}

رحيل سمير سيف.. رئيس سينما العاديين

هشام أصلان 11 ديسمبر 2019
هنا/الآن رحيل سمير سيف.. رئيس سينما العاديين
"حجم البصمة التي وضعها سمير سيف بصناعة السينما كبير"
يأمل المرء عادة، مع تناول الأحداث المهمة، في توخي الحياد، ولكن يبدو أنه لا مفر، في حالات الرحيل، من الكلام عن الذكريات أو حتى عن شيء منها. والمخرج المصري الكبير سمير سيف، إن جلس على مقعد بارز بين مقاعد صُناع الذاكرة المصرية وربما العربية، فهو يخص أبناء هذا الجيل بعلاقة تستطيع وصفها، من دون مبالغة، بالشخصية مع كل فرد، هؤلاء الذين تصادف صباهم ومراهقتهم وأول شبابهم مع السنوات التي كانت في قلب تألقه، وأعمال كوّنت مساحة كبيرة من شكل نشأتهم وثقافتهم وميلهم الفني ووعيهم الجمعي على اختلاف مستويات التلقي، حتى أنه قد لا يوجد بين أفلامه المشهورة ما لا نحفظ منه جملة برّاقة أو أكثر. لطالما رنّت هواتفنا المحمولة، مع بداية انتشارها وقبل انتشار الهواتف الذكية، بنغمات من موسيقاه التصويرية.

قبل يومين، رحل سمير سيف، صديق سهرات العائلة، ورئيس سينما العاديين.
ولا يخفى على كل مهتم أو حتى غير مهتم بالسينما العربية، ممن يشاهدون الأفلام ولا يعرفون سوى أسماء الممثلين، حجم البصمة التي وضعها سمير سيف في هذه الصناعة، بمشروع فني يشبه بناءً تتميز شرفاته بالإطلال على أكثر من ناصية. وبنظرة سريعة ستجده من قليلين صنعوا سينما جيدة للجماهير العريضة، في تسييد لحالة فنية خارجة عن حدود قوالب صبّها البعض، وعن التنميط غير المفهومة أسبابه في أن ما يحبه الجمهور الواسع لا يصلح للنخبة والعكس. تلك القوالب التي قسّمت الفن إلى ثنائيات عقيمة: " تجاري أو عميق، قصة أو مناظر، فيلم جمهور أو فيلم مهرجانات". لكننا، أبناء هذه المرحلة العمرية، كبرنا، وصارت لنا بعض السُلطة على رؤوسنا، أصبحنا قادرين على التحدث عمّا أحببنا بصوت عال. هكذا فكرت بينما أتابع رثاء الأصدقاء، شابات وشباب، لسمير سيف كواحد من رفقاء العمر، مستعرضين أعمالاً "جماهيرية" لا تُنسى، وكيف كان، على سبيل المثال، قادراً على إخراج عادل إمام عن سياقه المعروف كنجم صاحب سطوة، والذهاب به لسياق ممثل رائع يجسد ما تريد منه الشخصية، وليس ما يريد منها هو، في أفلام "كسرت الدنيا" بمنطق شباك التذاكر، فضلاً عن كونها أضافت لصناعة السينما.
وبالإضافة إلى منجزه الفني، اُعتبر سمير سيف من أكثر المحاضرين في فنون السينما أثراً في قلوب وعقول تلاميذه. يتكلم الجميع عن كيف كان مُعلماً كبيراً ومُحباً، يندمج في المحاضرة كيفما يندمج في صناعة المشهد. في محاضرات مصورة رأيته يتحرك خفيفاً مُمازحاً بوجه وجسد يتناقض نشاطهما مع سنوات عمره المتجاوزة للسبعين، هكذا، وفضلاً عما تركه للجمهور ولصناعة السينما، ترك لتلاميذه ما تستطيع وصفه بعلم ينتفع به.

من الذاكرة، ودون النظر في "ويكبيديا"، يعني سمير سيف أفلاماً من قبيل: "المشبوه"، "شمس الزناتي"، "مسجل خطر"، "المولد"، "النمر والأنثى"، "الغول"، "الهلفوت"، وهي أفلام كانت، تقريباً، نقلة عادل إمام من ممثل كوميدي إلى ممثل تراجيدي، بل إلى ممثل عشنا سنوات نستغرب كيف جذبتنا مشاهد الحركة التي يؤديها بجسد غير مؤهل على الإطلاق. هنا أيضاً: "احترس من الخط"، "معالي الوزير"، "دائرة الانتقام"، "شوارع من نار"، "عيش الغراب"، "سوق المتعة"، الراقصة والسياسي"، "الشيطانة التي أحبتني"، "المتوحشة"، فضلاً عن مسلسلات أتذكر منها اثنين كانت الشوارع تخلو من الناس ساعة عرضها: "أوان الورد" الذي أحب الجمهور عبره، لأول مرة، الممثل هشام عبد الحميد، ولم يحبه ثانية سوى في "معالي الوزير"، الذي هو أيضاً لسمير سيف، وحضور لافت في الدور الثاني برغم وجود أحمد زكي، بينما في زمن أسبق كان مسلسل "البشاير" البديع، أو كيف أحب الريفي الطيب خفيف الظل أبو المعاطي، العائد من الغربة بثروة كبيرة، النجمة السينمائية سلوى نصار، التي ألقى بها حادث سير إلى حيث يعيش الريفيون، في واحدة من أجمل وأبسط المعالجات الفنية لفروق الطبقة والأفكار، مدعومة بالعواطف الكوميدية لمحمود عبد العزيز، والجمال النادر لمديحة كامل.
كثير من الموسيقى المختارة بعناية لهاني شنودة، شكّلت صورة سمعية في عدد من أفلام سمير سيف، باتساق كبير مع حالة الفن للمتعة والجماهير في المقام الأول، وإدراك لقيمة التعامل مع تطورات اللحظة، والنظر إلى الذوق العام دون تعال، نسمعها فنتذكر، على الفور، عن أي الأبطال تتحدث. أبطال عبّروا دائماً عمّن تستسهلهم الدنيا وتأتي على رؤوسهم نساء ورجالا، الذين هم في مواجهة مع الظلم اليومي فقط لكونهم الأضعف، المهزومين وإن انتصروا في آخر الحكاية، والذين أحبهم العاديون أكثر من غيرهم ولو كانوا لصوصاً أو فتيات ليل.
أية طبيعة للأحوال ستزيل، إزالة تامة، كسرة نفس فتاة ليل استخدمتها الشرطة في عملية أمنية، وإن أحبها الضابط المكلف بالعملية؟ أي تعاطف سيكون كافياً لدعم لص تائب يطمح أن يُترك في حاله بعدما صار بائعاً للملابس؟ كيف سيعيش سعيداً من نجح في الانتقام تماماً من أصحاب ألقوا به في السجن؟ لم ينحز سمير سيف، في أفلامه التراجيدية، للقتامة الكاملة، يلحق أبطاله بخط من نور في آخر لحظة، لكنه دائماً ذلك الخط الرفيع المنطقي، حيث الذين عاشوا مسحولين تماماً، يصعب أن تضيء لهم الدنيا إضاءة كاملة.

# تتر فيلم المشبوه 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.