}

السلطة والمثقف: من العصا والجزرة إلى العصا وحدها

أحمد عبد اللطيف 20 مارس 2018
هنا/الآن السلطة والمثقف: من العصا والجزرة إلى العصا وحدها
غرافيتي الثورة المصرية

لا يزال سؤال علاقة المثقف بالسلطة سؤال الساعة، رغم ما طرحه غرامشي من قبل، وتناوله إدوارد سعيد في كتابه الشهير عن هذه المسألة، إنها علاقة متجددة وملتبسة بقدر ما هي قديمة وواضحة، ولعل الواقع الثقافي المصري خير مثال على هذا الالتباس، أو الوضوح. علاقة تتسم أحيانًا بالسمن والعسل، وتتسم أحيانًا بالعصا والجزرة، والآن وصل بها الحال، في ظل سلطة سياسية ضيقة الصدر بحرية التعبير، بالعصا وحدها. عصا تضرب بها المثقفين من دون أن تفرّق بين المؤيد والمعارض، بين المحب والمخالف.


زي موحد

 سؤال هذه العلاقة بدأ في الواقع المصري مع ثورة يوليو، ثورة الأحلام الطيبة واليد الحديدية، صديقة العدالة الاجتماعية وعدوة حرية التعبير، ثورة حملت في طياتها الحلم بمجتمع واحد يوتيوبي لا يختلف فيه شخص عن الآخر، ولا يختلف أفراد المجتمع عن الحاكم. في ظل هذه السلطة، طارد النظامُ الإخوانَ والشيوعيين على السواء، رفع خطاب الدولة القومية ذات اللون الرمادي، فكان نصيب من يخرج عن هذا اللون هو السجن والمطاردة. في ظل هذا النظام، اعترض المثقفون، تعرضوا للسجن، استُبعدوا من الحياة، أو اختاروا أن يكونوا تابعين للنظام، فنالوا بذلك شهرة وأضواء، فيما كان بعض آخر يتسم بذكاء ومكر في التعامل مع هذه السلطة، مثقفون لا يحبون الصدام مع النظام ولا يحبون موالاته. هذا التنوع في وجهات نظر المثقفين تجاه السلطة أفرز تعددًا في الرؤى، لكن الغريب، الأشد غرابة، أن بعض الكُتّاب الذين تعرضوا لسجون عبد الناصر صاروا مع الوقت كُتّابًا عسكريين، بمعنى أن النظام العسكرتاري الذي أسسه عبد الناصر واعترضوا عليه وسجنوا بسببه صار هو النظام الأكثر نموذجية بالنسبة لهم. هؤلاء كشفتهم ثورة يناير، إذ بات واضحًا أن ما ناضلوا ضده هو في الحقيقة ما يناضلون من أجله، ولعل الرجوع إلى تصريحات كُتّاب مثل جمال الغيطاني وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم، عقب الثورة وبداية حكم المجلس العسكري أولًا ثم التأييد المطلق لـ 30 يونيو و3 يوليو، يكشف لنا عن أي عقيدة يعتقدونها فيما يخص الحكم العسكري. ما بين كاتب طالب المجلس العسكري بأن يستمر في الحكم ثلاث سنوات (حين قال المجلس إنه سيستمر ستة أشهر فقط!) وكاتب طالب السلطة العسكرية بغلق الجامعات سنوات حتى يعود إليها الاستقرار رفضًا للتظاهرات السلمية، وما بين كاتب ثالث، رفض جائزة الرواية العربية في مشهد كاريكاتوري اعتراضًا على نظام مبارك، لكنه لم يكتف بتأييد انقلاب عسكري بل أيد المنقلّب بكل قلبه من دون حتى أن يتكلم عن قيم الديمقراطية أو المرور الحقيقي بمرحلة انتقال ديمقراطي، بين كل ذلك سقط المثقف، تحديدًا المثقف الستينتي الذي ناضل وسُجن في سجون عبد الناصر، السجون العسكرية التي بات يؤيدها فيما بعد.


مثقفو الستينيات

 لافت للنظر، للوهلة الأولى، أن المؤيدين للعسكر والمتوجسين من ثورة شعبية قد بلغوا أعمارًا لا ينتظرون فيها شيئًا من السلطة ولا يخافون فيها على أشياء يخسرونها. لكن بمراجعة المشهد لفترة مبارك سنكتشف أيضًا أنهم لم يعارضوا، إنما اكتفوا بالانزواء عن الاحتكاك بالسلطة أو كانوا جزءًا خفيًا منها، كأن نظام مبارك هو النظام المثالي والبيئة الخصبة التي يحتاجونها لينموا. غير أن مواقفهم باتت واضحة حين انحازوا لفئة تعادي الديمقراطية والحراك الثوري وحرية التعبير، ولم نسمعهم يعارضون السلطة إلا حين تولتها جماعة الإخوان، حينها اعتصموا في وزارة الثقافة وحينها دعوا لتظاهرات 30 يونيو. بالطبع لم تكن جماعة الإخوان جماعة ديمقراطية تدعو لدولة ديمقراطية حديثة، وهو مطلب الثورة، لكن العسكر، المتمثلين اولًا في المجلس العسكري ثم ثانيًا في الرئيس السيسي، ليسوا أيضًا ديمقراطيين ولا دعاة دولة حديثة. لقد تحرك المثقف الستينتي فقط حين خاف من دولة دينية، أما الدولة العسكرية فهي الدولة النموذجية بحسب تصوره.

 لكن هذا النظام كشف عن وجه كان معروفًا سابقًا وإن تجاهله هؤلاء المثقفون. وجه بدا جليًا حين حكمت سلطته القضائية على الكاتب أحمد ناجي بالسجن عامين حين اتهمته بنشر محتوى فاضح في جريدة قومية، هو جزء من رواية صنّفتها على أنها مقال. ثم نفس السلطة طاردت ذراعيها، الإعلامي إسلام البحيري والشاعرة فاطمة ناعوت، في قضيتين شهيرتين، فاتهمت الأول بالعبث بالتراث الديني واتهمت الثانية بالسخرية من الطقوس الدينية، والمتابع للأحداث يعلم أن كلًا منهما فعل ما فعل استجابة لمبادرة أطلقها الرئيس السيسي لـ "تجديد الخطاب الديني"، لكن يبدو أنهما لم يجدداه بالطريقة التي أرادها أو ربما فهما التجديد خطأ.

مهزلة تهمة جابر عصفور

  غير أن سلسلة المهازل تستمر بالحكم على الناقد جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق في حكومة السيسي، بالسجن ثلاث سنوات مع إيقاف التنفيذ وغرامة عشرة آلاف جنيه بتهمة توجيه إهانة إلى القضاء والنيابة العامة في مؤتمر دافع فيه عن حرية التعبير عُقد لمناقشة قضية أحمد ناجي. معركة ضد حرية التعبير يواجه فيها النظام نفسه، إذ لا يحتمل حتى النقد المحب، النقد من الداخل، وهو حدث يعقب مباشرة حادث القبض على الإعلامي خيري رمضان لتوجيهه لوما بسيطا للشرطة عبر برنامجه، لوما كان ثمنه قضاء أيام في الحبس ثم الإفراج عنه بغرامة.

لقد خسر المثقف الموالي للسلطة كل رهاناته، إنها ليست السلطة التي تواجه الدولة الدينية، إنها ليست السلطة التي تسعى لانتقال ديمقراطي، إنها ليست السلطة المعادية للاحتكار، وبالتأكيد ليست السلطة التي تطمح لحرية الرأي والتعبير وتستفيد من ماضي سلطات أخرى شاهدت بنفسها سقوطها على عتبات ثورة شعبية.

    بات واضحًا لهذا المثقف الموالي أن النظام احتكر الدين، فصار أكثر محافظًا ليثبت لعدوه الأبدي (الإخوان) أنه أكثر تدينًا منه، وقضى على أي أمل في انتقال ديمقراطي، لأنه بالأساس ضد الديمقراطية كما هو ضد السياسة، كما صرح الرئيس نفسه بأنه عسكري وليس سياسيًا، حتى في الاقتصاد ضرب رجال الأعمال ليحتفظ لنفسه بكل الأنشطة الاقتصادية في حالة تغوّل ضارية للسيطرة على الحياة المدنية بالكامل. ماذا ينتظر المثقف إذن؟ وماذا يقول الآن مثقفو "الإصلاح من الداخل"؟


مطاردة فرقة مسرحية

وإذا كان النظام يفعل ذلك، يضرب بالعصا مواليه إن فكروا بالنقد المحب، فليس غريبًا أن يطارد فرقة مسرحية ويسجن أفرادها، إذ خلال الأسبوعين الماضيين وجهت النيابة العسكرية تهمة إهانة الجيش لفرقة مسرحية وسجنت مخرجها ومؤلف العرض. المسرحية المعنونة "سليمان خاطر"، وهو أحد الجنود الأبطال في التصور الشعبي الذين قتلوا جنديًا إسرائيليًا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي عندما شاهده يتجاوز الحدود، ثم حكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام مراعاة لمشاعر إسرائيل، نكأت جرحًا عسكريًا تحاول السلطة مداواته أو تجاهله. ورغم أن المخرج أحمد الجارحي والمؤلف المسرحي وليد عاطف تعاملا مع المسألة بحرص شديد مدركين مساحة القمع وتكميم الأفواه، إلا أن مجرد طرح المسألة كان مستفزًا للنيابة التي حكمت عليهما بـ 15 يومًا حبسًا احتياطيًا ربما يلحقها حكم نهائي.

   تعيش مصر الآن، بكل تأكيد، أسوأ عصورها على مستوى حرية الرأي والتعبير، وتعيش الثقافة المصرية في محنة كبرى بعدما قرر النظام أن الجزرة غير صالحة في الوقت الراهن، وأن العصا، العصا وحدها، هي الحل لكل من تسوّل له نفسه مجرد التلميح بنقد السلطة. بذلك تحولت السلطة السياسية من سلطة بشرية إلى سلطة إلهية، سلطة مقدسة، وما على المثقفين الموالين لها غير الخجل من أنفسهم.

 

 *كاتب من مصر

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.