}

الشعبوية: "نحن الشعب، فمن أنتم؟".. من المصطلح إلى المفهوم(7/7)

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 9 أكتوبر 2019
هنا/الآن الشعبوية: "نحن الشعب، فمن أنتم؟".. من المصطلح إلى المفهوم(7/7)
الشعبوية: نزعة سياسية تقوم على تقديس "الشعب" (Getty)
منسجماً مع أهدافه الثقافية، ورسالته الأخلاقية، تحمس موقع "ضفة ثالثة"، الذي بات اليوم موقعاً ثقافياً عربياً رائداً، والقائمون عليه، لاحتضان ملف يتناول الشعبوية، هذه الإشكالية الراهنة في تفاعلها مع العولمة في عصر ما بعد الحداثة، الذي تشعبنت فيه العولمة وتعولمت فيه الشعبوية.

تفاجأنا بحجم الاستجابة والاهتمام اللذين قوبلت بهما دعوتنا من جانب عدد غفير من الزملاء الكتاب والباحثين العرب، ليخرج هدفنا عن حدود ملف بـ حلقات معينة إلى ما يشبه ورشة عمل موسّعة تناولت الشعبوية طولاً وعرضاً، نظرياً وعملياً، وحفرت في زواياها المختلفة، والتي نزعم أن كثيراً منها كان حتى اليوم ينتمي إلى حيّز ما هو غير مفكر به عربياً. لذا نأمل أن يكون هذا الجهد المشترك لجميع المساهمين في هذه الورشة/ الملف (مشكورين) قد شكّل مرجعاً بحثياً يضاف إلى رفوف المكتبة العربية الرقمية. نشكركم جميعاً، ونشكر قرّاء الموقع الذين تفاعلوا مع جهود المشاركين في سعيهم سؤالاً، وإشكالاً، للإحاطة بالإشكالية المركزية (الظاهرة الشعبوية)، وساهموا في إغناء الحوار، مما عكس حاجة القراء إلى الإحاطة الوافية بالظاهرة الشعبوية التي باتت تسيطر على المجتمعات في كل مكان، خطاباً وممارسة، والذي يشعرنا بأن تلك الجهود لم تكن عابرة.
يركز الجزء السابع والأخير من هذا الملف على الشعبوية الثقافية، فينبه عبد الرزاق المصباحي إلى وسائط الثقافة ودورها في تنميط الخطابين الشعبوي والنخبوي. أما عبد الله البياري فيحفر بعمق وتفرد في سوسيولوجيا "الحدّ" ممارسة وتداولاً، معلناً إمكانية تأمل سياسات الحدود والمكان والعمران الشعبوي كتمثيل مكاني/مادي لعلاقة القوى على مستوى اللغة والمكان والإدراك، وعليه فإن تفكيك تلك المكانية/الجسدية/العمرانية هو شكل أساسي من أشكال مقاومة الشعبوية. أما محمد جميل خضر (نبارك له صدور روايته الجديدة "نهاوند") فيعالج إشكالية العلاقة بين الشعبوي والنخبوي من خلال أبي الفنون (المسرح)، الذي ظل ينوس بين شعبوية ركيكة ونخبوية معزولة، مستشهداً بتشريح عدد من النماذج التطبيقية.

 

عبد الرزاق المصباحي، ناقد ثقافي مغربي:
الشعبوية مفهوماً ثقافياً
يُوظّف توصيف "الشعبوي/ الشعبوية" بشكل سلبي في الأغلب، فالمعني به متهم ببناء خطاب موجه إلى عامة الشعب بغية تحقيق مآرب سياسية أو أيديولوجية معينة، والحقيقة أن هذا الحد خاضع للثنائية الشهيرة (النخبوي/ الشعبي)، التي بموجبها يتم الإعلاء من النخبوي، الذي يؤسس خطابا مبنيا على مرجعيات نظرية؛ في مقابل الشعبوي الذي يوجه خطابه نحو العاطفة، وخاصة منها الدينية والطائفية والجندرية.
وإننا إذا تأملنا هذه الثنائية من منظور الدراسات الثقافية، سنجد أن مؤسسات النخبة هي التي تبني المفهوم السلبي للشعبي والشعبوي، وإلا فإن جون فيسك، الناقد الثقافي البريطاني، يؤكد أنه "لا دليل على أن ما هو شعبي يدعم الهيمنة"، إذا ما قارناه بالنخبة سواء كانت ثقافية أم سياسية التي لها حساباتها وتوازناتها التي تحرص عليها، ولو استدعى الأمر أن تدعم السلطوية أو تغض الطرف عنها.
فلقد شاع مفهوم "الشعبي" في الثقافة اللاتينية، كما يؤكد دوغلاس كالنر، ليدل على كل ما تنتجه الطبقات الهامشية، قصد مواجهة ثقافة المركز ومنجزها المؤسسي، لذلك ظل مفهوم الشعبي في هذه الثقافة مناهضا للسيطرة والتحكم. وفي الثمانينيات، وبفضل منجز الدراسات الثقافية، صارت الثقافة الشعبية موضوعا للدرس النقدي.
لكن كالنر ينبه إلى خطورة الاحتفاء غير النقدي بكل ما يصدر عن الثقافة الشعبية، فليس بالضرورة أن يكون طليعيا ويناهض التحكم والسيطرة ومعبرا عن التنوع الهوياتي، بل قد يكون في خدمة التجبّر.
وإذا أمكننا في وقت سابق أن نميز بين خطاب النخبوي وخطاب الشعبوي، فإنه بعد الطفرة التكنولوجية وظهور وسائط التواصل الاجتماعي، صار من الصعب أن نميز بين الخطابين، ذلك أنهما صارا يبنيان خطابا بالمواصفات عينها تقريبا، فقد استطاعت هذه الوسائط أن تنمّط الخطابين، وتجعلهما خاضعين لمنطقها.
وهذا النوع من التنميط يسميه الناقد الأميركي دوغلاس كالنر وسائط الثقافة، أي أننا لم نعد إزاء ثنائية (نخبوي/ شعبي)، وإنما أمام مفهوم تقني له إشتراطاته التي يخضع لها كل من يقبلها، ويوقع بالموافقة عليها. ولعل المضمر الأخطر في هذه الإشتراطات ما يمنحه لمستعمليه من سلطة مكذوبة، وقدرة على تدمير الآخرين.

وتمثيلا لهذه السلطة المكذوبة التي يتساوى فيها النخبوي والشعبوي، أنه حدث في الشهور الأخيرة أن أعلنت إحدى الجامعات المغربية خبرا عن مناقشة أطروحة دكتوراه في موضوع "منهجية الحوار في تدبير قضايا الخلاف في ضوء القرآن الكريم إبراهيم عليه السلام والحسن الثاني"، فإذا بتدوينات كثيرة في الفيسبوك من قبل المحسوبين على النخبة من كتاب ونقاد وشعراء و(باحثين)، إضافة إلى رواد من مختلف المشارب تسفه العمل، وتتحسر على واقع البحث العلمي، وتسب الباحث وتتهمه بمحاباة السلطة والتملق للملك الراحل.
كل تلك الأحكام القاطعة والنهائية صدرت دون حضور المناقشة، ودون الاطلاع على المنهجية البحثية التي اتبعها الباحث، ودون معرفة النتائج التي توصل إليها. ما يعني أن النخبة، هنا، خاضعة لمنطق وسائط الثقافة التي تفرض أن تساير الأحكام الجماهيرية، وتغذيها، ولا تخالفها، وإن كانت تفتقد إلى المنطق العلمي السليم التي تدعي امتلاكه.
ومن ثم فالشعبوية التي تنتقدها النخبة صارت سلوكا شائعا في خطابها، إلا من استثناءات قليلة؛ لكونها صارت تعلم أن تحقيق بعض المكاسب سواء كانت صغيرة أو كبيرة، يفترض أن تتماهى مع إشتراطات وسائط الثقافة، وتستعيد الخطاب الجماهيري بغض النظر عن علميته أو واقعيته أو مساهمته في تطوير النقاش العمومي والحياة العامة.



محمد جميل خضر، روائي وإعلامي أردني:
بندول الفن المسرحي يتأرجح بين شعبوية ركيكة ونخبوية معزولة
ينأى (أبو الفنون) بنفسه بعيداً عن الشعبوية بمعناها السطحيّ الركيك.
وفي حين يفرض مصطلح "الشعبوية" مفاهيم جديدة على صعيد المشهد السياسي العالمي، ويتعمّق ارتباطه هذه الأيام بالعنصرية ودعوات المطالبة بنقاء عرقٍ ما مترفعاً عن باقي أعراق الأرض، فإن (شعبوية) المسرح ظلّت منذ إسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيديس وأريستوفانيس وغيرهم، تنشد مخاطبة الجمهور، وصولاً لتحقيق جماهيرية كبرى، حتى لو تطلب الأمر تبسيط مفردات هذا الفن والتخلي عن بعض عناصره التأسيسية مثل الأقنعة والنصوص الشعرية والإضاءة الإخراجية واستخدام السينوغرافيا المرافقة والرقص التعبيري النخبوي وما إلى ذلك.
وكلما دغدغ عملٌ مسرحيٌّ مشاعر الجماهير ولعب على أوتار عواطفهم سواء السياسية أو الغرائزية، كلما قلنا بعقل مطمئن: إن هذا المسرح هو مسرح شعبويّ.
وكلما انحاز عمل مسرحي لجماليات الفن المسرحي وتقنياته الحديثة من بصريات ومؤثرات وموسيقى، وعبّر عن خطابه التطهريّ الإنسانيّ الراقيّ، وخاض بمعرفية وجدانية فلسفية ناضجة في مسائل الخير والشر والعدل والشك واليقين والألم والأمل، كلما قلنا مسنودين بِحُجَّةٍ دامغةٍ: إن هذه المسرح هو مسرح نخبويّ.
وبما أن الوجدان الجمعيّ عند أمة من الأمم، ليس ثابتاً متحجراً كل الوقت وعلى مرّ الأزمان، وبما أن شعبوية المسرح الروماني، على سبيل المثال، تجلّت بما يمكن أن ينسكب من دماء فوق منصة العرض أمام مدرجات تغص بالمستمتعين بالصراع الدمويّ القائم، في حين قد تتحقق شعبوية أخرى بما يمكن أن يلعبه نوع مسرحي من (تنفيس) جماهيري موجّه سياسياً (مسرح دريد لحّام نموذجاً)، وبما يمكن أن يبثه مسرح آخر من عبثية أمام فداحة الواقع المعاش، فيكْرجُ في أعمال من هذا النوع الشتم والازدراء ومعاينة عيوب الواقع وأنظمة الحكم دون أن تقدم هكذا عروض حلولاً ممكنة لما يرزح تحته جمهور عروضهم من أثقال ومآسٍ، فإن الحديث عن شعبوية واحدة هو تغميس خارج الصحن، وبالتالي فإن البحث عن سمات لها تخرج عن نطاق النقد العلمي الرصين.

وكون الفن غير معنيٍّ بتقديم إجابات، كما يرى كثير من الباحثين والمعنيين والمتخصصين، فإن نوع المعاينة المقترحة وذكاءها وحيويتها وجمالياتها، يمكن أن يلعب دوراً في إنضاج لحظة تغيير ما، ويرفع مجسّات التلقي لدى جمهرة النظارة.
عربياً أيضاً فإن (شعبوية) من نوع ما سادت بعد ربيع الثورات العربية، وهي الشعبوية التي تعبّر عن لسان حال السلطات الحاكمة في بلاد العُرْبِ أوطاني من شيطنة لكل إسلام سياسيّ، بغض النظر عن أن ليس جميعه على مذهب واحد. في هذا الإطار قدمت عشرات الأعمال الموجّهة المعبّرة عن أجندات بعينها، دون إجراء أي تغذية راجعة حول ما حققته هذه الأعمال، وهل تسنى لها زيادة الواقفين على شباك تذاكر المسرح (باستثناء تونس وإلى حد ما المغرب والعراق ومصر، فإن معظم الأعمال المسرحية العربية هي عروض في إطار مهرجانات مسرحية تعرض بالمجّان مع قليل جداً من العروض تقدم خارج إطار هذه التظاهرات. فالفن المسرحي العربي هو على وجه العموم، فن نخبويّ يتابعه عدد قليل من المعنيين بالمناسبة أو منظمي الفعالية).
في إطار تعريفه للمسرح الشعبوي، يرى المخرج والأكاديمي الأردني د. محمد خير الرفاعي أنه فن الجماهير، طارحاً في سياق متصل سؤالاً جوهرياً: هل نحن مع الشعب أم مع الفكرة؟ الشعبوية هنا بحسب الرفاعي هي تلمس فكرة موجودة داخل وجدان الناس وتغذيتها مسرحياً "اللعب على وترها، تصعيد دوافعها داخل هذا الوجدان، تكريس وثوقيتها وما إلى ذلك".
وكما يرى كثيرون غيره، يؤكد الرفاعي أن مسرح دريد لحام هو في إطار المشهد المسرحي العربي، نوع من المسرح التنفيسي السياسي الذي يتبع نظاماً معيناً ويحقق أجنداته، فبرأيه لو كان غير ذلك لما مُنح كل هذه السقوف العالية، مستشهداً بما آلت أحوال رفيقيه في مشواره المسرحي (الشاعر والكاتب محمد الماغوط والفنان نهاد قلعي)، ويعزّز رأيه هذا بالموقف (المستهجن) الذي وقفه دريد لحام ضد ثورة شعبه، مديناً لها ومتخندقاً في صف (نظام البراميل المتفجرة).
من جهته، يرى المخرج والممثل المسرحي الأردني زيد خليل مصطفى، أن المشكلة ليست بالإنتاج المسرحي بل بالتلقي الجماهيري، ذاهباً إلى أن النزعة الاستهلاكية التي تسود محلياً منذ سبعينيات القرن الماضي، انسحبت بأمراضها ومظاهرها على الفن المسرحي. مصطفى رفض النظر إلى المسرح اليومي الذي شاع فترة من الزمن، بوصفه مسرح (كباريه سياسي)، رائياً أن هذا النوع الذي أطلقه النمساوي/ الألماني/ الأميركي ماكس راينهارد (1873-1943) لا يشبه بما حققه من محاكاة للناس وقدرة على تلمس أهوائهم ونزعاتهم ويومياتهم، ما يُقدَّم بين الفينة والأخرى في إطار المسمى نفسه ولكن بدسم منزوع محلياً وعربياً.
"المسرح المعلّب، المقولب، غير الأصيل والمُنْبَتُّ عن محيطه، لا يمكنه أن يصنع فارقاً ولا أن يكون لا شعبوياً ولا نخبوياً"، يقول مصطفى، متأمّلاً في سياق آخر تجربة برتولت بريشت أو بريخت (1898-1956) الذي انصهرت يساريّته واشتراكيته مع موجة عارمة من المد اليساري العالمي، فإذا بأعماله تحقق شعبوية من الطراز المضاد لشعبوية اليمين المتطرف. وإذا بها من منظور آخر نخبوية المحتوى والمستوى والخطاب.
المسرح المحكوم بميزانيات حكومات تنظم مهرجاناته وتفرض أجنداته، لا يمكنه، برأيي، أن يحقق أي شعبوية غير تلك التي يريدها من (يدفع للزمار) فأليس هو كما يقول المثل من (يحدد النغمة)؟
في أفق مغاير يتحرك المسرح الأوروبي على وجه الخصوص والغربي على وجه العموم، وبما أتيح له من حرية تعبير وبعد مدينيٍّ ديمقراطيٍّ حقيقي، في مسار مضاد (تماماً) للشعبوية العنصرية التي يعبّر عنها أوضح تعبير هذا الصعود المقلق لليمين المتطرف في غير دولة أوروبية، ويشكّل ترامب صدمته الجارفة الجارحة.
فإذا بمسرح ما بعد الكولونيالية وإذا بأساليب الإخراج ما بعد الكولونيالي ورؤاه تتخذ، بحسب الباحث د. محمد كريم الساعدي: "من مناهضة الخطاب الثقافي الغربي ذات الامتدادات الكولونيالية في تمييز الحضارة الغربية عن الحضارات الأخرى موضوعاً لها". في ظلال هذه المرجعية الأخلاقية الرفيعة، نشأ تيار مسرحي أوروبي وأميركي "معارض للواقعية والطبيعية التي أغرقت المسرح بتفاصيل الحياة اليومية والتصوير الفوتوغرافي للأحداث، دون ردة فعل تجاه ما يحدث من قتل وحروب اجتاحت أوروبا والعالم، لذلك جاء المسرح السياسي الذي عمل على توعية الجماهير، لا سيما الطبقة العاملة تجاه الرأسمالية واستغلالها للإنسان وسيطرتها على الأمم".

الأمثلة في هذا الإطار لا تعد ولا تحصى: مسرحية "راسبوتين" للمخرج الألماني آرفن بسكاتور (1893 – 1966)، مسرح الجنوب الحر في أميركا، مسرحيات الغضب الزنجية، حركة المسرح الحي التي أسسها جوديت مالينا وجوليان بك بعد حرب فيتنام، مسرحية "أسرار وقطع أخرى صغيرة"، التي لم تعتمد على نص مكتوب بل على الارتجال، محتوية على عدد من الإيحاءات ضد حروب أميركا، ومنها الموت الجماعي وانتقاد الرأسمالية من خلال أغنية كلماتها العبارات المكتوبة على الدولار الأميركي، ومن خلال هتافات توضح المشكلة التي يعيشها المجتمع الأميركي في ظل سياسات إمبريالية تسعى إلى إخضاع العالم.
العروض المسرحية ما بعد الكولونيالية لم تتوقف عند حرب فيتنام بل شملت احتلال العراق عام 2003 وما تبعه من أحداث في سجون الاحتلال الأميركي، ومعاملة العراقيين وفق النظرة الكولونيالية القديمة، حيث قدّم المخرج الأميركي أندريا مادوكس ضمن فعاليات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، مسرحية "ما الذي أعرفه عن الحرب" للكاتبة مارجولي شيرمان. العرض يكشف بشاعة الخطاب الكولونيالي الأميركي وصورته المتعالية واستهزاءه بالآخر العربي (العراق)، حيث حاول المخرج من خلال العرض أن ينتقد الحرب الأميركية على الشعب العراقي وتجردها من الإنسانية في معاملتها لهذا الشعب، وفكرة المسرحية تدور حول معاناة امرأة أميركية فقدت زوجها في الحرب، وطفل أميركي فقد أباه فيها. وتناول العمل من جانب آخر معاناة العراقيين وأطفالهم من خلال تعرضهم للإهانات والضرب، ومعاناة امرأة عراقية مسنّة لمجرد تمسكها بحقها. كما تعرض المسرحية صوراً من سجن (أبو غريب) والتعذيب الذي حدث فيه وانتهاك حقوق الإنسان على يد الجنود الأميركيين.
الفرنسي جان بول سارتر ومعظم أعماله المسرحية، مسرح العبث واللامعقول، صموئيل بيكيت "في انتظار غودو" وغيرها، مسرحيات يوجين أونيل، مسرحيات جان جانيه، مسرحيات بيتر فايس، أعمال جوناثان هولمز وجون دكستر وغيرهم، وغيرهم، أمثلة حيّة وناصعة على هذا التضاد بين شعبويتين تدعي كل واحدة منهما أنها صوت الشعب وضمير الناس.
من الأعمال المضادة بقوة وعمق للشعبوية العنصرية، مسرحية "شك: أمثولة Doubt: A Parable"، للكاتب والمخرج المسرحي الأميركي المعاصر جون باتريك شانليJohn Patrick Shanley.
فالمسرحية التي عرضت آخر مرّة قبل عامين (2017)، على مسرح سازاك Southwark Playhouse، تجسد صرخة مضيئة متوارية خلف دهاليز الشك، رافضة الوثوقيات الكاذبة، بدءاً من تلك التي أكدت للشعب البريطاني أن الخروج من الاتحاد الأوروبي في صالحه، مستندة إلى حفنة من الأكاذيب؛ وصولاً إلى تلك التي يرددها علينا دونالد ترامب صباح مساء، وهو يدّعي أنه سيعيد عظمة أميركا المتدهورة من جديد. وأنه "الشعب والشعب أنا فمن أنتم".

مخاطر الشعبوية المرتدية قفازات الرجل الأبيض ألقت بظلالها على مختلف أوجه الحياة الأوروبية، خصوصاً مع تدفق آلاف الهاربين من الموت في بلادهم من سورية والعراق وليبيا واليمن وبلاد عربية وآسيوية وأفريقية أخرى، نحو حواضر أوروبية وغربية أساسية مثل ألمانيا والسويد وفرنسا وإنكلترا وهولندا والنمسا والنرويج وكندا وأستراليا وغيرها. وهي المخاطر التي جعلت العنوان الرئيسي لمهرجان أفينيون المسرحي (لعله إلى جانب مهرجان أدنبرة، من أهم التظاهرات المسرحية العالمية)، هو: "شبح الشعبوية الأوروبية مُخَيِّماً".
هاجسٌ عبّرت عنه بأمانة وفنية عالية مسرحية "أرشيتكتور" من تأليف وإخراج الفرنسي باسكال رامبير (أحد أكثر المسرحيين الفرنسيين الأحياء انتشاراً في العالم)، التي افتتحت الدورة الثالثة والسبعين لمهرجان أفينيون (أقيم ما بين 4 و23 حزيران (يوليو) 2019)، حاملة في طياتها بعض الفرح أيضاً، إذ شارك فيها نجوم من أوساط المسرح الفرنسي من إيمانويل بيار إلى جاك فيبير مروراً بدوني بوداليديس وأودري بوني.
تروي المسرحية التي عرضت في باحة الشرف في قصر الباباوات الذي شهد ولادة المهرجان المسرحي في العام 1947، بأسلوب لا مواربة فيه، قصة عائلة فنانين وفلاسفة ومؤلفين موسيقيين ممزقة في صورة مجازية عن أوروبا المريضة.
تحت عنوان: "المسرح الشعبوي يجب أن يؤخذ على محمل الجد"، يقول الكاتب الإنكليزي مارتن ساندبو في مقال نشرته له "فايننشال تايمز": "لا خلاف على أن الاشتباك بين الشعبوية والعالمية هو حركة مسرحية، لكنه مسرحٌ غرائبيٌّ يعبّر عن الواقع".
بين شعبوية ركيكة ونخبوية معزولة، ما تزال الدقات الثلاث لأبي الفنون تشكّل الإلهام الفذ لمن يحلمون بمنصّة كبرى تجري فوقها محاكمة كبرى للشر والشيطان وأعداء الإنسانية والحياة. وما يزال سعد الله ونّوس يهتف: "إننا محكومون بالأمل".


عبد الله البياري، باحث وأكاديمي فلسطيني:
تفكيك معمارية الشعبوية بين المكان والجسد واللغة (1)
فيما الشعبوية عموماً هي نزعة سياسية تقوم على تقديس "الشعب"، فإن الشعب كمقولة سياسية لا يمكن تحديدها بنفس درجة الحسم التي تدعيها الشعبوية (القداسة بنية خطابية وإدراكية عامودية حاسمة)، ما يدفع تلك الديناميات الخطابية والأدائية إلى إنتاج أشكال مختلفة من الترسيمات لفكرة ومقولة، والأهم، مكان "الشعب"، لضبط - بالمنطق الفوكوي- تلك المفارقة. فنجد، مثلاً، شعار حملة ترامب الانتخابية: "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى! فلنبنِ أسواراً"؛ ويقصد أسواراً تفصل بين الشعب كذات جوهرانية عظيمة، وآخر غريب (ليس) عظيماً، من دون التأمل التاريخي ولا السياسي في بنية الشعب، كمقولة، ولا الآخر كمقولة يفترض أن تكون مقابلة. ومن هنا يمكن تأمل سياسات الحدود والمكان والعمران الشعبوي كتمثيل مكاني/مادي لعلاقة القوى على مستوى اللغة والمكان والإدراك، وعليه فإن تفكيك تلك المكانية/الجسدية/العمرانية هو شكل أساسي من أشكال مقاومة الشعبوية.
يضيء لنا مارتن هايدغر بقوله: "ليس الحدّ ما يتوقف عنده شيءٌ ما، الحدُّ كما أدرك الإغريق ما يبدأ شيءٌ ما حضوره"، وحضور خطاب الشعبوية يبدأ من الحدّ، أي أنّ الشعب (في الشعبوية) يبدأ من الحدّ، وليس في الحدّ، لتصبح مقولة الحدّ الفلسفية والأدائية وحتى المكانية أساساً في تكوين مقولة "الشعب"، على اختلاف تنويعاتها (ترامب نموذجاً).
وإذ ثمة قرابة مطموسة بين المكان والأبجدية؛ فإن سياسات المكان/ العمارة الشعبوية لا تنحصر بين الشعار (السياسي) كلغة، والحدّ - السور- كمكان (لغوي)، بل تمتد إلى خارج تلك المعادلة لترسم شكلاً إدراكياً للذات والآخر، والمكان الذي يجمعهما، ولو أضداداً، وتستند بالأساس على فكرة الحد (2)، وما تستبطنه من فلسفة التعريف بالسلب (3). ولأن "كل ما يحدث لنا؛ يحدث في لغتنا" (هايدغر، ثانيةً!)، لعل تأمل المكان/ العمارة من خلال اللغة هو المدخل المناسب لتأمل المشاهد المكانية للشعبوية حولنا، وكيف نستجيب لها ونتحرك في نصِّها، ونقاومه.
يقول والتر أونغ في كتابه عن "الشفاهية والكتابية" أنَّ "اختراع الطباعة جسَّد العالم في مكان". والكتابة "كسلسلةٍ من الإشارات الصغيرة تسير في خطٍّ منتظمٍ كجيوش النمل، عبر صفحاتٍ وصفحاتٍ من الورق الأبيض"، وهي بالتالي "موضعةٌ محددةٌ لفكرةٍ مجردةٍ". هكذا هي الحال بالنسبة للمكان، لذا فاللغة تنتج مكانها أيضاً، وشعار ترامب الشعبوي كذلك فعل!
يصبح السؤال الأساس حينها: هل يمكن مفاوضة تلك الأشكال اللغوية/ المكانيّة/ المعماريّة للشعبوية، وصولاً إلى تفكيكها متعالين عن ثنائية الذات والآخر الحادة التي انبنت عليها؟
بنى ترامب سوراً على حدود بلاده مع المكسيك، ومنذ أسابيع بدأت مجموعة فنية/ معمارية شكلاً من أشكال التفاوض اللغوي مع مفهوم الحدّ المكاني (السور)، باعتباره فاصلاً لغوياً/مكانياً بين الذات والآخر الذي تنبني عليه أدبيات الخطاب الشعبوي، بأن جعلوا على السور أراجيح للأطفال (يُنظر صورة 1)، ما استدعى تدخّل حرس الحدود ليحمي منظومة اللغة والمكان، و/ أو الذات والآخر، لكن ما الذي قد تفعله القوة أمام كل هذا المجاز(؟)، وهذا التساؤل هو ثقيل بنفس القدر في الجهة المقابلة من السور/الحد/المجاز(!).
خلق هذا الشكل من التفاوض الأدائي مع بنية الحدّ اللغوية/ المكانية (السور) توتراً في مفهوم الحدّ الفاصل في الخطاب بين مكانين، وبالتالي في شكل الإدراك للعلاقة بين الذات والآخر، بما يخلق شكلاً من أشكال القوة البسيطة للعبة الأطفال تلك، لا تستطيع أن تمحوه قوى الطمس (الجيش) (يُنظر صورة 2).

صورة 2 
والعبقري في الأمر، أن تفكيك ذلك الحدّ اللغوي كأداة شعبوية لم يأت من خارجه، كأن يُكسر الحدّ، أو أن يُخترق، فيقع فاعل ذلك في تجريم قانوني (لعبة لغوية أخرى)، إنما من داخل السور/ اللغة/ الحدّ.

الحركية التي أدتها لعبة الأرجوحة بالنسبة لهذا الحدّ (الحدود المكسيكية) هو شكل أدائي من تداول فكرة الحد الفاصل بين طرفين. ونعني أنها تحركت من داخل الحد، وإليه، فهي لم تخل بمنظومة الثنائيّات، الأنا الأميركي، والآخر المكسيكي، فلا يزال كل على "أناه"، لكن خارج الحد، إنما على الأرجوحة، فكلاهما آخره وأناه معاً. بحيث أنها هدمت وغيرت شكل الحدّ ومفهومه العلاقاتي بين الاثنين، بأن مثلت شكلاً مرآوياً يجمع الأنا والآخر الطفلين، في شكل إدراكي أكبر من مفهوم الدولة القانوني في تعريف كلٍ منهما أمام الآخر، فكلاهما طفل، وكلاهما يلعب، وكلهما أنا وآخر.
الأرجوحة هي حركية تقع داخل الحد، باعتباره فضاءً بينياً منفصلاً عن الاثنين معاً، يقوم بذاته بقدر ما يقوم بخلق التعريف السلبي لكل طرفٍ من الطرفين، خارجه.
أنموذج آخر يخلق شكلاً تفاوضياً لغوياً ومكانياً مع عمارة المكان المديني، والتي تتقاطع مع فكرة الشعبوية في أنها قائمة عضوياً على فكرة الفصل بين شيئين/ كيانين جوهرانيين؛ وهما الداخل والخارج، أو العام والخاص، وموضعتهما تقابلياً. فقد قدم الفنان ومصمم الرقصات النمساوي، ويلي دورنر (1959-)، عمله الفني "أجساد في فضاءات حضرية"، مستغلاً الفراغات المدينية البينية في أكثر من مئة مدينة قُدم فيها هذا العمل.

صورة 3


يقوم العمل الفني في أساسه على مشاهد متعددة، تقع داخل الفضاء المديني، مستخدمة الجسد كعلامة سيميائية على العام والخاص والحركة بينهم؛ دون أن يتمرأى الجسد السيميائي بأحدهما. فمثلاً "تملأ" مساحات/ فضاءات/ فراغات مدينية بأجساد بشرية (يُنظر صورة 3)، وفيه يمتلك الجسد المكان ويحرره من تصنيف اللغة وحدودها؛ وتصنيفها القانوني. ومشهد آخر من خلال خلق تداخل بين العام والخاص مستخدماً الأجساد البشرية (يُنظر صورة 4)، أو خلق شكل مادي بالجسد في الفضاء 

صورة 4 
العام (يُنظر صورة 5) بما يخلخل ثنائيات العام والخاص، أو الداخل والخارج، أو حتى الأعلى والأسفل، وغيرهم، مستخدماً الجسد في حالته الرخوة. وهي نفس الثنائيات التي تقوم عليها خطابية الشعبوية لتقمع الجسد؛ قتلاً أو منعاً أو وسماً، كما تفعل الأنظمة، حين تحظر التجول، أو تغلق الفضاءات المدينية.

يضيء العمل الأخير على أحد أهم أدوات الأنظمة العربية في امتلاك الفضاء العام وعسكرته (النظامان السوري والمصري كنماذج فجة). فيصبح الميدان/المكان فضاءً لغوياً/مجازياً حين تريد الدولة استلاب معناه لصالحها، بأن تطالب "الشعب" (مقولة غير معرفة أيضاً) بتفويض النظام لفعل شيءٍ ما، والذي عادة ما يكون عسكرة فضاء مديني عام، وتحويله إلى ساحة حرب، بادعاء "المحافظة على عموميته"، كما حدث مع ميدان رابعة العدوية، في القاهرة، في العام 2013.

صورة 5 


في المظاهرات الأخيرة التي شهدتها القاهرة، وبعيداً عن الجدل عن محركها الإعلامي ومن أين يأتي (ونعني المقاول محمد علي)، وتأويل كل ذلك، لا شك أن ثمة ذكاء ما في أن تخرج الجموع إلى الأرصفة وتحت البيوت لتعلن موقفها الرافض من النظام، وكيف أن دمج الثنائيات التي هي عمومية الفضاء العام وخصوصية المنازل والأرصفة والتقسيم الحضري، لعبت لعبتها في خلق زخمٍ ما للحراك والتجمع، بات أذكى من فكرة تحرير الفضاءات والميادين العامة من السلطة، وهي الفكرة التي رفدت الحراك الثوري العربي في بداياته 2011.

لعل الرؤية عربياً لهذه المشاهدات في تحوّلات المكان واللغة الشعبوية تدفعنا إلى النظر في أمر ثوراتنا التي لم تخب جمرتها بعد، والتي بدأت بأن احتلت أجساد الشعوب - المادية واللغوية - فضاءاتٍ عامة (الميادين كأمكنة، والسياسة كلغة)، وأعادتها للشعب، ثم ما لبثت قوى الدولة العميقة، مستقوية بأنظمة رجعية إقليمية عربية، أن انقضّت عليها لتفرغ تلك الفضاءات العامة من الأجساد والمعاني، مستخدمة في ذلك كل أعتدتها الحربية، والخطابية.
هل يمكن لنا كجيل يصارع في بلادنا تلك الأشكال الشعبوية والرجعية والعسكرية كلها، أن يخلق شكلاً تفاوضياً جدلياً مع واقعنا وهوسه بالحدود والأجساد، يكسر ثنائياته الحادة المفروضة عليها (مقاومة - ممانعة، إخوان - عسكر، علماني - إسلامي، وغيرها) ويخلق من داخلها صوتاً ثالثاً متعالياً، وديناميكياً، قادراً على خلق واقع جديد، يمتلك هو معناه وحقّ الخيال فيه، وليس جسده فحسب؟
أظننا قادرين/قادرات.

هوامش:
(1) هذه المادة هي إضاءة من بحث غير منشور بعد لكاتب هذا المقال عن موضوعة سوسيولوجيا الحدّ كممارسة وتداول، مقدّم للمجلس العربي للعلوم الاجتماعية.
(2)  يجب أن نؤكد أن الحد كفكرة إدراكية وفلسفية لها انعكاساتها وتمثلاتها في الواقع والمتخيل، هي أكبر من تنميطها وحصرها في نموذج الشعبوية؛ فالحد فكرة مستبطنة في بنية اللغة مثلاً، ومفهوم الذات والآخر، والأشكال المختلفة للإدراك، وغير ذلك. وإن تناولها هنا ينحصر في غرض التركيز على حركية الخطاب الشعبوي وديناميات بناء المكان، وليس القصد تناول مفهوم الحد بشكله الأوسع من مفهوم الشعبوية.
(3)  التعريف بالسلب، يُقصد به تعريف الذات بما يغيب عنها مما يعرف الآخر، كقولنا مثلاً: "فلان يميني إذاً أنا يساري".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.