}

رسالة إعجاب من رئيس عربي إلى كاتب، لا العكس

باسم المرعبي 26 أبريل 2018
هنا/الآن رسالة إعجاب من رئيس عربي إلى كاتب، لا العكس
مقطع من الرسالة

  

عربياً، أو في منطقتنا عموماً، ما مِن تقليد ينطوي على احتفاء لسياسي بكاتب، سيما عندما يكون الأول في قمة هرم السلطة، وإذا ما التفت إلى كاتب ما فمن أجل استخدامه، في الغالب، وليس تقديراً لامتيازه. لذا فإنّ أي علاقة تقوم بين الاثنين تكون مدعاة للشُبهات، لأن ثمّة تاريخاً كتبته السلطة بالسياط والسيوف على جسد الكاتب. والكاتب في عرف السلطات العربية كائن يثير التوجّس في العادة، وهو بالنسبة لها، صنفان إما تابع، خانع وهذا يعامل معاملة القطيع لأنه مأمون الجانب، إن لم يكن امتداداً لأجهزتها، وإما مناوئ وبهذا يكون مصدر قلق وريبة وقد ينتهي به الحال إلى الصمت قسراً أو السجن أو القبر. لا صداقة في عالمنا العربي بين الكاتب والسياسي ولا نظرة تنم عن الإعجاب والإكبار، على غرار ما عرفته وتعرفه الكثير من بلدان أوروبا أو حتى أميركا اللاتينية، خاصة بعد التحولات الديمقراطية التي شهدتها بلدان هذه القارة. أمثلة عديدة تحضر عن التقدير الذي حظي بها كتاب ومفكرون أوروبيون أو من بلدان أُخرى، وفي مواقف مثل هذه، تتقدّم على الدوام، عبارة ديغول الشهيرة حين اقترح وزير داخليته اعتقال سارتر للحدّ من توسّع الانتفاضة الطلابية والعمالية التي شهدتها فرنسا في مايو من العام 1968، حيث رفض هذا الطلب، قائلاً: فرنسا، لا تعتقل فولتير، لينتصر بذلك لقيم الديمقراطية التي تتيح التعبير الحر، ويذكّر بما كابده فولتير من تضييق ومصادرة، في عصره، أي قبل الثورة الفرنسية، هذا من من جهة، ومن جهة أُخرى أدمج في موقف واحد إعجابه وتأكيده كممثل للأمة الفرنسية، بهذين المفكرين وقيمتهما. لكن عربياً، يبدو أنّ التاريخ في كل مراحله لا يمكن أن يسعفنا بمثال واحد على انعقاد صداقة أو صدور كلمة إعجاب بحق شاعر أو كاتب، خارج نطاق المجاملة الروتينية بكلمة أو كيس دراهم، غبّ قصيدة مديح، مثلاً.

وإذا ما قامت مثل هذه العلاقة فإنها سرعان ما تنحدر إلى الحد الذي تصبح فيه حياة الأديب عرضة للخطر. والأمثلة على وقائع التنكيل بحق الأدباء، تكاد لا تُحصر، من طرفة بن العبد، إلى عبد الله بن المقفع الذي قُطّع واُحرق حياً على يد سفيان بن معاوية بن أبي صفرة نائب الخليفة المنصور على البصرة، بأمر من الأخير. مروراً ببشار بن برد ودعبل الخزاعي، وقبلهما، يزيد بن مفرِّغ الحميري، صاحب البيت المشهور: ألا ليت اللحى كانت حشيشا ـ فنعلفها خيول المسلمينا، والذي تنقل الروايات عنه أنه كان يخط أبياته المعارضة على جدران زنزانته، في سجون الأمويين، فكان السجان يأمره بإزالتها بأظافره حتى تدمى. مسلسل الإرهاب هذا بحق المبدعين والمثقفين، لم يتوقف على مرّ العهود، وصولاً إلى الدولة الحديثة، وعلى امتداد الخارطة العربية. وواقعة اختفاء أو إعدام الكاتب العراقي عزيز السيد جاسم، في سجون نظام صدام، عام 1991، شاهدة على استمرار الجريمة، ولم يشفع له كتابه، الذي سطّره عند اعتقاله الأول عام 1988 في حوالي 600 صفحة، بعنوان،"صدام حسين: عملاق في الرافدين"، بإنقاذه من مصيره المشؤوم.

 

من التنكيل إلى التبجيل

غير أن المثال التالي يأتي على النقيض مما هو تراجيدي في العلاقة بين السلطة والمثقف والذي ألمحتْ إليه مقدمة هذا المقال، بابتسار. هذا الاستثناء في العلاقة، بل حتى في طريقة المخاطبة، بين مَن يختصر كل السلطات في شخصه ـ حتى لو ظاهريا ـ والمقصود هنا الرئيس العراقي أحمد حسن البكر 1968 ـ 1979 وبين كاتب هو حسن العلوي. استثناء، كأنه متأتٍ عن خطأ، قياساً، إلى سياق منتظم من العداء والتوجس بين الطرفين. في رسالة البكر الموجّهة إلى حسن العلوي، بداية العام 1978، تنقلب المعادلة فيصبح الكاتب هو صاحب السلطة، والرئيس مجرد قارئ معجَب، ينزع عن نفسه، عن قصد، كل الألقاب والمزايا وحتى السلطات، ولا يطمح إلى سوى أن ينال ثقة الكاتب المخاطَب، بدلالة قسَمه الذي يسوقه في رسالته، بأنّ لا غرض له سوى التعبير عن إعجابه بأسلوب الكاتب وقبل كل شيء، بموضوعه، فضلاً عن أن رسالته تضمنت رسالة أُخرى وهي حثّ الكاتب وتشجيعه على انتهاج أسلوب تحبيب العراق لأبنائه، قاصداً في الوقت ذاته إلى جعل الكاتب مثالاً يُحتذى من قبل الكتّاب الآخرين، في الأسلوب والمنهج. إنّ ما انطوت عليه الرسالة ببساطتها ونواياها التي لا تشوبها شائبة، يبقى رهناً بشخص مرسلها ولا يمكن أن تكون لسواه، بمعنى أن شخصية الرئيس أحمد حسن البكر، تتجلى هنا على سجيتها كاملةً كما عرفها العراقيون أثناء حكمه أو فيما بعد، بما نُشر وعُرف عنه. فهو حقاً وكما كشف في رسالته لا يتطلع إلى المديح ويمقت التزلف، مثلما كان يكره الظهور الإعلامي.

وثمة الكثير من النقاط في سيرة البكر التي يعرفها العراقيون تُحسب لصالحه، أهمها نزاهته وحرصه على المال العام والعمل على تنمية البلد، بكل مرافقه، لا سيما الصناعية، وقد عرف العراق في عهده نهضة شاملة امتدت إلى كل مناحي الحياة العراقية، تعليمياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وهو مما يتفق وشخصية البكر المحبّة للعراق والعراقيين، الأمر الذي تؤكّده رسالته التي يمكن عنوَنتَها بحبّ العراق، فهو أراد من خلالها الدعوة إلى تثقيف العراقيين، بل وتربيتهم على حب وطنهم، والرجل كان محقاً، فما يعوز العراق، وأي وطن، الآن ودائماً هو حب أبنائه له. ليس مهماً أن تكون رسالة كهذه بسيطة التعبير، أو مشوبة بالضعف في بعض عباراتها، فمرسلها ليس بكاتب أو مفكر، وهو رجل عسكري قبل كلّ شيء، غير أن رسالة كهذه تجيء على الوجه الأكمل من البلاغة على مستوى المضمون، إن كان مصدرها وموردها محبة الوطن وإفشاء هذه المحبة وما يعنيه ذلك لجميع ساكنة الوطن، على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم. إن روح التواضع التي اتصف بها البكر، إجمالاً، هي التي جعلته زاهداً في الحضور الإعلامي ففي الوقت الذي كان "نائبه" صدام، في السنة التي سبقت إزاحته، أي البكر، يجوب البلاد طولاً وعرضاً، أمام كاميرات التلفزيون وعدسات المصورين، وإشغاله لساعات بث طويلة، كان هو يلوذ بمشاهدة مسلسل "تحت موس الحلاق" وهو مسلسل عراقي طريف، يحظى بشعبية واسعة، على جهاز الفيديو الذي زوده به محمد سعيد الصحاف مدير مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وقتها، كما يذكر ذلك زهير الجزائري في مقال له بعنوان ـ "القائد والصورة" ـ مجلة نصوص، العدد الأول 1994.

ولكي تكتمل صورة البكر، وهو ما تتطلبه الشهادة التامة بحقه ليتبيّن ما له وما عليه، ألجأ هنا، من بين شهادات وشواهد عديدة، في مصادر متفرقة، إلى كتاب "بقية الصوت ـ حسن العلوي.. الإجابات المؤجلة" والذي هو عبارة عن حوار مطوّل مع الكاتب، أجراه عدنان الأمير، ومنه أُخذت الرسالة موضوع المقال. يعقب العلوي على موقف يعزّز نزاهة البكر وترفعه عن البذخ، حين أحضر له صدام من باريس حذاءً بقيمة 200 دولار، هدية له، سأل البكر.. بكم سعر الحذاء؟ فقيل له عشرون دولاراً، فقال وماذا أقول لربي وأنا أدوس بقدمي عشرين دولاراً، بينما سعر الحذاء في (باتا) لا يتجاوز ثلاثة دنانير". ويعقب العلوي على الكلام الآنف، بقوله: لكن هذا الذي يخشى الله إذا ما داس على عشرين دولاراً، لا يخشى الله عندما يدوس على عشرين رقبة ولم يرفض التوقيع على مرسوم بإعدام ضحية...". ليستدرك بعدها باستنتاج ذكي ولافت عوّد قارئه على مثله في جلّ كتاباته، يقول: "وهذه ظاهرة في السياسة الإسلامية إذ كان بعض الخلفاء لا يهدرون الأموال بالسهولة التي يهدرون بها الدماء".

لقد أعادني إلى رسالة البكر وشيء من سيرته، القرار الأخير الصادر عما يُسمّى الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة في العراق، وهي مؤسسة لا تختلف عن بقية المؤسسات العراقية الراهنة، في فسادها وممارستها الابتزاز، حين أدرجت اسم الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر في قوائم المشمولين بمصادرة ممتلكاتهم وكان تسلسله 62 من أصل 4354 اسماً. البكر الذي لم تُعرف عنه أية مخالفة مالية، طوال حكمه، والذي أبعد عائلته تماماً عن أروقة الحكم، كما الإعلام، وكان العراق في عهده واحداً من أنظف دول العالم، لقوة القوانين وقسوتها بحق المرتشين والفاسدين، غير أن من المفارقة أن يصدر قرار كهذا ممن نهبوا العراق وباعوه بشكل فاجر لم يسبق له مثيل. ورسالة البكر في حب العراق، وقد وصفه العلوي بالهائم ببغداد، ليست لهؤلاء، بأي حال، بل هي للذين عَلا عندهم العراق على العرق والطائفة والقبيلة وكل انتماء فرعي ضيق أو مصلحة.

 

نص الرسالة

ـــــــــــــــــــــ

مجلس قيادة الثورة/ الرئيس

إلى الأستاذ حسن العلوي المحترم

تحية طيبة ثم السلام عليكم

كنت كغيري من الناس أستمع إلى تلفزيون بغداد مساء اليوم السبت 11/2 وإذا بالمذيع يقرأ على العراقيين أو غيرهم مقالا بعنوان (العراق) وهو ما كتب في ملحق صحيفة الجمهورية البغدادية. وقبل أن أدخل في الموضوع الذي أنا بصدده أريد أن تعرف بعض الشيء عن خصائصي، وقد يعرفها جيدا عني من زاملني في مختلف أدوار حياتي وعلى الأخص في حياتي السياسية، فلست ممن تستويهم عبارات الثناء وما يماثلها ولتعلم علم اليقين فإني أقسم بربّ الكعبة على ما أقول وربما سبب ذلك ناتج عن تكويني النفسي أو لنشأتي القروية الريفية.

وقد أوردت هذه المقدمة السريعة لتزداد اطمئناناً من أن سبب كتابتي إليكم هذه الرسالة لا بقصد التعبيرعن شكر لكاتب عراقي مخلص أشار إشارة مثلما أراحت نفوسا فهي أزعجت أخرى وما أرجوه من الله أن تبقى (وأمثالك كذلك)، بل وأؤكد في قضية تربوية نحن بحاجة إليها كإحدى وسائل تربية شعبنا العراقي الذي حرم أزمنة طويلة بكل أسف من مربين يربونه التربية الصالحة المخلصة أردت في الكتابة إليكم التأكيد على أمرين أو نقطتين بنظري مهمتين:

الأولى هي أن تستمر في الكتابة بموضوع تحبيب العراق بأعين العراقيين بين حين وآخر بل على الأقل في المناسبات الوطنية والقومية، وأرى في هذا الأسلوب ربطا أو شدا للجمهور العراقي بوطنه الصغير العراق، ليزداد أو ليتركز اعتزازه فيه سواء بهذا الأسلوب الجميل، أو عن طريق إثارة النخوة فيه بحيث نصل بهم في يوم ما إلى أن يحبوا العراق كحبهم لأنفسهم وذاتهم، وفي نفسي آمل أن يكون حبهم للعراق كحبي أنا لبغداد كما تراني أشجّع الشعراء في نظم القصائد العمودية منها طبعا في التمجيد بها، لأنها تمثل حاضرنا بل ماضينا (كعرب) والذي نفخر ونفاخر به. الثانية هي أسلوب الكتابة الجميل الخالي من الحشو والمصطلحات الحديثة الممجوجة، ففيها درس لباقي كتابنا المستجدين الذين صاروا يتصورون خطأ أن أسلوبهم الذي درجوا عليه هو أدب اللغة العربية. وفي الختام أرجو لكم سداد الرأي وكل الخير والسلام عليكم.

التوقيع
1978/2/11

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.