}

الشعر المصري الجديد: إشكاليات التواصل والقطيعة (1-2)

سارة عابدين 18 يونيو 2018
هنا/الآن الشعر المصري الجديد: إشكاليات التواصل والقطيعة (1-2)
من اعمال الفنان رشيد قريشي

هناك تساؤل مستمر حول علاقة الشعر المصري الجديد بالأجيال السابقة، والتجربة الشعرية القديمة، وهل يمثل الشعر الجديد استمراراً لمسيرة التطور الشعري، أم أن الحركة الشعرية المصرية الجديدة منقطعة تماماً عن التراث الشعري القديم، وتمثل تجربة شعرية جديدة مستقلة بشكل كبير، إلى درجة أن البعض يرى أنها بلغت حداً من النثرية والتجريب أكبر مما هو محتمل داخل القصيدة.

هنا القسم الأول من إجابات مجموعة من الشعراء والنقاد عن هذا التساؤل الذي طرحناه عليهم:

فتحي عبد السميع: الشعر يرتبط

بالذات الإنسانية في كل مكان وزمان

الشاعر المصري فتحي عبد السميع، رئيس تحرير سلسلة الإبداع الشعري التابعة للهيئة المصرية العامة للكتاب، يرى أن الشعر يرتبط بالذات الإنسانية في كل مكان وزمان، ومن ثم فلا توجد قطيعة نهائية بين الأجيال مهما اختلفت، بالإضافة إلى ارتباطه أيضاً بالطبيعة الفردية للشاعر والجماعة التي ينتمي إليها. ويرى أن المسافة الكبيرة بين النص الجديد والشعرية القديمة هي مسافة ظاهرية، لأن الشعر الجديد لم يبزغ من فراغ، وقد شاركت في صنعه كل التجارب الرائدة التي تعاملت مع الشعر القديم تعاملا نقديا، حتى تجارب الشعراء الذين يتخذون منه موقفا سلبيا. يقول عبد السميع إن ذلك قد يبدو غريبا على شعراء النص الجديد أنفسهم، أو حتى مرفوضا، لكنه لا يرى انفصالا مطلقا بين الشعر الجديد والشعرية القديمة، بالرغم من وجود إبداع جديد، وتركيز أكبر على السرد والعناية بتفاصيل الحياة اليومية والحركة بعيدا عن هيمنة وسطوة المجاز، بالإضافة إلى تحرر الشعر من أمور علقت به لظروف معينة تجاوزناها الآن، مثل الدور الإعلامي للشاعر. ويقر عبد السميع بوجود مسافة طبيعية بين الشعر القديم والتجربة الجديدة، لكنها مسافة طبيعية تنتج من ظروف الحياة المختلفة، وحوار الشاعر مع تلك الظروف والمؤثرات التي تؤثر في التجربة الشعرية، وهي مؤثرات تتعلق بظروف العصر، وروافده الثقافية الجديدة والمتداخلة.

يعتقد عبد السميع بوجود ردود أفعال على هيمنة وسطوة الواقع عبر تجلياته المختلفة، قد تتجسد في رفض سطوة نماذج شعرية قديمة بالية، أو مقولات سياسية واجتماعية فقدنا الإيمان بها، ومن أهم تلك المؤثرات يأتي التواصل والحوار مع كل التجارب التجديدية السابقة، الذي لم يكن قائما على قراءة النصوص بقدر ما كان قائما على التفاعل مع أثر تلك النصوص. لذا لم يكن التأثر فرديا بقدر ما كان جماعيا، فعدم قراءة نصوص هذا الشاعر أو ذاك لا يعني عدم التأثر بتجربته، فالتأثر كثيرا ما يأتي بشكل غير مباشر، أو عبر نصوص أخرى تأثرت بأفكار وكتابات ذلك الشاعر الذي لم نقرأ له.

أما عن طغيان النثرية داخل القصيدة في الشعر المصري الجديد، فيقول عبد السميع إن للشعر الجديد طابعا تجريبيا؛ لا يلعب في المضمون، ولا يراهن على قيم جمالية يدرك الشاعر سلفا أنها ستعجب المتلقي، بالإضافة إلى قدر كبير جدا من الحرية، والمغامرة، وكل ذلك أشبه بسلاح ذي حدين، فهو يَعِدُنا بآفاق حقيقية وأخرى وهمية كاذبة، وفقا لمدى جدية واجتهاد المغامر المستفيد من تلك الحرية. ولا شك في وجود ضربات صائبة وأخرى طائشة، لكن على الشاعر أن يحذر من ثقته بنصوصه، وأن يقلق بدرجة ما من صمت وحفاوة المتلقي.

يضيف عبد السميع أن هناك تجارب مرفوضة في العمق لسقوطها في النثرية بمعناها المعروف، على نحو يؤدّي إلى خفوت الوهج الشعري المرجو منها، لكن يبدو الحكم صعبا على تلك التجارب، بسبب الرغبة في منحها فرصتها كاملة، ولأن الأفضل تركها تسقط من داخلها إن كانت جديرة بالسقوط، والحكم الحقيقي يحتاج إلى وقت ومراجعة جماعية، وستبقى بالتأكيد نماذج، وسوف تذهب أخرى كثيرة إلى سلة المهملات.

ويعتقد عبد السميع أن المشهد الشعري عريض جدا، ما يُصعب معرفة التجارب العربية والعالمية المؤثرة في الشعرية المصرية الجديدة، بالإضافة إلى صعوبة القول بوجود مؤثرات واحدة عند الجميع. ويضيف: "بشكل عام، نحن ندين للتجربة الإنسانية برمتها، هذا هو الديْن الأكبر والأعمق". وفي تقديره يوجد تأثر بأفكار عن الشعر أكثر من تأثر بتجارب شعرية، ويظهر أدونيس هنا كنموذج، فرغم عدم اهتمام الشعراء الجدد بتجربته الشعرية، إلا أن الكثير من الأفكار التي نادى بها ما زالت فاعلة. وهناك كتابات نقدية لعبت دورا كبيرا، من أهمها "ثورة الشعر الحديث" لعبد الغفار مكاوي، وكتاب سوزان برنار الشهير، وقد لعبت كل الأسماء الواردة في الكتابين دورا في تكوين التجربة الجديدة، بشكل مباشر أو غير مباشر، وهناك تجارب وجدت اهتماما خاصا كما هو الحال في تجربة محمد الماغوط ووديع سعادة على المستوى العربي، أو ريتسوس ونيكانور بارا على المستوى العالمي.  

أحمد أنيس: "كل النصوص

رماد نصوص سابقة"

الشاعر المصري أحمد أنيس يقول إنه بالحديث عن الاتصال والانقطاع بالتجارب السابقة يمكن أن نستعيد مقولة جاك دريدا "كل النصوص رماد نصوص سابقة"، ولذا يصعب النظر لأي منتج فكري بشري بمعزل عن تاريخ البشرية، وبالطبع لا ينفصل الشعر عن هذا. فهي حركة تطور بشري دائمة، وحتى الصراعات أو المعارك الشهيرة بين القديم والجديد يمكن النظر إليها باعتبارها محطات في هذه الديناميكية الدائمة تركت أثرًا إيجابيًا في النهاية. ورغم هذا تظل مسألة التواصل والانقطاع مع الأجيال السابقة مسألة نسبية إلى حد كبير.

يضيف أنيس أن هناك من بين الشعراء المعاصرين من هم على اطلاع وقراءة عميقة لمجمل تاريخ الشعر العربي من الجاهلي وحتى الآن، وهناك من هم على اطلاع طفيف للغاية وقد لا يكون هذا قدحًا، إذ ربما تفيدهم تلك البراءة والطزاجة. لكن تظل فكرة الانقطاع التام مستبعدة إلى حد كبير، وخصوصًا مع الأجيال الأحدث؛ "فلا أتصور مثلًا شاعرًا/ة يكتب/تكتب قصيدة النثر دون حد أدنى من التواصل مع أجياله/ا السابقة".

أما عن المؤثرات التي تؤثر في التجربة الشعرية المصرية الجديدة، فيرى أنيس أن القراءة بصفة عامة، وقراءة الشعر بشكل خاص، من أشد المؤثرات ولكنها ليست الوحيدة. وبجانب البيئة والمجتمع والتاريخ الشخصي والتجارب الذاتية وكل هذه المؤثرات التقليدية هناك أيضًا الدور الكبير للسوشيال ميديا والأصدقاء. يتحدث أنيس هنا بشكل شخصي عن تجربته الخاصة، ويذكر أن الأصدقاء حتى الافتراضيين منهم من أشد المؤثرات بالدعم والتشجيع والتعلم المشترك والنقاشات المثمرة والخبرات الشخصية المتبادلة، وكذلك دور السوشيال ميديا والإنترنت بصفة عامة في تسهيل عملية الاطلاع على حركة الشعر العالمي التي كان لها أثر بالغ على تطور وتنوع الشعر المصري الجديد.

يتحدث أنيس عن النثرية التي ربما تطغى على القصيدة في الوقت الراهن ويقول إنه آن الآوان لوضع هذه القضية جانبًا، والتفكير في سؤال آخر وهو من أين تأتي الشعرية، وهل يضر النثر بشعرية القصيدة؟ ويستعيد هنا قصائد نيكانور بارا المضادة، ونص درويش الطويل "ذاكرة للنسيان"، الذي لا يرى تعارضًا بين نثريته، وبين كونه واحدًا من أكثر أعمال درويش شعرية، لذا يظل الحكم على ما يقدمه المضمون والمحتوى والمعنى من درجة شاعرية هو الأدق بعيدًا عن إشكالية الشكل التي قتلت بحثًا.

من وجهة نظر أنيس تظل مسألة التجارب العالمية والعربية المؤثرة في الشعر المصري الجديد مسألة نسبية، ومرتبطة بقراءات وتفضيلات شخصية شديدة التنوع. بالأمس القريب كانت هناك ثنائية دنقل / درويش الشهيرة، أما الآن مع تعاقب وتنوع الأجيال والأسماء صار الأمر أعقد بكثير. ولا يوجد اسم عربي واحد يمكن أن يتفق عليه جيل كامل، بينما عالميًا يبدو الأمر أوضح في التأثر ببوكوفسكي، والت ويتمان، نيكانور بارا وغيرهم، وكذلك التأثر النسائي الأوضح بجويس منصور، فرجينيا وولف، شيمبورسكا وغيرهن. وهو يرى لهذا التأثر نتيجة سلبية، لأنه يحول الشاعر أحيانا إلى تابع مغترب، ما يفقد بعض النصوص أصالتها ومصداقيتها.

يرى أنيس أن الترجمة هي العنصر الأهم في متابعة الشعر العالمي، الأمر الذي ربما يحمل بعض السلبية، لكن يشفع له مستوى الترجمات المتطور للغاية وتنوع وبراعة المترجمين وتبرعهم بنشر النصوص المترجمة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ما يسهل الأمر في مقابل عناء البحث عن النصوص الأصلية. 

أسماء يس: لا مؤثر

أكثر من الترجمة

الشاعرة المصرية أسماء يس، مسؤولة لجنة الشعر بالمركز القومي للترجمة، ترى التواصل مع الأجيال السابقة في الشعر يحدث على مستويين: الأول هو مستوى القراءة، حتى تتأكد أنها لا تكتب شيئا مكررا، والمستوى الثاني هو مستوى التواصل الشخصي الإنساني. أما عن أهم مؤثر في الشعر المصري الجديد، تقول يس "أعتقد ألا مؤثر فعل أفاعيله في القصيدة الجديدة أكثر مما فعلت الترجمة".

لا ترى يس أن النثرية تسيطر على الشعر المصري الجديد، على العكس تقول إن النثرية لم تبلغ بعد ما ينبغي أن تبلغه في القصيدة المصرية الجديدة، فهناك من يكتبون قصيدة نثر بروح التفعيلة حتى الآن. حتى شعراء السبعينيات الذين حاولوا تخطي قصيدة التفعيلة، عادوا مرة أخرى وأصدروا خلال الشهور الماضية أكثر من ديوان لن يصدق أحد أنها مكتوبة بعد سنة 1980.
تتفق يس على عدم وجود تجربة عربية مؤثرة في الشعرية الجديدة، حتى تجربة محمود درويش لم تترك أثرًا على قصيدة الأجيال الأقدم من شعراء النثر في مصر. أما عالميًّا فالتأثير بدأ ببودلير ورامبو مرورًا بوالت ويتمان وصولًا إلى سيلفيا بلاث وبوكوفسكي ومايا أنجيلو وآخرين. وتقول يس إن القصيدة الحديثة فخ قد يوقع بعض الشاعرات والشعراء في تصور السهولة وتصل السذاجة ببعضهن وبعضهم إلى حد تقليد وترجمة أغاني البلوز الأميركية مثلًا!

تقرأ يس الشعر بالإنكليزية لأن ترجمة الشعر "مثل تغيير العملة، لا بد وأن تخسر فيها". لذا فالقصيدة بلغتها تقول شيئًا إضافيًّا أصليًّا. كذلك هي محاولة للتخلص من سوء الترجمات القليلة الموجودة، لكن إن توفرت ترجمة جيدة، وهو ما يحدث نادرًا، خصوصًا في الشعر، تقرأها يس فورًا.

محمد عيد إبراهيم: لا يمكن أن

ننفصل بأي شكل عن القديم

برأي الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم لا يمكن أن نرى قطيعة معرفية أو جمالية كاملة بين الأجيال في بلد ما، ولا حتى في العالم كله. ثمة وشائج هنا وهناك تربط بين جيل سابق وجيل لاحق، فالشعر مثلا خلال الفترة التي يطلقون عليها الشعر الجاهلي وما بعدها من الشعر الأموي ثم العباسي، حتى فترة التجريب الجمالي (الشعر المملوكي)، كلها ذات وشائج قربى والتحام ولو بشكل نسبي، فهناك درجات من القرب والبعد، تدفع إلى التطوير وأخذ ما يناسبنا من القديم للظهور في الزيّ الجديد وإن بشكل آخر. وهكذا نرى أننا لا يمكن أن ننفصل بأي شكل عن القديم، بل نأخذ منه ما نراه صالحًا للجديد ونبني عليه.

أما عن المؤثرات التي لها فعل في الشعر المصري الجديد، فيعتقد إبراهيم أنه في كل جيل تظهر مؤثرات مختلفة في النمط الشعري الموجود، فمثلًا فترة الخمسينيات ظهرت بوادر ثورة على الشكل الشعري القائم من خلال رؤية جديدة للتراث مع الاستفادة مما شاع وقتها من مقولات نقدية، مثل آراء إليوت المحافظة مثلا. ثم جاءت فترة السبعينيات فقامت بثورة على شعرية الخمسينيات، مع بدء فهم طوالع الحداثة وما بعد الحداثة، وسقوط النظريات الكبرى، والمذاهب الفلسفية النقدية مثل البنيوية والتفكيكية. كذلك جيل ما بعد الألفية الجديدة الذي قام بثورة نسبية لصالح قصيدة النثر أكثر، وبدء دخول السرديات بشتى أنواعها في قصيدة النثر.

يعتقد إبراهيم أن كل نمط شعري له ما له وعليه ما عليه، لذا لا يمكن القول بشكل قاطع إن النثرية بلغت حدا أكبر مما هو محتمل داخل القصيدة؛ فقصيدة النثر تسعى إلى شعرنة أي شيء سردي أو نثري، ولها أنماط مختلفة، مثل الاستفادة من الحكاية أو الأسطورة أو حتى لغة المقال، المهم أن لا تتنازل شعريًا عن محاولة بث أي نوع من الإيقاع في الجملة أو المقطع الشعري. وفي كل جيل هناك النماذج الباهرة والنماذج الواهية، ومع الزمن تصفو هذه النماذج لفائدة الأصلح، كما في نظرية التطور.

يضيف إبراهيم أنه لا يعنينا أن يفهم بعضهم إدراج السرد في قصيدة النثر خطأ، إذ تتحول على يديه إلى مجرد قطعة سردية بلهاء بلا روح أو متبسطة لدرجة السذاجة، فالزمن كفيل دائما بغربلة الفاسد إلى ما لا نهاية.

يذكر إبراهيم أن هناك تأثرًا ببعض التجارب المصرية والعربية، وإن كان تمثلها بشكل مختلف، فالشاعر اللبناني وديع سعادة وكل من العراقيين صلاح فائق وسركون بولص لهم أثر ما في هذه الشعرية الجديدة، وقد يكون لبساطة صلاح عبد الصبور أثر أيضًا، لكن من دون العمق الفلسفي الواضح في شعريته. لكن نظرًا لطبيعة الشعرية التي يكتبها الجيل الجديد، يبدو أن الشعر العالمي له أثر أكبر، سواء كان في أصوله، لمن يعرف كيف يقرأه بلغاته، أو حتى في شكله المترجَم، وإن كان قاصرًا، نظرًا لغياب شكل الإيقاع فيه بعد الترجمة، خاصة لو لم يكن المترجم محترفًا. وتبدو التأثرات واضحة بكل من اليوناني ريتسوس، الفرنسي جاك بريفير، الفرنسي هنري ميشو، نيتشه في شذراته، وغيرهم من الأسماء الأخرى ولكن بقدر أقل.

يستعيد إبراهيم أيضا الكتاب الذي ترجمه ("مقدمة لقصيدة النثر، أنماط ونماذج") باعتباره له أثر كبير في الجيل الحالي.

أشرف الجمال: الشاعر وجوهر الشعرية

صنيعة قراءة المنتوج الفني السابق

يتفق الشاعر أشرف الجمال مع كون الشعر حركة ممتدة دائما، ويقول إنه لا يمكن تصور انقطاع الشاعر عن المد الفني الذي يسبقه؛ الشاعر وجوهر الشعرية معا هما صنيعة ما قرأ من المنتوج الفني السابق الذي يكرس لوجوده جماليا في ذاكرة الروح ويمثل معينا للشاعر ما دام يكتب. ليس فقط التواصل مع الشعر المصري الجديد بل الشعر المصري الفرعوني القديم والشعر العمودي وشعر التفعيلة؛ إنها حلقات متواصلة وفاعلة؛ فالفن غير العلم من هذه الجهة، إذ إن النظرية العلمية الجديدة تقتل ما سبقها أما الفن فهو ثقافة التجاور والتداخل والقدرة على التضمين وديمومة التشكل.

أما عن أهم المؤثرات في الشعر المصري الجديد، فيعتقد الجمال أن من أهم المؤثرات سقوط الفلسفات الإثنية وتفتت الكليات الدينية والتمركز حول فردانية الذات في ظل تردي الأوضاع سياسيا واجتماعيا وحالة الاغتراب التي يعانيها الشاعر وجوديا، وهيمنة الرأسمالية الطبقية التي أدت إلى سيادة ما هو مادي ونفعي واختزال قيمة الجميل المقصود في ذاته فنا كان أو علما، حتى بات يُنظر إلى الفن على أنه رفاهية لا يحتملها الواقع ولا وطأة المعاناة، وهي كارثة ذوقية ألقت بالشعر في الهامش والمنفي والمغترب وغير المقدر رسميا وشعبويا. أما على مستوى التأثير الفني يقول الجمال إنه لا شك أن الترجمة مؤثر فاعل في تشكل وعينا بالشعر، ووسائل التواصل الاجتماعي على الإنترنت تمثل ساحة للمعروض الشعري والجدل النقدي الذي يثري ويضيف للفن قيميا وجماليا، بالإضافة إلى تماهي الأشكال الفنية وتداخلها كرهان يسهم في تحرر قوالب التقنية في قصيدة النثر وقدرتها على استيعاب التشظي الأكثر تركيبا وتعقيدا والأعمق في الرؤية والفلسفة.

يتحدث الجمال عن النثرية داخل القصيدة وتنوع الأساليب الشعرية، كالسرد والوصف، وشعرية الحكاية، وتقنية المشهدية التصويرية، والمخاطبات والمراسلات، وهو لا يهتم بطبيعة الانتخاب النثري الأسلوبي الذي يلجأ إليه الشاعر للتعبير عن تجربته وتشكيل رؤيته بقدر ما يعنيه جوهر الشعرية الكامن في النثر. ويرى أن الشاعر المحترف يدرك بوعيه وحدسه الخطوط الفاصلة بين السرد الهذياني وبين النثرية الشعرية. ويضيف أن هناك بالطبع من تتفلت داخل نصوصهم روح الشعر ويغلب عليهم القص أو الكتابة التقريرية المترهلة فنيا وجماليا، وهذا ليس عيبا في قصيدة النثر وإنما عيب في الشاعر الذي تتفوق عليه قوالب التقنية فلا يحسن توظيفها فيما يجيد الشاعر المتمكن انتخاب القيمة والبدائل الوظيفية ويتحكم فيها باحتراف كفيل بتحقيق الدهشة والوهج الفني الذي لا يمكن للبصيرة أن تخطئ روح الشعر فيه، كيفما كانت لغته وبنية النسق والتشكيل لديه. لا يفضل الجمال ذكر أسماء شعرية بعينها أثرت في الشعرية المصرية الجديدة، لكنه يذكر ترجمات عديدة للشعر على مستوى قصيدة النثر أثرت التجربة الشعرية المصرية، ويمكن القول إن الشعرية المصرية الجديدة نوعت من روافدها، مثل الأدب المصري الفرعوني القديم الذي تسري في أوصاله الهرمسية والأفلاطونية المحدثة في تجليها الصوفي المعاصر، إضافة إلى شعر أميركا اللاتينية والشعر الإسباني تحديدا ثم الشعر الفرنسي والأميركي والإنكليزي عند كثير من رواده.

يرى الجمال أن المتابعة الكبرى للمشهد الشعري العالمي تكون عبر الترجمات، أكثر من القراءات المباشرة للشعر بلغات مختلفة. ويضيف الجمال في النهاية أنه يعتني بنشر النصوص الشعرية للشعراء العرب والشعراء الأجانب جنبا إلى جنب، وبشكل دوري في موقع "مجلة قصيدة النثر" الذي أسسه منذ ثلاثة أعوام بهدف إثراء الساحة الشعرية وفك الحصار الأكاديمي حول هذا الشكل الفني الرائع والأنسب - في تصوره - لثقافة العصر الأكثر تداخلا وتركيبا وعمقا ورحابة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.