}

ماركيز.. وفضيحة القرن!

أحمد عبد اللطيف 20 سبتمبر 2018
هنا/الآن ماركيز.. وفضيحة القرن!
ماركيز

 

 

 ذات ليلة جمعة، وبينما كان ماركيز يتسلّى ويشرب، اشتعلت بداخله شعلة الصحافة، وتحدد بشكل ما مستقبله كغابرييل غارثيا ماركيز. كان حينها في الواحدة والعشرين، بلا عمل، والقدر قد خطط له من قبل دراسة الحقوق وكتابة القصص القصيرة ليمنحه مستقبلًا رآه مفزعًا، عندما اقترح عليه صديق أن يجرب حظه كصحافي. يقول داسو سالديفار، كاتب سيرة ماركيز "رحلة إلى البذرة": "وسريعًا ما تعلم المهنة ومنحها بعدًا شعريًا منذ البداية، وربط مهنة المحرر بالكاتب والروائي الذي كان يبحث عنه في نفسه". ثمة خريطة لهذه الجغرافيا الصحافية - الأدبية يضمها الكتاب الصادر حديثًا بعنوان "فضيحة القرن"، بمقدمة كتبها لي أندرسون، وهو أنطولوجيا صحافية تضم خمسين تحقيقًا ومقالًا ورحلات اختارها كريستوبال بيرا بعناية.

  كل شيء بدأ منذ سبعين عامًا. لقد وجد ماركيز نفسه في حارة مسدودة، وعلى مضض بدأ يكتب لجريدة الأونيبيرسال بـ كرتاخينة دي إندياس، لتتحول الصحافة إلى حقل تجارب ومعمل لميله الأدبي الذي يتضح في جرائد مثل إيرالدو بمدينة بارانكيا، والإسبيكتادور بـ بوغوتا.

 "نحن سكان المدينة كنا قد اعتدنا الحنجرة المعدنية التي تعلن حظر التجوال"، بهذه العبارة افتتح غابو عالمه الصحافي في مقال له نُشِر يوم الجمعة 21 مايو/ أيار 1948. ومنذ ذلك الحين ركّز اهتمامه في اختيار موضوعات يومية وصنع لنفسه أسلوبًا وبحث عن عبارات تخطف القارئ منذ السطر الأول، حتى غدا أستاذًا في الاستهلال الروائي وعناوين الأعمال، وبات هناك من ينسخه ويقلده ويسرقه حد الملل. الكولونيل لا يجد من يكاتبه، مئة عام من العزلة، خريف البطريرك، سرد أحداث موت معلن، الحب في زمن الكوليرا، الجنرال في متاهته، عن الحب وشياطين أخرى...

تقول إلينا بونياتووسكا، الصحافية المكسيكية والفائزة بجائزة ثيربانتس عام 2012 وصديقة النوبلي الكولومبي: "لقد علّمته الصحافة أن يبدأ بالخبر ليجذب القارئ. إنها ضربة البداية التي تثير الفضول في الناس وتدفعهم لمواصلة القراءة". ولعل أشهر بداياته هي استهلال مئة عام من العزلة: "بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، كان أوريليانو بوينديا قد تذكر اليوم الذي اصطحبه فيه أبوه لمشاهدة الثلج". وترى بييداد بونيت، الشاعرة والروائية الكولومبية، أن استهلالاته: "تتمتع بأفضل ما تتمتع به الأخبار. لكن، بالإضافة لذلك، ففي روايات مثل الكولونيل لا يجد من يكاتبه أو سرد أحداث موت معلن يستخدم لغة شديد الاقتصاد، جفافًا ليس بساطة ولا فقراً، إنما تكثيف، تكثيف محمّل بقدرة عالية من التواصل والحس".

وبعد مروره بتجربة الأونيبيرسال والإيرالدو، عاد ماركيز إلى بوجوتا ليعمل لجريدة الإسبيكتادور، وكما يقول لي أندرسون في مقدمته، حقق هناك شهرة واسعة، خاصة مع كتابته الدراماتيكية المسلسلة لـ قصة غريق، عام 1955.

قلة الصفات وكثرة الأفعال

     يقول جيرالد مارتين، كاتب سيرة ماركيز بالإنكليزية، في كتابه "غابو، صحافيًا": "تميز أسلوبه الجديد بقلة استخدام الأسماء والصفات في مقابل كثرة في استخدام الأفعال: لقد انتقل من مرحلة تسمية الأشياء ووصفها إلى سردها". هذا الكتاب قامت مؤسسة غابرييل غارثيا ماركيز للصحافة اللاتينية الجديدة بتحريره، وهي مؤسسة أنشأها غابو عام 1994. ويعتبر أفضل مثال لتداخل الصحافة والأدب هو كتاب سرد أحداث موت معلن، وتبدأ: "في اليوم الذي راحوا ليقتلوه فيه، استيقظ سانتياجو نصار في الخامسة والنصف صباحًا لينتظر السفينة التي تقل المطران".

    يتذكر سالديفار أن هذه الرواية شديدة الصلة بالأنطولوجيا التي ينشرها الآن، لأن ريبورتاج "فضيحة القرن"، الذي صار عنوان الكتاب، كان سابقًا عليها. الرواية تعيد كتابة حادثة اغتيال وتطرح رؤية لمجتمع القرية، بينما في ريبوتاج "فضيحة القرن" يعيد ماركيز، في عام 1955، بكثير من التفاصيل، بناء قصة موت ويلمة مونتيسي في روما 1953 ويطرح بانوراما للمجتمع الإيطالي. وكان هذا أول نص له من أوروبا، تلاه حكاية غريق.

    تقول ويندي جيرّا، الكاتبة الكوبية التي تعرفت على ماركيز: "أشد ما تركه لي المؤلف أني دائمًا كلما قرأت له عملًا كنت أرده إلى الواقع، لكن من دون أن أفقد شعوري بالقصة: الواقع لا يصنع دائمًا قصة قابلة للتصديق".  

     لقد تعلم ماركيز أن يؤلف قصة حقيقية من مؤلفين مثل دانييل ديفو و"يوميات عام الوباء"، بحسب ما يؤكد سالديفار. بل ومن روبنسون كروزو في الإغداق بالتفاصيل والوصف والمعلومات التي تنقل القارئ إلى المكان. لقد اعترف ماركيز عام 1993 لطلاب مدرسة الصحافة بجريدة الباييس وجامعة مدريد المستقلة: "أنا ممتن جدًا للصحافة لأني كنت سأغدو روائيًا مختلفًا إن لم تكن لديّ هذه الخبرة الصحافية".

     لقد مارس ماركيز الصحافة منذ مايو/ أيار 1948 عندما دفعه القدر صوب هذه المهنة التي لم يكن يؤمن بها، ليعترف بعد ذلك: "أنا، ولديّ أسباب كثيرة لأقول إن أفضل مهنة في العالم هي مهنة الروائي، أعتقد حقيقةً، وما أزال أعتقد، أن أفضل مهنة هي الصحافة".

     الكتاب الذي صدر في إسبانيا عن دار راندوم هاوس ببرشلونة، ويقع في 354 صفحة، يتطلع إلى أن يكون نموذجًا في إدماج الصحافة والأدب، وهو ما حققه ماركيز بمهارة. إنه عمل صحافي يغطي أربعة عقود، رحلة طويلة تضم خمسين نصًا، يبرهن من خلالها المؤلف على أن الصحافة "أفضل مهنة في العالم"، وأنها في قلب العمل الأدبي للنوبلي الكولومبي.

     يضم الكتاب، من بين ما يضمه، ريبورتاجًا كتبه غابو وهو في روما حول اغتيال شابة إيطالية، ومن خلاله يرسم التناقض بين النخب السياسية والفنية في إطار قصة بوليسية، كذلك ريبورتاج "ستارة من الصلب" يطرح فيه مسألة الفتيات البيضاوات من باريس وحتى أميركا اللاتينية، وكذلك ملحوظات حول فيدل كاسترو وبيو الثاني عشر. كذلك أجزاء مبكرة من حياة عائلات بوينديا وأراكاتاكا، إلى جانب مقالات تتأمل السياسة والمجتمع والثقافة تحت ميكروسكوب الحكّاء الماهر والعميق الذي سيغدو أستاذًا للصحافيين.

------

عن جريدتي الباييس ولا بانجوراديا الإسبانيتين.

                                       

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.