جعلوا من المفهوم في مقاربتهم، أشبه بأسطوانة تتكرر في كل المتون الفكرية. إن موقفاً من هذا النوع لقمين في حق الحداثة كما شهدناها تتبلور في
الغرب، والتي طاولت كل المنظومة الثقافية في بعدها الأنثروبولوجي الواسع (إدوارد تايلور)، ولم تظل بذلك متقوقعة حول نسق فكري واحد، لذلك لا نستغرب حين نرى مفكراً من حجم عبدالله العروي يقزم من الثقافة الشعبية والثقافة البصرية الجمالية في تشكيل جوهر الثقافة العربية، بقوله "إذا كان الوجود العربي مركزا في مجموعه في الكلمة، أفليس بالكلمة، أولا وقبل كل شيء يمكنه أن يصنع خلاصه؟".

أفق مفتوح
ضمن برنامجه "طرق ومسارات" استضاف ملتقى الثقافات والفنون يوم السبت 16 مارس 2019 بمدينة المحمدية المغربية المفكر المغربي محمد سبيلا ضمن ندوة علمية، هي عبارة عن قراءة في المشروع الفكري والفلسفي لـ"مفكر الحداثة" محمد سبيلا، بمشاركة كل من الدكتور إدريس كثير، والدكتور محمد الشيكر، الباحث في الفلسفة. وبتنسيق وتقديم من الشاعر صلاح بوسريف. وقد جاء في الأرضية المعرفية للملتقى أن المشروع الفكري والفلسفي لمحمد سبيلا ينطوي "على أفق مفتوح من الأفكار والقضايا، التي رغم اختصاصها بالحداثة والتحديث، فهي تهم صيرورة الإنسان في بعده الأنطولوجي، الذي هو بعد الإنسان الحي، الإنسان اليقظ، الذي لا يبحث عن الهدنة، والاستقرار، أو تستغرقه الثوابت والمنجزات، بل هو إنسان، قلق، لا يفتأ يختلق السؤال تلو السؤال، لينتصر، في النهاية إلى المتغير لا المستقر. فحين نقرأ محمد سبيلا، دون أخذ هذا الأفق في الاعتبار، فإننا سنحجر على فكره وعلى مفهومه للحداثة، التي هي اليوم، قدر لا مفكر منه، لأنها هي الإنسان، وهو يسائل قدره، بل وجوده، بكل ما تحمله كلمة وجود من معان ودلالات... الفكر اليقظ، المشع، الحي، الذي يميل إلى الخلخلة، وتفكير الإنسان في معناه الإنساني، لا البشري فقط، هو ما يتسم به مشروع محمد سبيلا، وهو، حتما، مشروع المستقبل، لا المشروع الماضي، الذي يكون استنفد القدرة على التفكير والابتكار، ودخل غرفة نوم أطبق عليها الصمت والظلام".
استهل الشاعر صلاح بوسريف الندوة بحديثه عن المشروع الفكري لدى محمد سبيلا، في كونه مشروعا نظل نجري خلفه ونتعلم منه أولا كيف نفكر وثانيا كيف نصوغ الأسئلة ثم نبنيها ونؤسس ليس للإجابة عنها، بل من أجل أن نضعها في سياق قلق. فمحمد سبيلا هو مفكر عربي وليس مغربيا، من هنا جاء اختيار ملتقى الثقافات والفنون هذا الشهر، أن يكون ضيفا عليه إلى جانب أسماء فكرية أخرى لها صيتها العربي، هؤلاء الذين يمكن أن نقول إن مشروعهم الثقافي والفكري والجمالي، هو مشروع أصبحت معالمه واضحة ويمكن أن نتلمسها من خلال كتاباتهم.
يقول صلاح بوسريف "حين نتحدث عن الحداثة فنحن نكون في جوهر وصلب ما نعانيه من مشاكل، لأن إشكالية الحداثة، هي الإشكالية التي نحتاج أن نفكر فيها دائما ونتأملها، لأننا في هذه الوضعية نتساءل من نحن اليوم في السياق الكوني؟ فاليوم إذا كنا نستعمل كل التقنيات المتاحة من هاتف محمول وحاسوب وألواح إلكترونية للبحث عن المعلومة والتواصل فيما بيننا، فمجتمعاتنا رغم ذلك ما يزال التقليد يغطي مساحة التحديث التي تجري ببطء، فالحداثة ليست هي التحديث، إذ إن الأولى هي العمق في ما يظل التحديث طافحا على السطح".

تجربة موسومة بالإبداع الفلسفي
تساءل صاحب "هشاشة الفن المفرطة" الدكتور إدريس كثير في مداخلته، التي هي عبارة عن شهادة تجاه تجربة أستاذه محمد سبيلا الموسومة بالإبداع الفلسفي، عن ماهية المفهوم داخل المشروع الفكري لدى سبيلا، انطلاقاً من تمظهراته الثلاثة: اللغة، الترجمة، والمفاهيم والموضوعات. فهو يقصد بالإبداع الفلسفي حسب تعريف للكندي الإتيان بشيء جديد لأول مرة، وهو إنتاج مغاير للمعتاد ولرهانات المستقبل، وهو نفس السؤال، الذي جادل به الأستاذ بعض أطروحات المفكر طه عبد الرحمان في التأصيل والترجمة والتداول والإبداع قائلا

"الإبداع لا يتوقف على مجرد الإرادة أو الرغبة الذاتية في التحقيق، بل هو رهين بشروط أقلها أن تكون لغتنا وثقافتنا قد استوعبتا ونقلتا وحولتا إليهما القضايا والمعاني الفلسفية. إن التفكير الفلسفي عناء عقلي وجهد ذهني وفكر تجريدي مادته الأولية هي الاستيهامات الفكرية، التي قدمها من سبقونا في التفكير". أما في ما يخص الإبداعية في اللغة فأكد الباحث أن لغة محمد سبيلا منتقاة ومختارة، إذ إننا نعثر على الكلمة والمفردة في مكانها لا تزيح عنه قدم الأولى، فهي لغة تفصح عن المعنى وتحفظه. تقول العبارة وتتخذ حمولاتها وضديتها مثل الأيديولوجيا والطوباوية. فبالرغم من أن المفردات معروفة، فهو يحملها معاني ودلالات مخصوصة، بلغة سهلة وانسيابية كما ألفنا مظهرا من مظاهرها في عموده الأسبوعي الشهير بجريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية.
يضيف "اللغة لدى سبيلا ليست توتولوجيا ولا ذات تحصيل حاصل، بل هي حمالة لأوجه وتأويلات. أما الإبداع في الترجمة لدى محمد سبيلا في التحليل النفسي، التقنية والحقيقة والوجود لدى هايدغر، قضايا الفكر المعاصر، نظام الخطاب لميشيل فوكو وغيرها، فتكمن قيمته مما أحسست لحظة كنت طالبا لديه وانتميت إلى خلية ألتوسير، وهي حركة طلابية للذين اختاروا تهيئة بحوثهم في الفلسفة العامة ولم تكن كتب هذا الأخير قد ترجمت إلى العربية آنذاك، فكان علينا أن نقوم بالتمرن مع سبيلا على الترجمة ونقوم بالبحث على المقابل العربي للكلمات مع المحاسبة الدقيقة لذواتنا". أما الإبداع في المفاهيم والموضوعات، فيقول "لقد علمنا محمد سبيلا كل ما كنا في حاجة إليه لتدريس الفلسفة، سواء في الثانوي أو المدرسة العليا للأساتذة ثم في الجامعة. فقد اطلعنا على الفلاسفة ما قبل السقراطيين واحدا واحدا، ثم فصل لنا الحديث عن مدرسة فرانكفورت في شقها التحليلي من دون أن ننسى العصر الوسيط الإسلامي والمسيحي كالقديس أوغسطين والغزالي وابن رشد واستمر على هذا الحال في كل مشروعه الأكاديمي عارفا بمتون ومضانّ الاتجاهات الفلسفية. تملك ذلك الشعور وأنت أمام محمد سبيلا، الشعور التوحدي بالكون أو بما هو أكبر وأسمى منك، بحيث تستمد منه عمقك وعزته". ويختم بقوله "إن تواضع المبدع يلزمه ألا يتحدث عن إبداعه وألا يتباهى به وأن يمر مرور الكرام ولا يمل من الإشارات والتلميحات والإلماعات والاكتفاء بالقول أتمنى أن تلعب هذه المقالات وهي واردة في الشرط الفلسفي المعاصر دورا ما في شحذ الأفكار وتطوير الفكر وذلك هو كل أمل هذه الكلمات".
من جهة أخرى يؤكد الباحث في الفلسفة محمد الشيكر أن كل احتفال بمحمد سبيلا هو في جوهره احتفاء بالحداثة واحتفال بفتوحاتها وانتصاراتها، فإذا "كانت الحداثة تقوم من إشكالات الفكر الفلسفي المعاصر المغربي مقامة الموضوعة الكبيرة فإن الأكثر بروزا ومنظرها الاستراتيجي الأكثر سطوعا يظل بلا منازع الدكتور محمد سبيلا. فهو لم يجعل من الحداثة لحظة أو إطار علمي براديغمي، بل اتخذ منها ورشا لاستشكال الثوابت ومختبرا لمساءلة البنيات والمؤسسات الراسخة في التقليد.. . ومع ذلك يظل الدكتور محمد سبيلا مهتما حد الإلمام بقضايا فكر مختلفة ومتشعبة سياسية وتحليلية نفسية وسوسيوتاريخية وتقنية وسواها من الإشكالات التي تظل قضية الحداثة والتحديث". كما أشار صاحب كتاب "الفن في أفق ما بعد الحداثة" إلى الدور الكبير، الذي لعبه محمد سبيلا رفقة بعض المفكرين المغاربة بعد الاستقلال مثل عزيز الحبابي وغيره في توطيد ثقافة مغربية حداثية تستمد مقوماتها من الفلسفة الغربية، لكن دون أن تنتمي إلى أفقها، مشرحاً تارة الأسس الإبستمولوجية، التي يتأسس عليها المشروع الحداثي لدى محمد سبيلا، ومفسراً تارة أخرى بعضاً من طروحات محمد سبيلا في جملة من الكتب التي تعرض لها بالمساءلة والتفكيك.

السياق التاريخي
أما كلمة المفكر محمد سبيلا، فقد انصبت حول إمكانية موضعة الحديث عن الحداثة في سياقه التاريخي، أي في شروطه التاريخية المغربية، يقول "فنحن نعرف أن أغلب المساهمات المغربية الحديثة ركزت على الحداثة في بعدها الفكري، وهذا التركيز لم يأت صدفة، بل هو

انعكاس للحظة تاريخية"، فالفلسفة المغربية منذ نشأتها ظلت تفكيرا في الواقع الحاضر، أي في دينامية التاريخ، وهو تركيز لإكراه، يعكس سلطة الواقع وقوة الحاضر ومتطلباته وضروراته تستجيب إلى هذا الإكراه وتضعه تحت مجهر الفكر، و"يتابع" الانشغال بالفلسفة ومفاهيمها ليس كترف فكري، يجعلنا في أبراجنا العاجية كما يقال، بل كهم ومشغلة يومية، بما يجعلها تفكيراً في الواقع، متناغمة مع الفيلسوف الألماني هيغل في كون الفلسفة هي الصورة الفكرية عن الواقع واللحظة التاريخية.
يرى محمد سبيلا أن المغاربة فهموا الحداثة في قلب الإنتاج وهو استجابة مباشرة للتاريخ وللمتطلبات الصريحة في برنامج الحركة الوطنية بشقيها الكلاسيكي والتحديثي المرتبط بالقوى التقدمية أو اليسارية، حيث أصبح الاختيار التحديثي اختبارا وطنيا. فالحداثة أصبحت في نظر محمد سبيلا تغتذي من العلوم الإنسانية ومن تحولاتها التي عرفتها هذه الأخيرة، ثم رغبة الفلسفة المغربية في السياقات الكونية، أي الالتحاق بالتاريخ الكوني، فالحداثة "المداهمة" لا تقدم نفسها كحزمة حلول وحقائب جاهزة، بل تطرح نفسها كإشكالية متعددة الجوانب، وتدخل مع التقليد في تنابذات وتصارعات.
وختم محمد سبيلا حديثه كما عودنا الفلاسفة بجملة من الأسئلة الحارقة: هل وسائل تطور الحداثة ثابتة ومتغيرة؟ هل هي مجرد تجدد وتجديد كوني؟ هل هي صيرورة غائية أم صيرورة ذاتية فاعلة؟ هل للحداثة تحقيبات وما علاقة الحداثة بالتقليد؟ هل هي علاقة توتر أم هي استعارية عميقة الدلالة؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.