}

فلسطين في المُتخيّل العربيّ (3/3)

أشرف الحساني 3 نوفمبر 2019
هنا/الآن فلسطين في المُتخيّل العربيّ (3/3)
اللوحة للرسام الهولندي لوكاس فان ليدن (Getty)
ما زالت فلسطين تشكل جُرحاً عربياً لم يندمل بعد، رغم مرور سنوات طويلة عليه، سنوات لم تستطع أن تمحو ذلك القهر والبؤس، الذي رسمته القوات الصهيونية الإسرائيلية على أوجه الأطفال الفلسطينيين، والدماء الكثيرة التي أسيلت في حدائقهم، ومشاعر التنكيل والتصغير والاحتقار والمذلة، التي قوبل بها الشعب الفلسطيني.
وإزاء الصمت شبه المطبق والرهيب اليوم حيال القضية الفلسطينية من جانب معظم الأنظمة العربية، التي يخيل إليها أن أميركا مستعدة دوما للدفاع عن "أمنها" في مقابل صمتها المأجور تجاه الممارسات الإسرائيلية، تُطرح تساؤلات: أليست القضية الفلسطينية هي من علمتنا دروساً في الوفاء للأرض والنضال؟ هل نسينا آلاف التضحيات، التي قدمها كبار المثقفين العرب من مختلف أصقاع البلاد العربية، ممن ظلوا يصرخون باسم فلسطين حتى وافتهم المنية؟ ألم تعد فلسطين تستحق أن تكون نجمة العرب الأولى بامتياز؟
مثل هذه التساؤلات ترجّ كياني في لحظة من اللحظات وأنا أتتبع المسار الفكري والأدبي والفني لدى مثقفين فلسطينيين كثر، مستعيداً الزخم الفكري، الذي دشنه كبار المثقفين العرب حول هذه القضية، التي تحتفظ براهنيتها. وتتبدى لنا ماهية ذلك من خلال آلاف الكتب والجرائد والمجلات السبعينية والثمانينية، التي جعلت من القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها قضية مركزية داخل صفحاتها، فلا يمكن تصور حجم القصص والأشعار والروايات والمسرحيات والأفلام والمعارض الفنية، التي أنجزت حول فلسطين، وما تزال تشكل اليوم وثيقة تاريخية وعلامة بارزة في تاريخ الفكر السياسي المعاصر. وتستحق فلسطين الآن أن نعيدها إلى الواجهة ضمن هذا الملف الخاص مع كتاب ومثقفين عرب لينقلوا لنا ما مثلت لهم في مخيلتهم، سواء في الماضي أو في الحاضر.
هنا الجزء الثالث والأخير منه:


الشاعر خالد الريسوني (المغرب): جرح الذات والتاريخ
حينَمَا كُنَّا أطفالاً صِغاراً نَرْكُضُ بإصْرارٍ في حَلَبَةِ الحياةِ القاسية لكي نثبتَ ذَواتِنا في بحر الزَّمَن المُتلاطم وفي مُعْترك الوُجُودِ المُتَشابِك، كانَتِ الأغنياتُ والأسطورة في المدرسة وفي البيت تصنعُ في مخَيِّلتِنا جرحا حارقا مُتوهِجا ينغرسُ عميقا في الذاتِ مثلما في التاريخ، وكانت فلسطين تتشكلُ مثل اللغة الأم التي نتهجَّاهَا حروفا في الأزقةِ ونتحدَّثُها رغبة في استعادة الحكاية من وميض برق يلتمع في سماء غادرة. كنا نغني في المدرسة بروح الوطنية الصادقة: "فلسطين يا عربيَّة/ يا حرة يا أبيَّة" و"لاقونا على الوادي/ وعلى الوادي جينا/ بعزك يا وادي/ ترمح خيلنا" أو "الأرض بتتكلم عربي..."، وكانت الأغنياتُ تمتزج بكثيرٍ من الحزن والحماس أيضاً، لكننا مع مرور السنوات كنا نضاعف الإحساس بالإخفاق، ونزداد اقتناعا بأن هذا الوطن الكبير تقوده وجوه منتكسة باعت ذاتها للشيطان، وباعت أوطانها في المزادِ بالعُمْلةِ السَّهْلَةِ. في مَرْحَلَةٍ ما من عمري كنتُ مُهَيَّأ للالتحاق بأحدِ التنظيمات الثَّورية لليسار الفلسطيني، لكن الموعد تأخَّرَ وتَبَخَّرَ، وضاعف مِن إحساسي بالإخفاق، وكان أبناء جيلي وما زالوا يعتبرون القضية الفلسطينية قضيَّتَهُم الوطنيَّة الأولى، وكان حماسُهُم الزائد يجعلني أخافُ عَلَى القضِيَّة، وكنا نتلهف على قراءة أشعار محمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو وأحمد دحبور وخالد أبو خالد وعز الدين المناصرة... ونغني معهم لفلسطين رغم الدُّخَان الكَثيفِ الذي ينْبَعِثُ مِنْ قُصور مُؤتمراتِ القِمَمِ والسُّفُوحِ العربيةِ، وكُنَّا نعرف أن فلسطين لن تتحرر على يَدِ شِّرذمةِ الوشاةِ المُتَرَنِّحين والمُهَرْوِلِين، واليَومَ وقدِ انكشفوا عراةً وبلا أقنعةٍ فإنَّ مَشْهَدَهُمْ يبعث على الغثيان وهم يجتمعون لإتمامِ صفقة أسيادهم.

إن قضيَّةَ فلسطين بالنسبة لي شخصياً كانتْ وما زالت جرح الذات والتاريخ، فهي البوصلة لقياس تحقق نهوضنا ونضجنا وكبريائنا وأيضا تحقق انكساراتنا وخذلاننا لذواتنا، بل وموتنا السريري الذي أرى بعض ملامحه الكابوسية المُطلة على هذا الليلِ العربي المُقيمِ. الشعوبُ العربية لن تقبل الصفقات المُذِلَّة لكنَّهَا يجِبُ أن تنتفض لإيقاف هذه المَهْزَلَة، وفلسطين ستستمرُّ معي أملا يستغرقُ العُمْر، وهي أملٌ قَد لا أمسكه بين يديَّ جوهرةً لمَّاعة لكنِّي رَبَّيْتُ الأبناءَ والأجيال بِحُبٍّ أن يصرُّوا على ملاحقته مثلما ربَّانا على ذلك جيلٌ من المعلِّمين والأساتذة الذين وضعوا بين يدينا تلك الجمرة الحارقة التي كلما توهجت منحتنا الحياة والوجود. بدون فلسطين العرب لا يكونون سوى أضحوكة الزمان، لا صوت لهم ولا صدى، أشباحٌ في حكاية منسيّة تغرق في وادٍ من الأوساخ التي لا يغسِلُها التاريخ... فلسطين بالنسبة لي صورة البهاءِ، هِيَ تحققُ ذاتي وصفاتي ككائن في هذا العالم، وكل هؤلاء الأشباح المتآمرون عليها وعلينا إلى مزبلة التاريخ، سوف يلقون الحساب مُرّاً عسيراً، ستصيرُ خياناتهم عبرة، ولن يجدوا من يدافع عن سقطاتهم المدوية التي رَغِبُوا من خلالها أن يُقرِّروا في مصائرِ أمَّةٍ بكامِلِهَا، إنَّ هُؤلاءِ في الأصل لا يستحقُّون حتى الوجود.


الكاتب
كه يلان مُحمد (العراق): جزء من ذاكرة 
كل فرد يتطلع إلى عالم حرّ
فلسطين ليست حاضرة في مخيال الإنسان العربي فحسب بل أيضاً أصبحتْ جزءاً من ذاكرة كل فرد يتطلع إلى عالم حرّ يسوده العدل والمساواة. وإذا بحثتَ في أدبيات الشعوب التي قُدر لها الوقوع في قبضة الأنظمة المستبدة، تجد تفاعلاً على المستوى الوجداني مع معاناة الفلسطينيين ولم تعد فلسطين مجرد قضية سياسية. صحيح أنَّ الجانب السياسي ربما قد غلب على المشهد الفلسطيني إلى حد كبير، لكن ما تعبرُ عنه القضية الفلسطينية أعمق من إطارها السياسي ومفهوم التنازع على الأرض، بحيثُ ترمزُ فلسطين في متخيلنا إلى أن عدم التكافؤ في ميزان القوة لا يلغي الإرادة ولا يمكن طمس ذاكرة الشعب وطي معجمه الثقافي وتضييق رؤيته وحجب أفقه من خلال الإفراط في استخدام القوة. كما كشفت وقائع الصراع المحتدم بين طرفين أحدهما لا يملك إلا رأسمالاً معنوياً توميء إليه الحجارةُ والآخرُ تربضُ في ترسانته الأسلحة النووية، أنَّ القوة تورث وهم الإنتصار العبثي طالما يُثبتُ فشل منطقها يومياً في قهر روحية المقاومة بأشكالها المتنوعة. ويخطيءُ من يقصرُ المقاومة في فوهة البنادق ودوي القنابل. وإن أردنا تحديد ما تفوّق الفلسطينيون في توظيفه للحفاظ على هويتهم وكيانهم الوجودي مع توالي الخسارات والإنهيارات في القيم على الصعيد السياسي والعسكري فهو البعد الثقافي الذي تُمثله أسماء تحظى بالاهتمام على المستوى العالمي. ونتاجات هؤلاء قد دخلت إلى قعر دار الطرف المُعتدي. وقد أشار محمود درويش في حواره المطول مع عبده وازن الذي نشر على صفحات الحياة إلى أنَّ أريئيل شارون قرأ ديوان (لماذا تركت الحصان وحيدا)، ومؤدى هذا الموقف هو أنَّ ما تعجز في تحقيقه سياسياً وعسكرياً بإمكانك إنجازه معرفياً وثقافياً. لا يعترفُ العدو بحقوقك في الحياة الكريمة ويغتصبُ أرضك مُعتمداً على مساندة الدولة العظمى التى تشهر ببطاقة النقض دفاعاً عن سياسة حليفها المُستهجنة غير أنَّ رأس العدو نفسه لا يمكنهُ الهروب من إبداعك أو تجاهله، وفي ذلك تكمنُ أهمية الفعل الإبداعي.

ورُبَّ صوتٍ يقولُ لك إنَّ الإبداع لا يُعيدُ لك الأرض ولا يحمي ساكني المُخيمات من قيظ الحر ولا من غيلة البرد ولا يردع رصاصة العدو. هذا صحيح لكن الأعمال الإبداعية تلهمك وتحدو بك للبحث عن الاختيارات. يسردُ الروائي إلياس خوري قصة رائعته (باب الشمس) وكيف ألهمت هذه الرواية مجموعة من الشباب الفلسطينيين لبناء بيوت من صفيح داخل أراض مُحتلة وأطلقوا عليها عنوان روايته. وما كان من العدو إلا أن شرع بنسف (باب الشمس)، وهذا يظهرُ الخوف من رمزية الإبداع التي يفوق دورها المناوشات العسكرية.
إن كل ما ورد ذكره آنفاً كان الغرض منه الإبانة عن أهمية العامل الإبداعي في الوصول إلى المتخيل. لا تنفعُ صورة الضحية المتداولة على المدى الطويل ولا يصحُ التعويل عليها لاكتساب الرأي العام والتغلغل وصحوة الضمير العالمي، كما أنَّ السياسة ورموزها لا توفر للضحية إلا فضاءً خانقاً بالأمل المزيف وتخفق في بلورة الوعي بأبعاد القضية التي قد تتفرغ من دلالاتها الإنسانية العميقة بفعل تحويلها إلى شعارات شعبوية، ولذلك الرهان يكونُ على الإبداع الذي لولاه ما تغلغلت فلسطين في مخيالنا وما تحولت قضية شعبها إلى رمزٍ للمقاومة. نعم لا يصعبُ عليك أن تعدّدَ أسماء المناضلين الذين عمدوا خريطة وطنهم بالدم لكن فلسطين ستظلُ في مخيالنا مقرونةً بالمبدعين الذين كرسوا البعد الإنساني والوجودي لقضيتهم بحيثُ يتمُ التعامل مع منجزاتهم بوصفها معجماً للبيئة الفلسطينية وتمثيلاً لمكونات الهوية وتطلعات الشعب وبالتالي انعكست هذه الجوانبُ كلُها في مخيلة الإنسان العربي وكل من ينحاز إلى الإنسانية بقطع النظر عن الاختلافات في الهوية والإنتماءات.


الكاتب المسرحي نجيب عبد اللطيف (المغرب):
قضية فلسطين تحتل مساحة 
تفكير في الوعي المغربي ولو في الحدّ الأدنى
مما لا شك فيه أن قضايا الإبداع بشكل عام لا تنفصل عن مآسي الإنسان ومواجهة قدره الغاشم. وبما أن القضية الفلسطينية هي تعبير عن مأساة شعب سلبت أرضه واستحالت قضيته إلى صراع من أجل الوجود، فإن هذه المأساة شكلت بالنسبة للمبدعين المسرحيين الهواة على الخصوص موضوعا غنيا وقضية مثيرة للاهتمام، تشغل بال الممارسين وتحفز طاقاتهم الإبداعية للتعبير عن هذه المأساة.

في هذا السياق، وبعد كل هذا المدى الزمني الذي عرفته هذه القضية وما زالت من دون أن تجد طريقها إلى الحل، أتساءل ما الذي جعلنا نحن جيل الستينيات والسبعينيات، نعانق هذه القضية ونلتزم بالدفاع عنها فنيا أو حتى في أساليبنا النضالية؟ لماذا كان السياق الثقافي والسياسي والنضالي عموما، اليساري بالتحديد، محتضنا لهذه القضية ومساندا لها؟ هل في المعالجة الفنية للقضية الفلسطينية نجيب عن أسئلتنا المحلية والخاصة؟ بل نطرح تصوراتنا للمواجهة والصراع الوجودي الذي من المفروض أن تتضمنه الأعمال الفنية المسرحية؟ لماذا يلاحظ اليوم انحسار وتراجع الأعمال المسرحية التي تتناول القضية الفلسطينية؟ أين تكمن أسباب هذا التراجع؟ هل في تآكل المرجعيات التي كانت توجه الإبداع خلال العقود الماضية، أم في واقع مسار القضية نفسها حينما اختارت تسويتها وتدريجيا تخلت عن عمقها العربي والإنساني؟ أسئلة كثيرة تتناسل، مبعثها رصيد الماضي القريب من تجارب إبداعية تناولت القضية وبقيت خالدة في الأذهان، ثم حضور الهم الفلسطيني لدينا من خلال ما كنا ننخرط فيه من أنشطة فلسطينية كان له وقع كبير في تشكل وعينا. حينما تحل ذكرى يوم الأرض من كل سنة تتحول دور الشباب إلى ساحات فلسطينية تنتعش فيها الذاكرة الجماعية وتتقوى فيها الحماسة للدفاع عن القضية.
خلال الستينيات والسبعينيات كان المد اليساري يستلهم نضالات الشعب الفلسطيني ومأساته الإنسانية، يتخذ منها نموذجا للاقتداء، ولهذا جعل التقدميون اليساريون، القوميون والشيوعيون والاشتراكيون على حد سواء، من المسألة الفلسطينية قضية وطنية. فلا غرابة أن يحقق هذا الشعار انتشارا واسعا في صفوف الشباب والممارسين المسرحيين.
أذكر في هذه المناسبة أننا في أنشطتنا المدرسية كنا نستمع لأشعار درويش وسميح القاسم ومظفر النواب أو نقرأ دواوينهم، وكان من التقليد الفني تشخيص مسرحية "عائد إلى حيفا" المعدة عن النص الروائي للكاتب الشهيد غسان كنفاني، أو بعض نصوص معين بسيسو. بموازاة ذلك لا تكاد تخلو مجلاتنا الحائطية من رسومات الشهيد ناجي العلي.
من جهة أخرى بعض الجمعيات المسرحية، وأتحدث هنا على سبيل الحصر عن مراكش، اشتغلت على موضوع القضية للتعبير عن موقفها ورؤيتها للصراع الفلسطيني العربي ضد الصهيونية والإمبريالية العالمية، وفي ذلك تتقاطع مع مواقف فصائل فلسطينية مشهود لها بنضالية غير مهادنة، ترتكز على الكفاح المسلح لاسترجاع الحق المسلوب.
أحيانا يكون موضوع فلسطين ذريعة للتعبير عن قضايا محلية (الاعتقال السياسي مثلا) شبيهة في مظهرها الدرامي بما يحدث في فلسطين، من سلب للحقوق وقمع ممنهج وطمس للهوية. في هذه الحالة يكون الإفلات من الرقابة عن طريق ربط العمل المسرحي بالبعد الفلسطيني والذي لا يمكن للرقابة الرسمية حينئذ أن تعترض عليه. من البديهي إذاً أنه ما دامت المجتمعات العربية في واقعها المعيش ووضعها السياسي والاجتماعي متشابهة إلى حد ما، أن تجيب الأعمال المسرحية عن أسئلة محلية من خلال واقع فلسطيني.
حينما أحصر كلمتي هذه في ممارسة المسرح الهاوي، فإنني أبتغي بذلك نفض الغبار عن ممارسة مسرحية غنية بالتجارب منفتحة عن النص العربي والفلسطيني بالخصوص. ومن التجارب التي وثقت للذاكرة المسرحية الهاوية بالمدينة أستحضر تجربة فرقة الرحالة وعرضها المسرحي "الحصار" وهو معد عن أحد نصوص معين بسيسو، العرض الذي أكد حضوره الفني ووثق للمأساة الفلسطينية زمن مذبحة صبرا وشاتيلا سنة 1982، ثم تجربة نادي خشبة الحي في مسرحية "لكع بن لكع" للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي.
في أواخر الثمانينيات بدأنا نلاحظ التراجع في التعاطي مع القضية، وهذا أمر كان مخطط له ومدعم سرا وعلنا، وأصبح التماهي مع الأطروحة الإسلامية وشعارها "فلسطين إسلامية" هو الطاغي على المشهد المسرحي. وزخمها المشتد طبع المرحلة وسيطر على الفعل الثقافي عموما. لكنه مسرحيا لم يسجل أدنى حضور حسب اعتقادي وحدود تتبعي للمشهد. في المقابل تراجع المد اليساري وتوارى إشعاعه المعتاد، بل انصرف الفاعل اليساري للاشتغال في الحقل السياسي والنقابي مما فسح المجال للفاعل الإسلاموي المفتقد لتقليد الفرجة المسرحية وصناعتها. من الطبيعي إذاً أن تخبو فكرة اتخاذ القضية الفلسطينية كواجهة للنضال، مقابل هيمنة فكرة الدين كمجال للصراع. ومع ذلك لا زالت قضية فلسطين تحتل مساحة تفكير في الوعي المغربي وحركاته الاحتجاجية حتى ولو في الحدّ الأدنى.


الشاعر خالد بن صالح (الجزائر): الصّهيونية
ليست إسرائيلية فحسب بل أيضاً عربية
لن أنطلق من مقولاتِ الشعراء، ولن أستشهد بمقاطع من رواياتٍ أو قصصٍ وحتّى أفلام وأشرطة وثائقية وأغانٍ كانت وما تزالُ فيها فلسطين وقضية الشعب الفلسطيني حاضرةً، وبشكلٍ يؤكّد أنَّها إحدى قضايا التحرّر الأكثر أهميّة في عصرنا الحالي؛ لكنّني سأتوقف قليلاً عند مسيرات الحراك في الشارع الجزائري منذ 22 شباط/فبراير 2019، وما يقابله في الجمعة الأخرى من مسيرات العودة الكبرى تخليداً لذكرى يوم الأرض والتي تجاوزت السنة وأربعة أشهر، مسيرات سلمية تواجهها قوات الاحتلال الإسرائيلي بالرصاص الحيّ، وبأشدّ طرق القمع عنفاً، والحصيلة أعداد كبيرة من الشّهداء والجّرحى في كل أسبوع. العلم الفلسطيني المرفوع إلى جانب العلم الجزائري في مسيرات الحراك الشعبي في شوارع المدن الجزائرية، يحملُ أكثر من دلالةٍ وربما أهمّها أن الفلسطينيّ هو إنسانٌ مكافحٌ، يتحدَّى بطرقٍ متعدِّدة في المقاومة والنّضال، أشكال الاحتلال من جهة، وأساليب التغيّيب والنسيان من جهة أخرى.

هذا التحدِّي المزدوج هو ما يجعلُ المقاومة في فلسطين تتبنّى أكثر من صورةٍ، وترسمُ لحضورها لوحةً بانورامية تتعدَّدُ قراءاتُها وإسقاطاتها في المتخيّل العربي. وعلى سبيلِ المثال، نعيشُ تراجعاً ملحوظاً في الاهتمام بمقاومة الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل الحرية، في المدارس والمؤسسات التربوية التي - من المفترض – لها أن تُؤسِّس لمبادئ وقيم التحرُّر لدى التلاميذ، حينما ينخرطون في أداء مسرحياتٍ أو أغاني الثورة، أو قراءة قصائد محمود درويش مثلاً؛ أقول إنَّ هذا التراجع فيه شيء من القصدية انطلاقاً ممّا يشهده العالم العربي منذ 2011 من حركات للتحرّر من الأنظمة الشمولية وديكتاتوريات ما بعد الاستعمار في جل بلدان العالم العربي. ارتباط أشكال النضال والمقاومة ورفع مطلب الحرّية يحرّك في الوقت نفسه مخاوف كثيرة لدى الحكّام، وحتّى ثمة منهم من يعمل على جعلِ فلسطين قضيةً طيّ النسيان وأنَّها لا تخص هذا الجزء من جغرافيا العالم العربي، في حين أنها قضية تحرّرية تسافر عبر القارات ولها تأثيرها لدى كل الثّوار الحقيقيّين في العالم.
الصّهيونية هنا، وإن كانت تخُفي فشلَها الذريع، ليست إسرائيلية فحسب، هي أيضاً عربية، وهذه التحالفات مع العدو باتت مرئية وأمام الجميع، إذ ما مِنْ مستورٍ إلاّ وانكشف على شاشاتِ التلفزيون أو مواقع السوشيال ميديا؛ ولا شكَّ أنَّ الفن والأدب والإبداع بمختلف صوره وأشكاله ولغاته يُعتبرُ جزءاً أساسياً في إغناء وعي الشباب العربي اليوم، في مواجهةِ احتلالٍ إسرائيلي، فشلت كلُّ طرقه العنيفة في قمع شعبٍ مناضلٍ متحدٍّ، مع ما يتبعُ ذلك من نقدٍ ذاتيٍّ لكلِّ حركة تحرِّرية، فالخطأ الذي ترتكبه الثورة عادةً هو تقديس ذاتِها عن الخطأ، وهذا ما أوقعنا في خطأ الاستسلامِ لأنظمةٍ شمولية هي وجهٌ آخر من أوجه الاحتلال، إن لم تكن سلطته المُنفّذة.
ربما على عكس الكثير من المتحمّسين أنا متشائمُ قليلاً، ولا أملكُ وسيلةً لدفعِ هذا التشاؤم إن لم تكن مقترنةً، أيْ الوسيلة، بأسئلةٍ جارحة، ومحاولاتٍ لا تلين في إزالة ما تراكم من خيباتٍ، على مرٍّ عقود من الزمن، وأمسى كرواسب كلسية تمنع ماء الحياة من التدفّق.


الكاتب إبراهيم أحمد (ا
لعراق):
المزيج الإبداعي الناضج للحقيقة والحلم
مع نهوض الشعوب العربية من ركام الدولة العثمانية، واندلاع صراع الفلسطينيين والطلائع العربية مع الصهيونية والدول الاستعمارية للاستحواذ على فلسطين، انتقل الثقل الديني والأسطوري الكبير لفلسطين إلى المجال الفكري والأدبي وأخذ يتجلى في قصائده وسردياته ونثره، فصار لها موقع المحور الأساسي، في النشاط السياسي والكفاحي. والرمز الأول لكرامة الأمة وعزتها وقوتها! وبعد أن مني هذا الصراع بخيبات متلاحقة كانت ذروتها هزيمة العرب في 5 حزيران/يونيو 1967 صار الخيال الأدبي العربي يدور حول فجيعة متجددة تعيد ترتيب أحزانها ومآسيها وآلامها عاما بعد آخر، وتتشبث بالأمل والإصرار على مواصلة حلمها ونضالها من أجله! وتجد في الشعر خاصة ثم الرواية والمسرحية انعكاسها المؤثر!

ورغم تصدي الكثير من النقد للاستغراق في الخيال الفلسطيني، والابتعاد عن هموم البلدان العربية ومشاكلها الثقيلة وإبقائها دون حل أو معالجة جذرية وصحيحة، بدعوى الهم الفلسطيني المركزي وجعل هذا الخيال المقارب للرومانسية الحالمة متكأ للكثير من الحركات والإنقلابات العسكرية التي تنكرت لوعودها، فإن هذا الخيال ظل يسكن ضمائر وعقول الكثير من النخب المبدعة والمثقفة بصفته حقا مضاعا ومهدورا لجزء من الإنسانية أنتزعت منهم أرضهم وحقهم في الوجود عليها وممارسة حياتهم كالشعوب الأخرى، بل من زاوية أخرى تعد أرض فلسطين مكان جريمة ارتكبت بحق ملايين البشر ولا يزال مرتكبها يحظى باعتراف دولي وبحماية مسلحة من أقوى المراكز العالمية. حقق الخيال الفسطيني تراكما كبيرا في مجال الرواية والشعر والسينما والمسرح على طريق تأكيد الحق والبحث في جذوره ومظاهره وفي تمجيد التضحيات وسير الشهداء ما يشكل اليوم صرحا إبداعيا كبيرا يعتد به في مضمار الإبداع الإنساني، ورغم ما يحاصره اليوم من تعتيم وتشويه من خارجه أو ما يشوبه من تلاعب أو انحراف وتطرف أو ضلال من داخله فإنه سيبقى برهانا على ما يمكن أن يحققه أصحاب الحق من إنجاز على مستوى الحقيقة والجمال، حيث أضحى الخيال الفلسطيني المزيج الإبداعي الناضج للحقيقة والحلم! 


الكاتب
عبد الدين حمروش (المغرب):
الارتباط بفلسطين يبقى بوصلة
حين يعود المرء إلى نفسه، في محاولته لفهم علاقته بما يمكن تسميته "الهوى الفلسطيني"، سيجد أن هناك أكثر من منفذ تسرب منه الماء "المقدس" إلى شرايين كيانه. بفعل الخطاب الرسمي وغير الرسمي، كانت فلسطين حاضرة على الدوام. وسواء أكانت هذه الشعارات اللصيقة حقيقية أم مجرد مسايرة لتسجيل التعاطف، مثلما ظلت عليه الحال في الخطب الرسمية وبيانات الأحزاب (إلخ)، فإن الارتباط بفلسطين يبقى البوصلة، التي نقيس على هديها مدى صلابة التزامنا التحرري، ودرجة انتمائنا القومي، وبالتالي حجم تشبثنا بعمقنا الإنساني.


فلسطين لم تكن مجرد قضية شعب أعزل احتلت أرضه فحسب، ما ظل يدعو إلى التضامن معه، مثلما يقتضيه الموقف مع الشعوب المستضعفة في دارفور وميانمار أو ما شابه؛ فلسطين صارت أكبر من ذلك وأعمق: التاريخ، الفن، الدين والآداب، بما تستحضر من قيم ثقافية وجمالية وإنسانية، مجرد بواعث على استمرارية الهوى الفلسطيني، أو بالأحرى مجرد "وثائق إثبات" على رسوخ العلاقة في الوجدان. من هنا، جاءت استحالة تصفية "القضية"، على الرغم من تكالب معظم القوى الرسمية، الإقليمية والدولية، على قرار هدر الحق الفلسطيني. يمكن الدخول إلى فلسطين من أكثر من باب: من باب الدين، من التاريخ، من السياسة، من الفن... ومن الأدب بشكل خاص. ومن كل باب نعبره، ما من شك في أنه يؤدي بنا إلى عبور الأبواب الأخرى. فلسطين، هنا، عنصر الفصل بين الحق والظلم، الخير والشر، التحرر والإمبريالية. الأمر يتعلق بسلسلة قيم في مقابل أخرى، وعنصر الارتكاز، بالطبع، لا يعدو أن يكون فلسطين. ولذلك، باتت الأخيرة أكثر من مسألة قومية. إنها مسألة إنسانية، تلتف حولها الشعوب المتطلعة إلى الحرية، من مختلف بقاع العالم. غير أن الباب الذي داومت الدخول منه، شخصيا، كان الأدب الفلسطيني، والشعر منه على وجه التحديد. بعد اطلاعي المبكر، وأنا في المستوى الإعدادي، على قصيدة أحمد دحبور "العودة إلى كربلاء"، لم أكف عن تمثل فلسطين، في ما وصلت إليه لغة الشعراء الفلسطينيين، وصورهم المجازية والرمزية، وقد تأكد هذا الهوى الفلسطيني الناشئ من خلال أطروحتين جامعيتين عن شعراء الأرض المحتلة. وإضافة إلى كون فلسطين عنوانا للتحرر الإنساني، أضحت عنوانا للتحرر الجمالي أيضا. واليوم الحديث عن تيار شعري حديث، ساهم من خلاله الشعراء الفلسطينيون في تثوير الشعر العربي: في بنائيته ولغته وصوره. والواقع أن فلسطين، في حد ذاتها، تحولت إلى صورة شعرية مركزية، تعاقب الشعراء العرب وغير العرب على رسمها بكثير من الدقة والفن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.