}

حالة حرية التعبير في مصر: تكميم الأفواه كسياسة وحيدة

أحمد عبد اللطيف 1 يونيو 2018
هنا/الآن حالة حرية التعبير في مصر: تكميم الأفواه كسياسة وحيدة
حرية الصحافة في مصر Sean Gallup/Getty

سيكون ملفتًا للانتباه رصد أن حالة حرية التعبير في مصر قد تراجعت إلى الدرجة صفر، في السنوات الأخيرة. والملفت بالتحديد أن يحدث ذلك عقب ثورة خرجت بالأساس للمطالبة بمزيد من الحرية، فعادت بمزيد من القمع. هذه المفارقة تحدث عادة في أنصاف الثورات، حين لا يحقق الثوار أهدافهم، فتشغل الثورة المضادة مساحة كان يجب أن تشغلها الثورة، فيحدث حينئذ الانتقام من المطالب ذاتها، من الشعار. لكن في الحالة المصرية، لم تكن عملية الانتقام وقتية، ولا هي محاولة "لتأديب" المتمردين، ولا عادت حرية التعبير إلى منطقها المتوازن، بل انطلق سهم الانتهاكات وأصاب في طريقه كل من صادفه. هذه الريح حملت سياسيين وصحافيين ومثقفين وكُتابًا وكُتّاب رأي، واستولت على كل وسائل الإعلام الاجتماعية، الخاصة والحكومية، فأصبح الجميع يرتدي الزي الموحد المموه، حالة تشبه حالات الجنون التي تصيب المواطنين في حالات الحرب، لكننا هنا من دون حرب. المثير أن سهام الانتهاك لا تتوجه فحسب إلى من يسمونهم "أهل الشر"، إنما تصوب في صدر المسرحي والروائي والمصور والإعلامي، كأن هدفها الحقيقي هو الكلمة، من يكتبها ومن ينطق بها.

تقرير حرية التعبير

على ضوء هذه الخلفية، يمكن قراءة التقرير ربع السنوي (يناير- مارس 2018) الصادر عن مؤسسة حرية الفكر والتعبير، وهو تقرير يتميز بالمنهجية والموضوعية، ويعمل على رصد الأحداث التي أثّرت بالسلب على حرية التعبير. وهنا ينطلق من حدث الانتخابات الرئاسية والاستعدادات لها، وهو ما توافق مع الربع الأول من العام الجاري.

لم تكتف السلطة المصرية بحجب الكثير من المواقع الصحافية التي تبث خطابًا موضوعيًا أو نقديًا لاذعًا، مثل العربي الجديد ومدى مصر وبداية، فضمت خلال هذه الشهور موقع الأخبار اللبنانية، عقب نشر خبر عن إقالة مدير المخابرات العامة. يشير التقرير كذلك إلى الانتهاكات التي حدثت على ضوء ترشح مصريين للانتخابات الرئاسية، كما حدث للفريق أحمد شفيق وللفريق سامي عنان، وانسحاب المرشح خالد علي اعتراضًا على أداءات السلطة في تعاملها مع العملية الانتخابية والمعوقات التي تضعها أمام أي مواطن مصري يحق له الترشح. فخلال هذه الشهور، حاولت السلطة مراعاة صورتها أمام الخارج: إقامة انتخابات ديمقراطية يشارك فيها العديد من المرشحين في مواجهة الرئيس الحالي. لكنها في نفس الوقت، داخليًا، ارتكبت كل ما ترتكبه أي سلطة مستبدة تنفرد بالسلطة ولا تسمح لأحد بالاقتراب منها. هذه إحدى أزمات السلطة الحالية، أنها تنظر للخارج على حساب الداخل، بل إنها لا ترى الداخل من الأساس. وبذريعة محاربة الإرهاب و"قوى الشر"، ترتكب كل الفظائع الممكنة في حقوق الإنسان. ليس لأنها تعتقد ذلك، بل لأنها تريد تكميم الأفواه، حتى خطابها الخاص بمحاربة الإرهاب لا يبدو أنه موجه للداخل، بل للخارج، وهي محاولة جلية لتبرير 30 يونيو.

مهاجمة الإعلام الأجنبي

رصد التقرير أداء السلطة الإعلامي، حيث الاستحواذ على كل المنصات الإعلامية من أجل الترويج للنظام نفسه، في مقابل إغلاق كل الفضاءات لأي مرشح محتمل. وبعد الاطمئنان لانسحاب أي قوى منافسة، اختار سياسيًا مجهولًا لا يعرفه رجل الشارع ليكون المنافس للرئيس الذي رُوِّج له كصانع الإنجازات، والذي أنقذ مصر من مخالب الشياطين. وتوسع في الهجوم على الصحافة الأجنبية، لأنه بالطبع لا يستطيع السيطرة عليها، من ضمن الهجوم كان مطالبا بمقاطعة البي بي سي بعد نشر تقرير حول الاختفاء القسري، وترحيل صحافية أجنبية بعد لقائها بعبد المنعم أبو المفتوح.  

العودة إلى دولة البصاصين

التقرير أشار إلى حادث ربما لم ينتبه له الكثيرون، وهو صدور قرار من النائب العام للمحامين العموميين ورؤساء النيابة بمواصلة مراقبة وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ثم نشرت النيابة أرقامًا تليفونية يمكن للمواطنين أنفسهم الإبلاغ عن مواطنين آخرين يرون أنهم يشيعون ما يضر مصلحة الدولة أو يوجه إساءة لأجهزة الأمن.

يعتبر هذا القرار أخطر الخطوات التي يتخذها النظام لتكميم الأفواه. إنه، بمعنى أوضح، مطالبة بالوشاية بالأصدقاء والجيران والمعارف، وهو استعادة لمحاكم التفتيش الإسبانية والقيصرية الروسية، ودولة البصاصين المملوكية. بهذه الخطوة لا يكتفي النظام بمعاقبة المعارضين السياسيين ولا المثقفين المناوئين، بل يمد الخيط على آخره ليصل لمعاقبة مواطن عادي عبّر عن رأيه في وسيلة غير رسمية وهي الفيسبوك أو تويتر. المفزع أن السلطة تجند مواطنين عاديين للوشاية، وكأن ما تفعله أجهزة الأمن غير كافٍ فتبحث عن مخبرين من المواطنين أنفسهم. بذلك يتجاوز انتهاك حرية التعبير إلى انتهاك الحرية الشخصية ذاتها، كأن هناك اختيارات قليلة يجب على المواطن أن يختار بينها. إما مدح السلطة أو الصمت، لكن المدح هنا يشمل أيضًا الاتفاق على كل قراراتها الخاطئة من بيع جزيرتين، ورفع الأسعار، وسوء الأحوال الاقتصادية، وتراجع الخدمات. بهذا القرار، تطالب السلطة المواطنين بأن يتخلوا عن كونهم مواطنين ليكونوا مجرد قطيع.

مراقبة الاتصالات

وإحكامًا في المراقبة، يشير التقرير إلى قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية والذي يحتوي على 45 مادة تدور في محتواها حول تقنين المراقبة الشاملة على الاتصالات، ويلزم شركات الاتصالات بالاحتفاظ ببيانات العملاء من مكالمات ورسائل لمدة 180 يومًا، وتسليمها للأمن القومي في حالة الاحتياج إليها.

القبض على صحافيين

وفي عودة إلى حرية الصحافة والإعلام، يرصد التقرير ما تعرضت له جريدة المصري اليوم، أولًا بإحالة رئيس تحريرها إلى التحقيق بنقابة الصحافيين، بعد نشر جريدته خبرًا يتعلق بإحدى سيدات الأسرة المالكة السعودية، واعتبره المجلس الأعلى للإعلام "مخالفة للكود الأخلاقي". ثم سريعًا ما أُقيل رئيس تحرير الجريدة عقب نشره تقريرا عن الانتخابات الرئاسية كان عنوانه يحمل مضمون أن الدولة تحث المواطنين على النزول للانتخابات. حدث كذلك وقف لبرنامج "الوسط الفني" لمدة أسبوعين، عقابًا له على عرض ملابس خاصة لإحدى الممثلات ارتدتها أثناء أحد أفلامها. ويشير التقرير إلى أن "المجلس الأعلى للإعلام هو أكثر الجهات التي تنتهك حرية الإعلام بعدد 13 انتهاكًا، تليه الجهات الأمنية بـ12 انتهاكًا، من إجمالي 33 انتهاكًا رصدها التقرير في حرية الصحافة والإعلام".

الربع الأول من العام شهد القبض على 6 صحافيين لأسباب سياسية، سواء إجراء حوار مع المستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات ومستشار الفريق سامي عنان في الانتخابات الرئاسية المبتورة، حيث اتهم الصحافي بالانتماء لجماعة محظورة، أو الاختفاء القسري ثم الظهور في سرايا الأمن القومي بنفس التهمة مضافًا إليها نشر أخبار كاذبة، أو القبض عليهم أثناء تأدية عملهم، كما حدث للصحافية المصرية بجريدة البيان مي الصباغ أثناء تصوير ترام الإسكندرية من أجل تقرير صحافي.

أكثر من تكميم أفواه

كل هذه الانتهاكات وقعت في ثلاثة شهور فقط، وهي جرائم مبالغ فيها في حق حرية التعبير، ويترتب عليها مزيد من القمع وتحويل وسائل الإعلام إلى مجرد بوق لجهاز الشؤون المعنوية التابع للقوات المسلحة، وسيكون من الأجدى حينها إغلاق كل المنابر الإعلامية والصحافية والاكتفاء بالعماء المطلق.

برصد هذه الانتهاكات، يصعب تخيل أننا نعيش في دولة لها قوانين ودستور يحترم حرية التعبير في مواده، إذ أن القوانين الجديدة بالمراقبة الصريحة لوسائل الاتصالات تعني انتهاء مرحلة الكلام بصوت خفيض لنصل إلى قطع الألسنة.

وإذا كان دور وسائل الإعلام والصحافة تكرار صوت السلطة كصدى، وإذا تخلت هذه الوسائل عن دورها في النقد والاستقصاء، فما جدواها إذن؟ ولماذا لا نعود صراحة إلى دولة المماليك بصورتها المعروفة، بدون أن نرتدي بدلة وربطة عنق لنطبق بها نفس المنهج الفكري في التعامل مع الحرية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.