}

إبراهيم فتحي.. كان صرحاً من خيال فرحل

هشام أصلان 5 أكتوبر 2019
هنا/الآن إبراهيم فتحي.. كان صرحاً من خيال فرحل
إبراهيم فتحي ترك خلفه كُتلة كبيرة من الإنجاز

يقول مراد وهبة في مذكراته، عن مفهومه للعلاقة بين الفلسفة والمتلقي: "قالوا، وبئس ما قالوا: هي أحلام حفنة من المفكرين ما أبعدها عن عقول الجماهير! صحيح أن الفكرة في صورتها المجردة لا تنشر العدوى، ولكنها لا تبقى في صورتها المجردة. الشعر والفن والقصص والمسرح، يستنزلها من سمائها إلى ضمائر العامة، حيث تثمر ثمارها المغذية أو ثمارها السامة".

تذكرت هذه الفقرة، من مذكرات وهبة، بينما أستعيد كتاب "العالم الروائي عند نجيب محفوظ" للناقد والمفكر والمناضل اليساري المصري إبراهيم فتحي. ذلك أنني لا أعرف، في حدود اطلاعي، فيما كُتب من دراسات نقدية لمشروع أدبي بعينه أثقل أو أشمل من هذا الكتاب. من ناحية بسبب ما وصل إليه المشروع المحفوظي من مساحة اكتملت وأتاحت للناقد المفكر ما لا يوفره كثير من المشاريع الأدبية العربية، ومن ناحية أخرى بسبب أن صاحب الكتاب هو من قلة قليلة جداً تعبر عن معنى التطور الفكري للناقد الأدبي عندما يعيد الوصل بين الفن في صوره المختلفة وبين فلسفته المجردة ويساعد في توضيح سؤاله، فصنع كتاباً ليس له مثيل. ويحكي الناقد المصري حسين حمودة، الذي كان مقرباً من محفوظ من دون المتاجرة المعتادة بهذه المسألة، أن صاحب "الحرافيش" قال إن الكتاب هو أهم ما كُتب عنه رغم أطنان الدراسات التي تناولته. وبالأمس، قلنا لإبراهيم فتحي وداعاً، حيث رحل في لندن وهو حول التسعين من العمر، البعض يقول أصغر أو أكبر بعام أو اثنين.

ولا يقف كتاب "العالم الروائي عند نجيب محفوظ" على عتبة النقد الأدبي بمفهومه التقليدي، لكنه نوع من الترسيخ لتبادلية العلاقة بين مُرسل الإبداع ومُتلقيه، باختلاف الوعي عند هذا المتلقي أو ذاك، ورصد لفلسفة الإنسانية بأكملها وتطورها في تتبع المراحل التي مرت عليها وبها شخصيات محفوظ وعلاقتها بأزمنتها وأماكنها وببعضها البعض، وكيف تقدم بعض مراحل إنتاجه رموزاً لمأساة الإنسان في العصر الحديث.

يتساءل: "هل تشكل المرحلة الأخيرة من إنتاج محفوظ، التى سميت بالمرحلة الفلسفية أو الفكرية، انقطاعا في استمرار عالمه الروائى القديم؟، هل يمكن اعتبارها تطورا جديدا يقدم رموزا لمأساة الإنسان فى العصر الحديث، هل كان عالمه القديم تعبيرا عن علاقات راسخة مستقرة مرصوفة الشوارع، تزرعه شخصيات ترتدي أخلاقيات قاطعة التحدد، وتدوّن معالم حياتها النفسية فى بطاقاتها الشخصية، بينما أصبح عالمه الجديد تعبيرا عن وضع انتقالي يملؤه التطفل للنائمين يتثاءبون أسئلتهم عن معنى الحياة؟". وكيف نجد أنفسنا، أحياناً، أمام صورة شاملة للعلم والتاريخ. صورة لا تخلو "من مثاليات وتضحيات مبرقشة الألوان، نراها ممتدة على طول الروايات التى تأخذ، فى أحد محاور الاستمرار، تتبعاً لشجرة أنساب عاشور الناجي في الحرافيش أو السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية".

ويظل كتاب "العالم الروائي عند نجيب محفوظ"، بكل أهميته، هو أحد أعمال صاحبه وليس كل أعماله، فضلاً عن مُجمل تاريخه المضيء، وإسهاماته في العمل الثقافي والسياسي على مستوييه النضالي والحزبي، ذلك أن إبراهيم فتحي يعني عدداً من المؤلفات المهمة، منها: "كوميديا الحكم الشمولي" و"الخطاب الروائي والخطاب النقدي في مصر" و"القصة القصيرة والخطاب الملحمي عند نجيب محفوظ" و"سول بيلو: انفصام شخصية الروائي اليهودي"، بالإضافة إلى عدد من الترجمات، حيث كان يجيد الإنكليزية والفرنسية، منها: "الماركسية وأزمة المنهج" و"هنري كورييل ضد الحركة الشيوعية العربية"، أما على المستوى السياسي، فهو أحد أهم مفكري الحركة الشيوعية المصرية، فضلاً عن كونه قائد تنظيم وحدة الشيوعيين، وأحد المؤسسين الرئيسيين للتنظيم الشيوعي المصري الذي تطور إلى "حزب العمال الشيوعي" في السبعينيات.

ربما أن العزاء الحقيقي في رحيل إبراهيم فتحي هو كونه ترك خلفه كُتلة كبيرة من الإنجاز الثقافي الحقيقي الباقي في المكتبة العربية، إضافة إلى فضله الكبير في تقديم واكتشاف عدد من أسماء صنعت الثقافة المصرية في السبعين عاماً الماضية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.