}

فلسطين في المُتخيّل العربيّ (2)

أشرف الحساني 23 أكتوبر 2019
هنا/الآن فلسطين في المُتخيّل العربيّ (2)
ما زالت فلسطين تشكل جرحاً عربياً لم يندمل بعد(Getty)
ما زالت فلسطين تشكل جرحاً عربياً لم يندمل بعد، رغم مرور سنوات طويلة عليه، سنوات لم تستطع أن تمحو ذلك القهر والبؤس، الذي رسمته القوات الصهيونية الإسرائيلية على أوجه الأطفال الفلسطينيين، والدماء الكثيرة التي أسيلت في حدائقهم، ومشاعر التنكيل والتصغير والاحتقار والمذلة، التي قوبل بها الشعب الفلسطيني.

وإزاء الصمت شبه المطبق والرهيب اليوم حيال القضية الفلسطينية من جانب معظم الأنظمة العربية، التي يخيل إليها أن أميركا مستعدة دوما للدفاع عن "أمنها" في مقابل صمتها المأجور تجاه الممارسات الإسرائيلية، تُطرح تساؤلات: أليست القضية الفلسطينية هي من علمتنا دروساً في الوفاء للأرض والنضال؟ هل نسينا آلاف التضحيات، التي قدمها كبار المثقفين العرب من مختلف أصقاع البلاد العربية، ممن ظلوا يصرخون باسم فلسطين حتى وافتهم المنية؟ ألم تعد فلسطين تستحق أن تكون نجمة العرب الأولى بامتياز؟
مثل هذه التساؤلات ترج كياني في لحظة من اللحظات وأنا أتتبع المسار الفكري والأدبي والفني لدى مثقفين فلسطينيين كثر، مستعيداً الزخم الفكري، الذي دشنه كبار المثقفين العرب حول هذه القضية، التي تحتفظ براهنيتها. وتتبدى لنا ماهية ذلك من خلال آلاف الكتب والجرائد والمجلات السبعينية والثمانينية، التي جعلت من القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها قضية مركزية داخل صفحاتها، فلا يمكن تصور حجم القصص والأشعار والروايات والمسرحيات والأفلام والمعارض الفنية، التي أنجزت حول فلسطين، وما تزال تشكل اليوم وثيقة تاريخية وعلامة بارزة في تاريخ الفكر السياسي المعاصر. وتستحق فلسطين الآن أن نعيدها إلى الواجهة ضمن هذا الملف الخاص مع كتاب ومثقفين عرب لينقلوا لنا ما مثلت لهم في مخيلتهم، سواء في الماضي أو في الحاضر.
هنا الجزء الثاني منه:

 

الروائي حميد ركاطة (المغرب): فلسطين الشعرة التي
قصمت ظهر رقعة جغرافية تمتد من الخليج إلى المحيط
قد لا يجادل أحد اليوم في كون القضية الفلسطينية سياسيا هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وأقصد هنا ظهر رقعة جغرافية تمتد من الخليج إلى المحيط. لقد تضاربت آراء الساسة ومواقفهم بين مؤيد ومعارض ومحايد، صورة تبرز بجلاء للجميع. لكن واقع الأمر يؤكد على أنهم اتفقوا جميعاً على بيع الأرض واستعباد الشعب.

وإن كان هذا الطرح السياسي قد لا ينجلي بوضوح إبداعيا ما دام الأمر يتعلق بمواقف فئات عريضة من الشعب ليس لأصحاب السلطة عليها من قرار، فهي تعبر إبداعيا عن مواقفها الثابتة بشكل صريح سواء تحكم فيها الواعز الديني، أو الأخلاقي، أو الإنساني، أو القومي، وخطت حساباتها بعيدا عن المواقف السياسوية الضيقة. وهو ما تمثل إبداعيا في العديد من الأعمال الفنية والأدبية التي وجدت صدى لها من الشرق حتى الغرب. وخلقت إجماعا لم تنل شرفه العديد من القضايا القطرية، أو الجهوية.
صورة فلسطين إبداعيا يمكن النظر إليها حسب وجهة نظري المتواضعة من خلال تحقيب "جيلي"، ومن خلال محطات أعادت للأذهان وجع الأرض والإنسان، كلما خفت بريق المقاومة، أو طفت على الساحة قضايا إقليمية أخرى، أو استعرت حروب جديدة تشد الانتباه بشكل كبير.  في خضم هذه التقلبات تأرجح التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية عربية أولى، ليتم نسيانها أو تجاهلها بشكل بغيض، ويتحول الصراع العربي الاسرائيلي إلى صراع فلسطيني إسرائيلي يتخذ صفة القضية المحلية، ليتم تمييعه بالبحث عن أكثر من مسوغ وتبرير للتطبيع مع العمل على تدويله.
لقد كشف التحولات السياسية داخل الوطن العربي عن تحول في الأولويات على مستوى التناول الثقافي. صور الوجع القاتل من خراب، ودمار، وقتل، وإبادة، تمكنت وسائل الإعلام عبر امتدادنا الجغرافي من جعلها مشاهد مألوفة، بل تدخل في حكم الاعتياد، نظرا لطول أمد العديد من الصراعات الإقليمية العربية التي اتخذت في الواقع طابع صراع دولي بين قوى عظمى داخل مجال جغرافي غير بعيد عن أرض فلسطين. صراعات زادت من هموم المبدع العربي الذي بات أمام قضايا متعددة، لكل منها خصوصيتها. فبعدما كان الشعراء العرب يتغنون بالقضية الفلسطينية، أضحوا اليوم قاب قوسين من البكاء على أطلال بلدانهم المدمرة بفعل الحروب كما في العراق وسورية واليمن وليبيا أو بسبب ما بات يعرف بالانتقال الديمقراطي كما يحدث في الجزائر، والسودان، أو بسبب التحولات الداخلية المقلقة في بلدان أخرى كمصر وتونس، والمغرب، أو باشتداد التوتر بين دول الخليج، دون أن ننسى تداعيات القضية الإيرانية والصراع السني الشيعي... هذه التحولات التي شملت المجال سيكون لها لا محالة تأثير كبير على القضية الفلسطينية إبداعيا.  كما ستكون لها تداعيات سلبية على المستوى الطويل. فهل يجدر بالفلسطينيين القيام بانتفاضة جديدة تحرك مشاعر المبدعين وأقلامهم في العالم العربي من جديد؟
تكشف الأحداث يوميا عن قضايا جديدة، وتعري أقنعة العديد من الساسة والقياديين إزاء قضيتهم المصيرية. كما تكشف عن تواطؤ هؤلاء وتورطهم في قضايا مشبوهة مع العدو الاسرائيلي المحتل. وتبرز أن الصراع المحتدم بين مختلف الفصائل هو صراع حول السلطة ليس إلا، وهو ما يعمل على تفاقم الوضع، وإفقاد القضية بريقها الإبداعي في أعين الغير. فمسألة الإبداع تتأسس عاطفيا، وتنسج أواصرها الفكرية ضمن مشاريع ثقافية كبرى تشمل الإنسان والمجال والتاريخ، والمصير المشترك. فهل يا ترى لا تزال هذه المشاريع سارية المفعول أم أن الأمر لا يعدو كونه مجرد احتفال صوري كلما حلت ذكرى يوم الأرض؟

 

الروائي سليم البيك (فلسطين): من محاسن الأدب
الجديد أنّنا كفلسطينيين لسنا "سوبرمانيّين" فيه!
لا يمكن لأي مسألة أن تكون معزولة عن سياقها التاريخي، وذلك يشمل القضية الفلسطينية التي عاشت، بثورتها المعاصرة في السبعينيات تحديداً، بريقاً وازته الانتفاضة الأولى ثم اختفى، وإن استمرّت أوجه المقاومة بأشكالها حتى اليوم، لكن الثورة المعاصرة وانتفاضة الحجارة كانتا ذروة البريق النضالي للفلسطينيين. وأنواع الإبداع العربي المتناول للقضية ليس بعيداً عن ذلك، ليس بعيداً عن السياق التاريخي الذي تمر به القضية اليوم، وهي في أسوأ مراحلها وقد صار التطبيع العربي علناً و"مفخرة!".

الأعمال الإبداعية هي بشكل من الأشكال، انعكاس للواقع، أو هي انعكاسُ انعكاس الواقع في ذهن المُبدع، فيكون الحديث عن القضية الفلسطينية، إن حصل، يائساً وغير مغرٍ للمبدع العربي، نضيف إلى ذلك (كظرف ذاتي) مسائل لا تقل أهمية (ظروف موضوعية) تتعلق بالحال العربية المتأزمة إثر الثورات المضادة، وهو تأزّم غير عادي، إذ أتى بعد جرعات أمل كبيرة انطلقت مع 2011 وبدأت تتلاشى مع تسليح الثورات وأسلمتها، ولاحقاً بخنقها من قبل أنظمة الثورات المضادة الأشد طغياناً من الأنظمة التي قامت عليها الثورات. أين نحن والبريق إذاً، وكل ما حولنا يدعو إلى التشاؤم؟ هذا السرد السريع يقول لمَ - برأيي- انطفأ بريق فلسطين في الروايات والأفلام العربية خلال السنوات الماضية. لكني أذهب أكثر من ذلك، فللمبدع العربي هموم خاصة، وطنية محلية أو شخصية، من الطبيعي أن تكون أولوية لأعماله، لسبب بسيط يتعلق بطبيعة الإبداع وهو أنّ تلك الهموم هي التي يعيشها أو يعرفها أو يتأثر بها. إن عدنا إلى السبعينيات، ستكون الثورة الفلسطينية وقضيتها هي أولى تلك الهموم للعربي غير الفلسطيني (المعني بالسياسة والمتفاعل معها، وهي حال أهم ومعظم المبدعين آنذاك)، فتجد نتاجات أدبية وسينمائية وبحثية عدّة أنجزها عرب. الأمل الذي شكّلته الثورة آنذاك كان رافداً لعمليات إبداع لا تُحصى. أكثر من ذلك، ما الذي نقرأه ونشاهده في الأعمال الفلسطينية اليوم؟ ما هو الفلسطيني اليوم في الأفلام والروايات؟ هو انعكاس لواقع ليس الفلسطيني فيه بأفضل حالاته، فحضور فلسطين (كقضية وفكرة وحياة) في الأدب والسينما الفلسطينيين، خلال السنوات الأخيرة، انعكس على سوداوية وتشاؤم وهشاشة أكثر مما فعل في الأزمنة السابقة، ولا علاقة لذلك بهِمّة المبدع، إنّما بحال هذه "الفلسطينية" التي يعيشها المبدع كغيره، فالبريق المقصود هنا، هو ليس حضور الموضوع في الإبداعات من عدمه، بل هو كيفية هذا الحضور، إن حضر. ولا يستوي كلامي هنا إلا بالإشارة إلى أن لا حكم قيَمياً فيه، فالبريق ليس قيمة مُضافة، فالروايات والأفلام أجمل - برأيي- إن نقلت مهمَّشاً ضعيفاً مكسوراً، من أن تنقل بطلاً. من محاسن الأدب الجديد أنّنا، كفلسطينيين، لسنا "سوبرمانيّين" فيه.

الباحث والمترجم سعيد بوخليط (المغرب): فلسطين
حافظت دائماً على حيز خاص استثنائي
حينما نتلفظ كلمة فلسطين؛ أعتقد ليس فقط ضمن السياق العربي، بل ولدى مختلف المجموعات البشرية المقهورة؛ فإننا حقيقة لا نستحضر فقط جغرافية معينة أو انتماء حضاريا مجردا، أو أنثروبولوجيا هوياتية قائمة الذات.
عند قولنا فلسطين؛ نقصد حقيقة أفقا تاريخيا متجذرا في الماضي ومنفتحا لانهائيا على المستقبل غير المكتمل. يتضمن الإنسان والنبات والحجر والحيوان والهواء والمطر والصباح والليل والأزمنة والأمكنة….
صحيح؛ سمعنا ثم علمنا فيما بعد أو عاينا تجارب شعوب حرة بالقوة والإمكان، انبجست ثانية بكل أنواع الحيوات من كومة جلدها: كوبا، فيتنام، الجزائر، جنوب أفريقيا …. في خضم منظومة الأحرار، الذين يستحقون الحياة وتستحق وجودهم، حافظت دائما فلسطين على حيز خاص استثنائي.

هكذا، تربينا ترعرعنا، تعلمنا، عشقنا، رقصنا، أنشدنا، حزننا، انتفضنا، صرخنا، تمردنا، رحلنا... كتبنا الخواطر، عزفنا القيثارة، ارتدينا الكوفية، ارتكنا إلى أدبيات الثورة، والأهم أننا اكتشفنا بعد كل شيء بشرا استثنائيا؛ غيرنا نحن باقي البشر: غيفارا، بن بركة، أبراهام السرفاتي، مانديلا، عمر بن جلون، جورج حبش، خليل الوزير، ناجي العلي، محمود درويش، غسان كنفاني، أحمد قعبور، الشيخ إمام، محمد نجم، فيروز، مارسيل خليفة... المنظومة الثورية لـ: البندقية يمنة وغصن الزيتون يسرة….
طبعا؛ قائمة هؤلاء المعلمين الأفذاذ المعلومين ليست سخية، لكن المجهولين الذين شربوا الترياق من نفس المنبع، تصعب الإحاطة بهوياتهم: من قوافل الشهداء غاية حشود اللاجئين وآلاف المعتقلين المتعفنين داخل أقبية السجون الإسرائيلية، الذين لم يعرفوا للشمس سبيلا منذ أمد بعيد؛ مع أنهم لم يعشقوا في هذا الكون؛ سوى مداعبة خيوط أشعة الشمس.
أول ما عرفت فلسطين بداية الثمانينات عن طريق أثير خبر التقطته من المذياع المغربي. ذاك اليوم البعيد؛ تحدث الخبر مرارا عن مجزرة صبر وشاتيلا، حيث ذبح أشخاص أبرياء ينعتون بالفلسطينيين، من الوريد إلى الوريد، دون رحمة. طبعا وقتها انعدمت الصورة الفاضحة تماما؛ وعلى الخيال التحليق حتى يلملم ما يمكن لملمته. لكن فقط؛ يكفي أن تلتقط أذناك وقع ذبح وأنت طفل صغير، كي تشعر بنيزك هائل يقتلع رأسك ثم تتشظى أطرافك إلى غير رجعة.
باستمرار أخبرتني أمي، التي غادرت حجرات المدرسة باكرا جدا، ووعيها السياسي بِكرا على نحو خالص، بأن أبي التقني في مجال بعيد تمام البعد عن السياسة ذرف دمعا موجعا على طاولة الأكل، حينما صدح مذياع البيت الصغير بالخبر التالي سنة 1969: أحرق المسجد الأقصى. ربما علمت أمي بوجود فلسطين والسياسة عموما بواسطة أبي. ثم اكتفت منذئذ من السياسة والناس جميعا، بسؤالها الاستنكاري: لماذا حدث ذلك؟.
ثم توالت المجازر والهزائم والانهيارات؛ وبين طيات ذلك، تناسلت الدورة البيولوجية لمؤتمرات النظام الرسمي العربي. حقا وبصدق؛ كنا نلتئم أمام التلفاز أو محلقين حول المذياع؛ كي نتابع تلك الخطب بشغف وثقة وتطلع تجذبنا آمال قومية عريضة من التحرير إلى التثوير فالتطور ثم الارتقاء وجهة مصاف القوى العالمية الاستعمارية الراعي الرسمي للدولة الإسرائيلية المحتلة والتي أوجدتها هناك وغرستها قصد تكريس مصالحها الجيواستراتجية. غير أنه مع مرور السنوات، تناثرت جل أوراق التوت.
خلال موسم السنة الثانية إعدادي، دأب أستاذ اللغة العربية على افتتاح بعض حصصه، بإنشاد قصيدة سعيد عقل: زهرة المدائن. وأخبرنا آنذاك عن مغنية لبنانية، صارمة الملامح مما أضفى على جمالها كاريزما، لا تليق سوى بسيدة لا تبتسم قط ولن تبتسم على الأقل، يضيف، وهي تغني أمام الجمهور ''احتجاجا على الوضع العربي". حثنا على حفظ القصيدة وضرورة ترقب مصادفة الأغنية.
مع كل الأعياد الوطنية؛ ظلت فلسطين حاضرة جسدا وفكرة، أصبحنا نردد مقاطع تحتفي بالوطن والجماهير والأرض والأم والقرية والفلاح والعصفور والطفل والسجن والمنفى…. لقد تربصت بنا مختلف معاني القضية.
أمام أبواب مدرجات الجامعة، وضمن الأوراش النقابية والتربوية للمنظمة العتيدة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، لم يكن أي نقاش حول فلسطين، يتغافل عن حقيقتين جوهريتين:
- حتما آيلة للسقوط تلك الأيديولوجية الصهيونية، كما حدث بالنسبة لمختلف التوتاليتاريات العنصرية المتطرفة والعدمية.
- العلاقة الجدلية بين تحرير فلسطين ثم تحرر الشعوب العربية من أنظمة حكمها الرجعية. إنهما ضدان لن يلتقيا أبدا. ما دامت فلسطين هي الدولة الوطنية والديمقراطية والمؤسسات الفاعلة والعدالة المجتمعية. برنامج نضالي متكامل الأطراف؛ يقتضي معركة قوية ورحلة طويلة النفس.

 

الفنان التشكيلي كريم سعدون (العراق):
وجع العربي المُزمن
تحتل فلسطين محورا مركزيا في المخيال العربي كونها القضية التي تشكل وجع العربي المُزمن ومؤشر الاطمئنان الوجداني له ورغم أنها كقضية حية لم تسلم من طروحات السياسة وألاعيبها وتقلباتها عبر عقود الا أنها لم تتحول من ذاكرة حية الى نسيان بالسهولة التي افترضها المقابل وحجم التحديات التي سلطها عليها فاستمرت حية وملهمة، ويختزن المتخيل العربي تاريخا من النتاج الثقافي بشكل عام والذي تعرض هو أيضا لتحولات تناسبت مع التحديات التي واجهتها، وهذه التحولات يمكن تلمسها عبر عتبات محددة يشار لها بوحدات زمنية بدءاً من كونها قضية عاطفية تلهب المشاعر والأحاسيس تحرض على فعل المقاومة والتضحية إلى قضية وجدان وقضية هوية.

يمكننا أن نقول إن فلسطين في بداية نكبتها شكلت عتبة أولى ألهمت المخيال العربي إنتاج رموزها التي تميزت بطرحها المباشر كمعادل سردي يؤشر الحدث ويرسخه في الذاكرة بشخصية المُهجر وأضحت القدس وقبة الصخرة تركيزا لبعديها التاريخي والمقدس ويعد ذلك تمثيلا للحاجة الفعلية التي تمليها قسوة الحدث وجسامة المأساة وإيقاظ العقل العربي من الصدمة التي تعرض لها إلا أن الابتلاع الكامل لفلسطين شكل عتبة ثانية لمعاينة التحول في معالجة القضية ثقافيا فالنكبة الثانية أدخلت النخبة في حالة من اليأس والنكوص وأنتجت بحثا في جدوى الوجود والعيش في مستويات من القهر السياسي غير المسبوق فكان النتاج الثقافي مليئاً بالغموض والتشاؤم وفي المقابل كانت الدعوة للكفاح المسلح قد أيقظت المخيال العربي من جديد وبما يكون أكثر إبداعا في إنتاج رموزه التي تمثلت في شخصية المضحي الداعي إلى استرداد الأرض والكرامة وظهر إنتاج ثقافي آخر وجديد أكثر حيوية وقدرة على إذكاء الذاكرة لقضية وطن، وامتلك القدرة على نقل تأثيره في الساحة الدولية عبر منظومة إنتاج متجاورة شكل النتاج البصري جزء هاما فيها. لم تدع السياسة وتقلباتها لقضية فلسطين القدرة على إلهام المخيال العربي في تمثله لها بل حاصرته بآليات لم يستطع مجاراتها لما تملكه من قوة تأثير فاعلة حاولت تحويل فلسطين من ذاكرة حية إلى ذاكرة نسيان ورغم أن ذلك استطاع بشكل أو بآخر تحييد القضية الفلسطينية وتحويلها إلى قضية صراع داخلي مكن العدو من تصوير العربي بصورة الإرهابي المهدد للسلام واستأثر بالقدرة على تدوين ذاكرة جديدة وهذا ما أدخل القضية في جوهر الصراع وحولها الى قضية وجدان وقضية هوية، ذلك الأمر ما يمكن أن أعده عتبة جديدة نلتمس فيها بعدا آخر من إلهام المخيال العربي في إنتاج ليس رموزه الجديدة بل استخدام وسائل أكثر معاصرة وقادرة على مخاطبة العقل العربي وبنائه في اتجاه النضال من أجل هوية فلسطين الوطن التي تتجدد في الذاكرة وتصبح عملية نضال مضاد لسياسة النسيان التي مورست تجاهها وتحويلها إلى قضية وجدان بسياسة الذاكرة، في هذه العتبة يمكن متابعة الإنتاج البصري الذي تسيده هذه المرة إنتاج الفلسطيني الذي وعى تماما المطلوب في هذه المرحلة وأخذ على عاتقه باعتباره الوحيد الذي تحمل كل شيء ويعيش لحظاته اليومية وتحديدا حاجته إلى أن تكون قضية فلسطين قضيته هو كإنسان، ولعل في نتاجات منى حاطوم وإبراهيم النوباني وآخرين، ما يستلهم ذلك ويعزز قوة حضور فلسطين كملهم للمخيال وقدرتها على أن تكون محورا حيا أمام قوة الفعل المضاد.


الكاتب
سامي داوود (سورية):
فلسطين ليست مجرد مكان
بادئ ذي بدء، لا يمكن إختزال الاجابة على هذا السؤال الضخم إلى سمات تحدده وتحمله كثيمة. إذ ثمة تمثلات مفارقة لأرض فلسطين في الأدب العربي، تتمشهد كأرض حرمان، دونها ـ بتعبير أفلاطون ـ لا يبقى ما هو جيد، أو لا يبقى ما تُستحقُ الحياة لأجله. وكذلك كأرض مُشتهاة مثل يوتوبيا يتأسس بها ما هو عاجزٌ عن التحقق راهنا. وتأرجحت الحالة الانفعالية بين حالة البكائية المفرطة، والتي تجلّت شعريا كامتياز في النواح التطهيري، وبين الحماسة الثورية التي دفعت الذات إلى التفكير في وجودها من خلال الآخرين، بالرغم من أن هؤلاء الآخرين ظلوا أيضا تصورا ملتبسا.
لكننا نكاد لا نعثر في الأدب العربي على فلسطين كأرض لا مساحة لها، أي فلسطين التي يمكنها أن تكون أرضُ كل إنسان مسلوب الأرض. وقد تنبَّه محمود درويش إلى هذا الغياب، واستعاده في نصوصه التي تناولت فكرة الذات. في مقابل ذلك واجهت حنة آرندت في أحلك ظروفها تصور اليهود عن أنفسهم كضحايا دخلوا في عملية إبدال ذبائحي ليحولوا الآخر إلى قربان بديل لوجودهم. وواجهت بذلك الصهيونية أيضا، عبر تجرَيد أوشفيتز من حدّيه اليهودي ـ الألماني. بينما لا نحصل عبر صورة فلسطين المتخيلة أدبيا، على النسق النقدي الذي يفكك الواقع الفلسطيني.


تعثرت فكرة التهجير في الصياغات التي حملتها برتابة الواقعية. بينما يمثل التهجير في بناء فلسطينات الشتات مدخلا هائلا لمساءلات رحبة جدا، ويمكنها أن تؤسس لتصور مغاير للذات الفلسطينية ولعلاقة هذه القضية بقضايا المنطقة ككل. وهذا ما يمكننا ملامسته في الفيلم الجديد للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان "لا شك أنها الجنة"، حيث السردية مغايرة وفلسطين ليست مجرد مكان، والفكاهة والحب هما حوامل التهجير الفلسطيني وكذلك لكل إنسان آخر يتشابه وجوده مع وجود الفلسطيني.
في علاقة اللغة بالعناصر، أشعر بالحيرة في مفهمة فلسطين أدبيا كسماء أم كأرض. بمعنى عجز المفاعيل السردية والتعبيرية عن تمثيل فلسطين كأرض مضاءة في جغرافيات أخرى غير عربية وإسلامية، وذلك بالتعارض مع روحانية المفردات التي ترسم صورة فلسطين.
يشدو المغني الكردي جوان حاجو أغنيته "نحن معك يا فلسطين" فتشعر أن فلسطين هي أرض كردية أيضاً. ليس فقط بالكلمات، بل وأيضا بالتركيب الصوتي للإحساس بالشيء. هذه المبادلة الرمزية ترشد الإنسان إلى كل ما هو إنساني محض. والصورة الفلسطينية المنعكسة في مرآة الأدب يمكنها أن تكون ذاك الإرشاد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.