}

شوقي الماجري.. الأكثرُ حماسةً وتعطُشاً لحريَّة الإنسان

أنور محمد 12 أكتوبر 2019
هنا/الآن شوقي الماجري.. الأكثرُ حماسةً وتعطُشاً لحريَّة الإنسان
المخرج التونسي الراحل شوقي الماجري (فيسبوك)

منذ أوَّل عمل تلفزيوني أخرجه شوقي الماجري (1961- 2019)، وهو "تاج من شوك"، من كتابة وسيناريو د.رياض عصمت، الذي أذيع عام 2002، كان شوقي يعمل بحماسةٍ، وولع، ليرسم صورةً بصريةً حيَّة تؤثِّر في المتفرِّج، بما يحقِّق المثال الجمالي، فيكشف عن الغِنى الروحي لشخصياته، فيفرجينا مشاعرها الإنسانية وهي تخوض صراعاتٍ ضدَّ شروط الحياة القاسية، ونراها، كما يُصوِّرها شوقي الماجري، بعريٍ يكاد يكون مطلقاً. فالدراما مسرحية كانت، أو سينمائية، أو تلفزيونية، يجب أن تخضع أحداثها - كما صوَّر في أعماله – إلى قانون الاحتمال والضرورة، خاصةً في مسلسل "الاجتياح"، وفيلم "مملكة النمل". وهذا يكشف عن القوَّة الكامنة في أعماقه لرسم صورةٍ صادقة عن توجهاته القومية في ما يتعلَّق بالنهضة، والتنوير، والربيع العربي الأسود، والقضية الفلسطينية. فكلُّ الدراما العربية، بأجناسها ما عدا استثناءات تُعد على أصابع اليد، تراها تروِّج للعنف والجنس والتخلف والشعوذة والتخريف والتهريف والقنانة والعبودية والتشرذم والجريمة. وعلاقة الإنسان القوي (مالياً) بالإنسان الضعيف مالياً هي علاقة بين السيِّد والقن، بين الرئيس والمرؤوس؛ ما يُجسِّد القهر الاقتصادي والسياسي.
شوقي الماجري، وإنْ خضع في بداية أعماله إلى شروط المُنتِج في تسويق بعض هذه الأمراض، ولضرورة فنية، إلاَّ أنَّه كَيْ يُقوِّي، يحفر- فيُصعِّد ذاك (البطولي) عند الإنسان العربي، فيطرح مواضيع عظيمة في "الاجتياح"، و"أبناء الرشيد"، و"الأرواح المهاجرة"، و"هدوء نسبي"، و"حلاوة روح"، وفيلم "مملكة النمل"، وبإحساسٍ متوهِّج بالحياة الكريمة، وبكثيرٍ من التركيز والتكثيف، ما يُماشي روح المأساة الفلسطينية على حقيقتها بين مُحتلٍ

غاصب وبين إنسانٍ ووطنٍ مُغتصب، فيفرجينا (الملحمي) عند شعبٍ مشدودٍ إلى أرضه بملايين الجنازير العصبية والنفسية. وأنَّ الصراع والنزاع بين الفلسطينيين - وليس العرب، والعدو الصهيوني هو صراعٌ سامٍ جليل من أجل فلسطين. الماجري من بين المُخرجين الدراميين العرب هو الأكثر حماسةً وتعطُشاً لحرية الإنسان، وهو يشتغل أعماله بفيضٍ من شعور نبيل، وبفكرٍ/ تفكيرٍ تحليلي قاسي. فالدراما والتراجيدية كما في "الاجتياح" وغيرها من أعماله أراد لها أن تكون ذات تأثير فكري وآخر جمالي، فيُثير انفعالاتنا كمتفرجين. وهذا ما حقَّقَ شيئاً منه. فالفنون عموماً بأجناسها يُفترض أن تحقِّق المتعة الجمالية، وهي بقدر ما تكون نخبوية بقدر ما تُخاطب جمهوراً/ جماهير تعيش نظاماً حياتياً له ضوابط أخلاقية ودينية. طبعاً شوقي الماجري يرى الدراما بصفتها (معرفة) وقد تحولت إلى (سلطة) تعمل على إخضاع وتكييف المتفرِّج. فكلُّ دراما في هذه الحالة هي في جوهرها سياسية ولها وظيفة تعبوية. لذا ففي فيلم "مملكة النمل" يقاومُ عقله ذاكَ الاستحمار الذي يُعاملنا به العقل الصهيوني، فجليلة وقد استشهد طفلها سالم ابن الـ11 عاماً برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي تردُّ بألمٍ على مُطلق الرصاص:" مِشْ داريينْ جوَّاتْ راسْ كُلّْ واحِدْ مِنَّا مملكة نمل، نمل بحالها". فالنمل ذو قوَّة مذهلة، يتوادد ويتراحم، ويحمل أشياء تزن ما يقارب عشرين ضعفاً وأكثر من وزنه، ويدفن موتاه بمقابر خاصة به، وهو انتحاري يفجر نفسه عندما يغضب ويشعر بالخطر. فنرى صورة تتكوَّن وتتوسَّعْ، ولا صدَعَ فيها، إذ يستشهد مُوَثِّقاً أحداث فيلمه بِمَشَاهِدَ حيَّة للجنود الصهاينة وهم يرمون الفلسطينيين بالرصاص الحيّْ.
الماجري، وللتأثير، يُشكِّل فيلمه من صورٍ واقعية راهنة فتذهب إلى النمو، تتبلور، وتجتذب المُتفرِّج. فالمستقبل مُشتقٌ من الحاضر، شعبٌ له قوَّة النمل، ونظام حياة النمل، ويتكاثر كالنمل، لا يمكن أن تفنيه، وهو موجودٌ من قبل وباقٍ من بعد.
ما يثير في صورة شوقي الماجري في مسلسلاته، وفي فيلمه الوحيد؛ أنَّ الشخصيات أغلبها أبطال، وهي غير مُتجمِّدة، أو مُتخثِّرة، بل مُلتحمة مع واقعها، لأنَّها شخصيات تتحوَّل إلى الفعل، إلى إنجاز الفعل المُتحقِّق والكامن، الرائق والكامد. وهنا يدفعني شوقي الماجري للتساؤل: لماذا لم يستفد، وهو الأذكى، والقارئ الجيد للصورة السينمائية، من المدرسة المستقبلية، والبنائية، والشكلانية؟ لقد ظلَّ واقعياً تعبيرياً يصوِّر دراماه بأحاسيس بصرية وصوتية، وبتطوُّرٍ خطِّي. شوقي؛ ومعه في الدراما التلفزيونية هيثم حقي، وحاتم علي، ومحمد فاضل، وسمير حسين؛ هم الأكثر صدقاً مع وجدانهم، فيحيكون ثوباً درامياً بعناصر إنسانية عامة وبخصوصية قومية، فنرى أسلوب تفكيرهم، مشاعرهم، مصائر شخصياتهم، رغباتهم، وإراداتهم وهم ينقلون لنا المضمون الروحي لبصيرتهم، فنراها فعلاً واقعياً؛ على الغالب ذا طبيعة ملحمية، وحدة واختلاف، وقائع وأحداث، صراعات وتناقضات - في صورة

"سينافيزيونية" ذات طبيعة واعية. فصراعاتهم ونزاعاتهم ليست من أجل وراثة عرش، بل من أجل حرية واستقلال شعب ووطن، وبرؤية فلسفية للحياة.
شوقي المجري كان يحفر عميقاً ليُجذِّر لفن الدراما التلفزيونية، وهو يُدرك أنَّ عصر الأبطال تُسرطنه الدولة العربية المستبدة وهي كفيلة بوأده، لأنَّها دولة ضدَّ العدالة والحق. ففيلمه "مملكة النمل"، من ﺗﺄﻟﻴﻒ خالد طريفي، وشوقي الماجري، لم يجد تمويلاً، ولا دعماً عربياً - ثماني سنوات، وهو يحمله، حتى حقَّقه بمال خاص من المُنتج التونسي نجيب عياد، بسبب الموقف اللاأخلاقي لهذه الدولة من القضية الفلسطينية، التي تعاملت معها بمنتهى الشر والقباحة، كأنَّها تنتقم من فلسطين. فيلم يحكي عن حميمية العلاقة بين الإنسان وأرضه بحكايات وفرضيات واقعية، فالإنسان ليس سلعة وكذا الأوطان، فنرى الممثلة صبا مبارك في دور "جليلة" عندما يُغتال ولدها برصاص المقبور "شارون" - نرى عاطفتها وهي تتفجَّر بكل عنفوان الانفجار أمام  هذا المجتمع الصهيوني آكل اللحوم البشرية الذي يجب أن يتهاوى، يتهاوى ويسقط، وهذا موقف أخلاقي وسياسي يُحسب لمُخرجٍ عربي خسرناه دون أن يكمِّل مشروعه، موقف عظيمٌ من شوقي الماجري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.