}

الأدب السوري بين الداخل والخارج.. هل الوطن منفى؟

وداد نبي وداد نبي 2 ديسمبر 2019
هنا/الآن الأدب السوري بين الداخل والخارج.. هل الوطن منفى؟
من اليمين: هنادي زرقة، عمار ديوب، مناهل السهوي
يبدأ المنفى لحظة نغادر رحم الأم، الانفصال الأول عن دفء الحياة القديمة. لكن المنفى بمفهومهِ المتعارف عليهِ اليوم، ارتبط بالاضطرار إلى المغادرة خارج البلد الذي ولدنا فيهِ، ومؤخراً درجَ استخدام مصطلح أدب المنفى بكثرةٍ، وخاصة في الأدب السوري بعد الحرب، حيث تم ربط فكرة المنفى بالخطوة المغادرة الأولى خارج البلاد.

 لكن ألا يمكن النظر إلى التغييرات السياسية والاجتماعية التي طرأت في السنوات الأخيرة، على أنها حولت العديد من الأوطان إلى مناف أكثر قسوة من منافي الخارج؟ ألا يمكن القول إن المنفي لم يعد ذلك الذي يحمل حقيبتهُ ويغادر خارج بلدهُ، إنما ذلك الذي اختار البقاء، أو اضطر للبقاء، وعاش في ظل أصعب الظروف وأقساها، من غياب الأمن والاستقرار، غياب الأصدقاء والأحبة، صعوبة الاستمرار والكتابة في ظل ظروف أمنية وحياتية قاسية؟
هذا الملف الخاص يساجل فكرة المنفى الداخلي، ويسعى لاكتشاف دقة المصطلح من عدمه، وفق رؤية ثلاثة من الكتاب والشعراء السوريين المقيمين في الداخل السوري شديد الصعوبة، وهم الكاتب عمار ديوب والشاعرتان هنادي زرقة ومناهل السهوي.

 

اهتمام بالأدب السوري أم بأدب المنفى؟
ثمة اهتمام ملحوظ اليوم بالأدب السوري في الغرب، وتحديدا بأدب الكتاب المنفيين خارجا، الأمر الذي يطرح أسئلة كثيرة عن سر هذا الاهتمام، وعما إذا كان هناك إقصاء وإهمال، سواء متعمد أم دون قصد، لكتاب الداخل.
يرى الكاتب المقيم في دمشق، والذي يرفض الخروج، عمار ديوب: "أنا حقيقة لا أجد اهتماماً عالمياً وازناً بالأدب السوري، وهو يعاني كما يعاني بقية السوريين من غير المبدعين، أي أن السوريين متروكون لكل أنواع المأساة، والتي لم تنته منذ ثمانية أعوام. وأما اهتمام بعض المؤسسات الثقافية ببعض المثقفين كذلك في أوروبا، فهذا بدوره لا يخرج عن أسماء محددة بعينها، ولم يشكل حتى لحظته ظاهرة حقيقية، أي أن الأدب السوري لم يصبح ظاهرة في ألمانيا أو فرنسا أو أو..".

ويتابع ديوب قائلا عن كتاب الداخل: "لم تعد هناك أعداد كبيرة من المثقفين المستقلين عن دوائر النظام بالداخل، ومن لم يهاجر أو يُهجّر، وهناك فرق بين الأمرين، هي أعداد قليلة، وطبعاً يعانون الأمرين ويلحق بهم التهميش والإهمال والتجاهل، وأول العاملين من أجل التهميش، هم رفاقهم المثقفون في الخارج، حيث يعتبرون كل من بقي بوقاً لدى النظام أو مؤيداً له، وهذه ثرثرات سخيفة ومخجلة، وبالعمق لا يقول بها إلا مثقف ضيق ومحدود. وعدا عن رفاقهم، فهناك الضغط الأمني المستمر، أي الخوف من التواصل مع المؤسسات الثقافية خارجياً، وهناك تفضيل كثير من تلك المؤسسات للمثقفين السوريين في الخارج".
وترى الشاعرة مناهل السهوي: "إننا لا نستطيع اليوم إنكار تأثير البقعة الجغرافية على الأدب، ففي حين تتوافر الشروط الداعمة والملائمة لنجاح كاتب في بلد غربي لأن تلك البلدان تضع الأدب في مقدمة الاهتمامات تغيب في بلدنا هذه المحاولات. وبالتأكيد ستهتم تلك البلدان بالكتّاب الموجودين ضمن حدودها، وهذا ليس بقصد الإهمال، لا أستطيع القول إن هنالك إهمالاً متعمدا، لأنه، ومن خلال تجربتي الشخصية، كان هناك في كثير من الأحيان اهتمام غربي بما أعمل. وأمّا عن الاهتمام العربي، فأعتقد أن الموضوع شائك وبعيد عن أن يكون موضوعيا في كثير من الأحيان لأسباب عديدة، منها الشخصية والسياسية، وحتى الاجتماعية.

ومع ذلك، فإن الأمر لم يكن بهذا السوء مع تجربتي، لكن ما لا شكّ فيه أن الكاتب السوري اليوم في الداخل "ينحت في الصخر" وليست الكتابة رفاهية لديه بل تحد وهبة يكاد يخسرها أو يخسر نفسه بسببها".
للشاعرة السورية هنادي زرقة، صاحبة "إعادة الفوضى إلى مكانها" و"الحياة هادئة في الفيترين"، رأي مختلف، إذ تقول: "قد نختلف على فكرة المنفى نفسها، فالمنفي هو المُبعد قسراً عن بلاده، كثير من الذين خرجوا من سورية لا تعبر كلمة "منفي" عنهم، منهم من اختار طواعية الخروج من أتون الحرب، وهذا حقّه. فبات الحديث عن المنفى سوقاً رائجة، أو ببساطة ورقة عبور للترجمات ومنح الكتابة وحضور المهرجانات الشعرية، وأعتقد أن القائمين على الأدب في الغرب يستسهلون، أو لأقلْ ليست هناك قنوات تواصل مع أدباء الداخل، وهناك أفكار تُروَّج عمّن بقي في الداخل، بمعنى أن جميعهم موالون، وكما نعرف فإن معارضة النظام هي موضة رائجة لتسويق أعمال أدبية بغض النظر عن أهميتها أو جودتها".

 

الداخل.. تواصل أم انقطاع؟
التعبير عن الوجع أو الألم السوري يربطه البعض بالتواجد في المكان المعبّر عنه والتجربة المعاشة، فيما يرى آخرون أن الكتابة عن المكان ليست بالضرورة مرتبطة بتواجد الكاتب الذي قد تسعفه ذاكرته للكتابة، حيث تقول مناهل السهوي إنلكاتب محظوظ بذاكرته، التي يستطيع الكتابة من خلالها، حتى ولو كان بعيداً عن بلده الأم". لكنها مع ذلك، تشير إلى التغيرات الحاصلة في المكان بعد الرحيل عنه،

إذ "لا يمكن إنكار أن الظروف المكانية تتغير، وهناك لحظات جديدة يخلقها الزمن، والكاتب ابن تجربته، فكما أني لا أستطيع الكتابة عن تجربة اللجوء بعمق وصدق، ببساطة لأني لم أعشها، سيكون من الصعب على الكاتب المقيم خارج بلده أن يعيش لحظات بعينها، لكن هذا لا ينفي صدق ما يشعر به، وأظن أن أحد مشاكل المنفى تكمن في أن البعض يجد فيمن يعيشون في الخارج أشخاصاً يصعب عليهم فهم معاناة الداخل. وفي المقابل بعض من في الخارج يجد أن من في الداخل شعوباً لم تضح بما فيه الكفاية كما فعلوا، لذا فمعنى المنفى فيما يتعلق بسورية هو مصطلح معقد للغاية، ولا يشبه مثيلاته في أي مكان، لأن المنفى يوجد في قلب الكاتب داخل وطنه وفي قلبه خارجه وفي علاقته مع المحيط الغريب من جهة والحميمي من جهة أخرى".
لهنادي زرقة رأي مختلف، إذ تقول: "رؤية الأمور من الداخل تختلف عن رؤيتها على شاشات التلفاز. لا يمكن أن تعبر عن الموت ما لم تلمسه، ما لم يتعفر وجهك بالدم، وثمة تفاصيل صغيرة كثيرة ترتبط بحياة الناس في الداخل لا يستطيع الكاتب منا أن يراها ما لم يلتصق بالناس الذين فقدوا كل شيء. وبمعنى ما، فإن مشاركة الناس حياتهم وتفاصيلها المتعبة هي التي يمكن أن تشحن الكاتب ومخيلته".
ويشارك ديوب هنادي الرأي، إذ يقول: "هذا سؤال في العمق، والحقيقة هي أن المثقفين في الخارج يعانون من كارثية المنفى، حيث تبقى الصورة القديمة عن البلد تشكل خيالهم وعقلهم ووجدانهم، والمشكلة أن الذاكرة والخيال و... انتقائية كذلك، وبالتالي يتعرض الكاتب للنسيان، ويضطر لخلق أوهام بديلة بسبب ذلك، وهذا يعني أن هناك إرباكاً حقيقياً في الإبداع ذاته. اختصار العالم بأنه أصبح قرية كونية ومتداخلا و.. ليس صحيحاً، والإبداع بالتحديد، وفي حال كان موضوعه الداخل، يتطلب العيش في الداخل ذاك".

ويشير ديوب إلى إشكالية أخرى يعاني منها حتى كتاب الداخل في علاقتهم مع محيطهم، وهي ما يسميه بالانقطاع، حيث أن "أغلبية الكتاب لا يسافرون بين المدن السورية!، ولكن وجودهم ضمن البلاد، ولقاءاتهم بشللهم الثقافية المتنوعة، وهم من مدن متعددة، يعطيهم مصداقية أكبر ولا شك، وضمن ذلك، كلما كان المكان الذي يعيش فيه الكاتب ضيقاً، كلما ضاقت كذلك رؤيته لمجمل الوضع السوري. ولهذا هناك فرق كبير بين من يعيش بدمشق وبين من يعيش في طرطوس مثلاً، وموضوع المصداقية معقد كثيراً، فكثير من كتاب الداخل لا يستطيعون الكتابة عن مواضيع الاعتقال أو أجهزة الأمن أو رموز السلطة، وهذا يضعف مصداقية أعمالهم بدرجة ما، ولا سيما في حال تناولوا هذه القضايا؛ ومع ذلك يظل كُتاب الداخل أكثر تلمساً وحساسية للتغيرات وللتطورات التي تحدث في الحياة الاجتماعية وأكثر تعبيراً عنها، و"الاجتماعية" هي المرتكز الأول للشغل الأدبي والثقافي بعامة".

 

هل هناك منفى داخلي حقاً؟
هل الصعوبات التي يعيشها مثقفو الداخل من المراقبة والضغط الاقتصادي وضغوط الحرب والسلطات تجعل من الوطن منفى؟
لا توافق هنادي زرقة على هذا الكلام، إذ تقول: "غاب كثير من الأصدقاء، لكنني كوّنت صداقات جديدة تحمل الهمَّ نفسه. صحيح أننا نعاني غياب الأمان، ونعيش حياتنا يوماً بيوم، لكن الأمل في أن نكون معاً في لحظات الضعف والحزن والفرح، يجعلني لا أشعر بالنفي أو لأقل أنا في بلدي، أحيا مع الناس وأموت معهم، ووسائل التواصل الاجتماعي تقرب المسافات، ولا يمكن الحديث عن المنفى مثلما كان منذ 20 عاماً".
ويتفق معها ديوب، إذ يقول: "دلالة المنفى هي الانقطاع الكامل عن حياة سابقة، بينما مثقف الداخل ورغم كل التعقيدات والمشكلات فهو يعيش في عالمه الذي وجد فيه، وتثقف فيه، وكوّن ذاكرته فيه، وفيه يكتب ويبدع، ويلتقي يومياً البائع وسائق سيارة الأجرة، ويرى جاره ويستمع لأصوات مجتمعه، أي أنه يعيش المحيط الذي فيه شكل ويشكل وعيه ويعيد تشكيل وعيه ويبدع من خلاله؛ هذه المسائل تميّز مثقف الداخل عن الخارج ولا شك، وهذا فرق جوهري وكبير جدا".

لمناهل رؤية مختلفة للأمر، إذ تقول: "بالنسبة لي كان المنفى داخليا قبل كلّ شيء، إنه المنفى الذي يتعلق بالكتابة والاغتراب الشخصي، ولا يمكن التغاضي عن منفى الداخل، يكفي أن أنظر إلى الوجوه الفقيرة في الطريق، إلى المشردين، أو الأرامل أو الأسلحة التي تركب الحافلات معنا لأشعر به عميقاً، إني أرى المنفى في الآخر وفي ألمه وفقره وخوفه، المنفى وجد في اللحظة التي عرفت فيها أني خائفة وأني في خطر إن قلتُ حقاً ما يجول في خاطري".

 

الأدب بين الداخل والمنفى
وحين سألنا عمار ديوب إن كان هناك ما يميز الأدب الذي يكتب في الداخل عن الأدب الذي يكتب في الخارج، أم أنه لا فرق جوهرياً، قال: "أدب الداخل أكثر تعبيراً عن قضايا المجتمع الذي يكتب عنه بدون شك، بينما أدب الخارج يتأثر بالمنفى، أي الانقطاع عن الحياة السابقة، وتتداخل فيه تعقيدات كبيرة وشعور بالمسؤولية، والاغتراب، والأخير يعيشه بسبب البعد عن الداخل، حيث الانقطاع، ومع الخارج حيث ثقافته وحياته ومشكلاته مختلفة جوهرياً عن مشكلات الأديب المنفي".

بينما ترى هنادي زرقة أنه "من المبكر الحديث عن الداخل والخارج في الأدب السوري، على سبيل المثال ربما بعد مرور سنوات، معظم من خرجوا قضوا أعواماً في الحرب قبل أن يغادروا، وبهذا المعنى ليست هناك سمات محددة لأدب المنفى السوري".
أمّا مناهل السهوي فترى أنهُ لا فرق جوهرياً، فقد "تتغيّر التجربة فقط ويعايش من في الداخل أمراً لن يجربه من في الخارج مجدداً، والعكس صحيح، الكتابة هي ذاتها، ولكن أجد أن كاتباً في الداخل يستطيع الكتابة عن الألم بطرق متنوعة ومن وجهات نظر مختلفة، وهذا ليس انتقاصاً من الكاتب الذي يعيش خارجاً، لأنه وببساطة باتت علاقته مع الوطن شعورية أكثر منها حسية، بينما من في الداخل علاقته هي مزيج متناقض من المشاعر، ومن الخوف والترهيب المستمر والمخاوف الدائمة وحتى الظلم المباشر، وهذه أمورٌ تتعلق بالأوضاع المباشرة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية".
وتختم حديثها قائلة: "ببساطة الغد مخيف هنا".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.