}

دراما رمضان: الدولة الأبوية المصرية بين المنع والترهيب

وائل سعيد 25 مايو 2018

أرض النفاق

كتب الروائي المصري الراحل يوسف السباعي عددًا لا بأس به من الروايات والقصص في مختلف الموضوعات، ولكن اسمه ارتبط في النهاية بحقلين أساسيين من حقول الكتابة: الرومانسية في روايات مثل "رد قلبي"، والفانتازيا في "نائب عزرائيل" و"أرض النفاق".

وفي هذه الأخيرة يطرح السباعي فكرة تعاطي الأخلاق على شكل حبوب، فيكون بوسعك حيازة الصفة المبتغاة بمجرد تناول تلك الحبة السحرية، بمعنى أنك لو توخيت صفة إيجابية مثل المروءة، فما عليك سوى تناول حبوب المروءة، أو صفة سلبية مثل النفاق فعليك بحبة النفاق. وهي الحبوب التي نفدت فور طرحها بمحل بيع الأخلاق، الذي يلجأ إليه بطل الفيلم فؤاد المهندس - تم تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي في أواخر الستينيات من إخراج فطين عبد الوهاب - لمعالجة مشكلاته الحياتية مع زوجته وجيرانه ورئيسه في العمل.

على أية حال، لجأ المُخرج في نهاية الفيلم إلى الحل الفانتازي؛ طالما أننا نعيش جميعًا في أرض النفاق فليس أمامنا سوى إجبار الناس على الأخلاق إجبارا، فيأخذ مسعود أبو السعد "شوالًا" كاملًا من حبوب الأخلاق ويُلقيها في نهر النيل، وبالفعل سرعان ما تنتقل عبر المياه للمواطنين فتعم الأخلاق أرجاء القاهرة في لمح البصر.

ومن الواضح أن القائمين على أمور الدولة حاليا - في شتى المجالات - تُهيمن عليهم فكرة السباعي، أو فكرة فؤاد المهندس، أو فطين عبد الوهاب، أو مسعود أبو السعد؛ أو بمعنى آخر ما هي ملامح الوصفة الأخلاقية الجديدة المهيمنة على الساحة الآن في مصر لتشييد فكرة الأخلاق فوق أرض النفاق؟ وخاصة أن موضوع تلك الوصاية الأبوية له حكاية طويلة... من زماااان.

فكرة الدولة الأبوية

بقيام ثورة 52، دخلت مصر عهدًا جديدًا من تاريخها الحديث، بعد احتلال عثماني دام أكثر من خمسمئة عام. ولعدة أسباب هيمنت على فترة جمال عبد الناصر فكرة "القومية العربية"، لا سيما بالتعاون الرسمي من قبل الدولة المصرية مع الثورات العربية في المنطقة مثل ليبيا والجزائر. بينما ظل الرئيس محمد أنور السادات يحارب من أجل فرض سيطرته الداخلية، خاصة وقد تولى الحكم بعد كاريزما عبد الناصر التي حازت على التقدير العالمي. إلى أن تم النصر في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 73، ومن بعدها بدأ السادات في رسم الصورة الجديدة للرئيس الأب والرئيس المؤمن، وترسيخ فكرة الدولة الأبوية والتي تتولى فيها الحكومة جميع شؤون الفرد الشخصية والعامة، وبذلك تغلغل النظام السياسي في جميع جوانب حياة المواطن.

 وتم تبني فكرة النظام الأبوي في الوطن العربي في شكلين، إما في صورة نظام إيديولوجي شمولي قائم على تطبيق إيديولوجيته على كل جوانب إدارة الدولة، أو عبر نظام وراثي كما هو الحال في معظم البلدان العربية. وقد ساعد السادات في تطبيق ذلك النظام كونه بطل الحرب والسلام فلا يوجد أي مجال للخلاف معه أو الخروج عليه، ومن ثم أُضيفت حلقة جديدة ومستوى آخر في رسم صورة القبضة الأمنية، التي تجلت في فترة مبارك، وخاصة في العقد الأخير من حكمه.

وعقب المفاجأة، التي هزت المنطقة بأكملها بعد ثورات الربيع العربي، وسنة وُصفت بأنها كابوسية لحكم الإخوان، جاء النظام الحالي بخلفيته العسكرية وبدعم الجيش - أقوى سلطة مصرية حتى الآن - حاملا جميع الصور السابقة في الحكم، وأكثر ميلا للجمع بين قومية عبد الناصر وأبوية السادات، الأمر الذي يتضح في كثير من الخطابات الرئاسية في الفترة الأولى وبداية الثانية، بالتشديد على فكرة العودة إلى الأخلاق أو التوجه الأخلاقي الجمعي، ومن ثم بدأت في الظهور من آن لآخر الكثير من المبادرات الفردية أو المؤسسية باللعب على هذه الفكرة.

ولن ننسى بالطبع جانبا آخر يشكل آليات التحكم المطلق من الدول الأبوية في الثروات القومية، ومن ثم يترسخ منذ الصغر في ذهن المواطن أن الدولة هي الجهة الوحيدة المنوط بها إدارة تلك الثروة، وأنه لا يستطيع تقرير مصيره بمفرده إلا داخل إطار النظام القائم، "بدليل تبعات الربيع العربي على المنطقة بأكملها".

المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام... وفرض الأخلاق

قبل أن ينتهي عام 2016 صدرت (القرارات الجمهورية 158 و159 و160 بتشكيل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والهيئة الوطنية للإعلام، وذلك طبقاً لنصوص ومواد القانون 92 لسنة 2016 والذي نص على تشكيل المجلس والهيئات المذكورة بناء على ترشيحات مجلس الدولة ومجلس النواب ونقابة الصحافيين والإعلاميين والعاملين بالطباعة والصحافة والإعلام والمجلس الأعلى للجامعات ووزارتي الاتصالات والمالية). وأن تختص "لجنة المعايير وميثاق الشرف الإعلامي" بـ: وضع ضوابط ومعايير ممارسة العمل الإعلامي، ووضع ميثاق الشرف المهني بالاشتراك مع النقابة المعنية. وعليه فقد استقبل الكاتب الصحافي، نقيب الصحافيين الأسبق مكرم محمد أحمد، ورئيس المجلس الأعلى للإعلام، خريطة الدراما التلفزيونية لشهر رمضان، بفرض غرامة قدرها 250 ألف جنيه على كل لفظ خادش للحياء يرد في مسلسلات هذا العام. ويكون المرصد الإعلامي الخاص بمتابعة المسلسلات هو المُراقب.

وكالعادة، طفت على الساحة فرق المؤيدين والمعارضين لهذا القرار وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بالنكات والتهكمات، من قبيل حساب إجمالي الغرامة لأكثر من لفظ خادش للحياء في المسلسل الواحد، وما إلى ذلك.

وطالب مكرم بخضوع المسلسلات للرقابة على المصنفات، مثل أفلام السينما، على أن تتقدم شركات الإنتاج والقنوات بالعمل الفني قبل رمضان من كل عام لتتمكن الرقابة من مراجعته قبل العرض.

يذكر جاك باسكال في كتاب "الدليل السينمائي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، أن مهمة الرقابة هي أن "تحول دون نشر كل ما يهيج الجمهور، كمناظر الوقعات الحربية في أوقات الحرب، والروايات الوطنية التي تستفز الشعور في الأمم المغلوبة على أمرها"، وكان ذلك خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي الفترة التي وقعت فيها مصر تحت الاحتلال البريطاني.

وإذا كان باسكال قد شرّع الرقابة في أوقات تاريخية معينة، فسنجد اجتهادات كثيرة في تطور هذه التشريعات الرقابية وحدود مختلفة بين المنع والترهيب، وبين آفاق رحابة الحرية التامة للفن، كما قال الدكتور نصر حامد أبو زيد بأن "الفن هو ممارسة أقصى مستويات الحرية، يمارس الإنسان في الفن أقصى درجات التحرر، يتحرر من قيد الجسد في الرقص. من قيود الرتابة في الموسيقى. من قيود المادة في الفن التشكيلي. ومن قيود اللغة التداولية في الشعر والأدب".

وكما ذكر السلف: أينما وجدت معارضة لا بد من أن يصاحبها تأييد، حيث أيد المخرج التلفزيوني مصطفى الشال قرار المجلس، قائلًا إن الدراما التلفزيونية يجب أن تحافظ على عادات وتقاليد المجتمع المصري، متعللًا بأنها تدخل البيوت مباشرة بعكس الأعمال السينمائية التي تختار الأسرة مشاهدتها، وتبذل الجهد في سبيل ذلك، ما يجعلها المسؤولة وحدها عن اختيارها.. وبذلك تُخلي الدولة مسؤوليتها عن تبعات اختيارات تلك الأُسر. و"بأن قرار المجلس سيجبر كتاب الدراما على اختيار ألفاظ سيناريوهاتهم الرمضانية، وهو ما يؤدي لاختفاء الألفاظ الفاحشة من الدراما حتى وإن كان بشكل تدريجي وليس جذريا". 

في حين رأى السيناريست محمد حلمي هلال أن "هناك قانونا للرقابة على المصنفات الفنية وفيما عدا ذلك يعتبر من وجهة نظري نوعا من البلطجة والفتونة"، واصفا ذلك الفعل بالتآمر على الإبداع، ولذلك - حسب قول هلال - "ستجد أن الألفاظ موجودة كما هي تنهش كالسرطان في صلب الدراما.. كان بإمكانهم توجيه الرقابة إلى ضرورة حذف الألفاظ التي يرونها خادشة للحياء لكن للأسف كل ما يفعلونه الآن هو الخادش للحياء والفن والإبداع".

ومن جانبها، وصفت الناقدة السينمائية صفاء الليثي قرار المجلس بأنه، كما يقول المثل المصري: "بيجوا في الهايفة ويتصدروا".. وعددت عدة قضايا كانت أولى باهتمام المجلس بدلا من البحث عن طُرق فرض الأخلاق، منها قوانين النقابة وتحسين شروط الإنتاج، واحترام المُشاهد بتقليص فترة الإعلانات.

أما الناقدة الشابة نرمين يُسر، فيُذكرها هذا القرار من المجلس الإعلامي بالفترة الكارثية التي سيطرت على إبداع صناعة السينما في هوليوود في الخمسينيات، حين ارتعبت أميركا من المد الشيوعي إليها وظن القائمون على الدولة بأن الشيوعية ستحل محل الكنيسة إذا انتشرت، ما جعل بعض المُخرجين وكتاب السيناريو يلجأون إلى محو أسمائهم من أفلامهم.

كما تهكم المخرج العالمي وودي آلن على ذلك من خلال فيلمه الكوميدي The Front، وفيه يرصد رحلة مجموعة من المبدعين العاطلين من الكتابة بسبب إدراج أسمائهم ضمن 250 اسمًا في القائمة السوداء، وكلما كتب أحدهم سطرا جديدا سارع إلى محوه خوفًا من تأثير الجملة أو المشهد على "زبانية الإبداع الواقفين له بعدّاد يعدّ عليهم الحروف والكلمات".

ويستهل الروائي السيد نجم حديثه قائلا: يجب الاعتراف بخلل ما نال من مكانة الذوق السليم، مع هيمنة مفاهيم وظواهر عامة دون تنقيح أو حتى ما يلزم الالتزام به لرفع مستوى الذوق العام.

ويضيف: لعل السبب الوحيد في ظني هو أن الدولة تتخلى عن دورها الرائد والمرشد في إنتاج الأعمال الأدبية والفنية والمسرحية الكفيلة بوضع (بوصلة) لبقية الأعمال المنتجة في السوق المفتوحة والتي لا يلزم قهرها بالعنف بل بالتوعية المباشرة وغير المباشرة، وتقديم القدوة والمثل.

ويُلفت نجم النظر إلى أن تلك العقوبات المالية قد لا يأخذها المنتجون في الاعتبار طالما حجم الأرباح يفوق بكثير أي غرامة، "بالتالي لا بديل عن البحث الجاد عن الحل الجذري، وهو إنتاج ما لا يمكن للقطاع الخاص إنتاجه، وهو الأعمال الفنية التاريخية والدينية بصورة فنية جيدة، ثم إنتاج الدراما وغيرها غير المُسفهة ولا البذيئة كنموذج ناضج بلا افتعال".

ويرى أن الحل الوحيد يكمن في العودة لإنتاج الدولة للدارما: "ولا ننسى ما أنتجه قطاع الإنتاج ومدينة الفنون من قبل وكيف راجت الدراما المصرية وأصبحت من أهم القوى الناعمة التي نبحث عنها الآن.. إذن الحل في الإنتاج المتميز بمعرفة الدولة وليس بفكرة الجباية!".

"لو تم تطبيق لائحة الدراما بالفعل لما عُرضت أهم وأنجح المسلسلات في السنين الأخيرة"، هكذا يُخبرنا الناقد أندرو محسن، ورغم ذلك فهو مع الحرية الإبداعية، فجميع القيود والقوانين تُقيد الإبداع بشكل أو بآخر، وبالتالي سيؤثر ذلك على اختيار الموضوعات والمعالجات الفنية.

ويشير أندرو إلى أن رقابة المشاهدين أنفسهم فاقت الرقابة الرسمية في السنوات الأخيرة بلفظهم لبعض المسلسلات التي تُقدم السم في العسل، كما الحال مع مسلسل "سابع جار" والذي لاقى اعتراض المشاهدين على السياق الدرامي غير المتوافق مع العادات والتقاليد المصرية.

أما المخرج السينمائي هاشم النحاس، فقال: الرقابة كما نعرفها تختص بالتصنيف العمري، وليس من حقها التدخل في حرية الفن وحرية الفنان سواء بالزيادة أو النقصان أو الحذف أو فرض أي وصاية أخلاقية أو دينية، وهذا لا يعني أن الفنان لا حدود له، بل حدوده الطبيعة البشرية التي تسعى لكل ما هو جديد ومختلف يرقى بالذوق العام للجمهور.

فضيلة... وقداسة

منذ أيام قليلة خاطب المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام القنوات التلفزيونية والشبكات الإذاعية الخاصة والعامة وكذا الصحف القومية والخاصة، بمنع ذكر اسم شيخ الأزهر دون أن تسبقه "فضيلة" الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف، وكذا ذكر اسم البابا دون أن تسبقه "قداسة" بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية.. وهنا يبقى الترقب والانتظار لقيمة الغرامة الجديدة والتي لا محالة هي على الأبواب!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.