}

"ميريت": 20 عامًا من "لا لكاتم الصوت"

هشام أصلان 2 نوفمبر 2018
هنا/الآن "ميريت": 20 عامًا من "لا لكاتم الصوت"
محمد هاشم

1

كنا في نهاية يوم عمل طويل من صيف العام 2008، عندما سألتني الصديقة والمصورة المعروفة رندا شعث لو أحب أن أصحبها إلى "ميريت"، حيث فعالية ثقافية لا أتذكرها. وجدتها فرصة مناسبة للمرور. قلت لها إنني أعرف محمد هاشم منذ سنوات، ولكن لم أذهب إلى هناك من قبل. قالت ما يعني إنه "فايتني كتير"، وإنني لم أدخل بعد قلب الحياة الثقافية في القاهرة. ورغم النشأة في أحد أشهر بيوت المثقفين العرب، وجدت كلامها وجيهًا في سياقه الزمني. يومها قابلت أصدقاء كثيرين من أجيال مختلفة، ومن دون موعد، ليس بسبب حضورهم الفعالية الثقافية، ذلك أن أغلبهم كان في الغرفة الملحقة منهمكًا في السمر والأحاديث الجانبية.

2

في العام 1998 فتح محمد هاشم، في قلب القاهرة، دائرة عبور إلى مساحة يأمن لها كل كاره للتقليدي والثابت في جميع أشكاله. مساحة ساهمت في صناعتها لحظة زمنية مهمة، وشكّلتها عدة عوامل. جاءت مسنودة بعدد من أدباء وفنانين كبار ارتاحوا للابتعاد عن الحجرات الرسمية للثقافة. أعطوا للمكان من ثقلهم الأدبي، وحماه وجود بعضهم كمثقف عضوي يصلح مصدًّا لبطش لحظة مرتبكة سياسيًا، وقتما كانت هناك معايير مفهومة للبطش، بينما أعطاهم المكان فرصة تجديد دائم لدمائهم عبر الاحتكاك بأجيال جديدة من الكتاب والفنانين. فتح هاشم، بسمات شخصية نادرة، بوابة لالتقاء هؤلاء.

الفكرة كانت دار نشر تقدمية تأمل في إزاحة أي سقف للحرية، كل الحرية. بعد فترة قصيرة، ستتحول الدار إلى واحدة من أيقونات أماكن القاهرة الثقافية، ومزار المثقفين العرب، والذين يحبون المرور على "كافيه ريش" أو "الرجريون" يطلبون المرور على "ميريت". سيستقبلك هاشم كصديق قديم، وربما تجد نفسك جالسًا، من دون مناسبة، مع أحمد فؤاد نجم أو إبراهيم منصور أو محمد البساطي أو خيري شلبي، أو جميعهم. مؤكد هناك مجموعة كُتّاب وفنانين من أجيال أصغر في جلسات دردشة وضحك حتى ساعات الصباح الأولى. وقد تجد نفسك بين حضور اجتماع عفوي يخطط لمسيرة أو مظاهرة أو وقفة احتجاجية، أو مشاركًا في صياغة بيان يساند القضية الفلسطينية. هكذا، وبطبيعة الحال، تأهلت "ميريت" بامتياز لتصير بيتًا من بيوت ثورة يناير، وبالأحرى بيتًا من البيوت التي مهدت لتلك الثورة. لطالما كان ازدحامها مؤشرًا لشكل ميدان التحرير. تمتلئ فتعرف أن التحرير امتلأ. يأتي بعضهم لاستراحة سريعة. إسعاف أولي لجرح أو إغماءة قبل أن يعاود النزول. الداخل من باب الدار طوال أيام الاعتصامات سيجد الصالة الصغيرة، التي غطيت حوائطها بالكتب، مليئة بالشباب الخارج عن وصاية المنظرين، يأكل "لقمة" سريعة، يشرب شايًا دافئا، وتتبدل الوجوه بين ساعة وأخرى.

أثر هاشم ومكانه دفعا المشير طنطاوي "حاكم البلاد عقب رحيل مبارك" للوقوف ذات يوم في قاعة مجلس النوّاب عارضًا فيديو يلفّق له تهمة تسريح البلطجية لأعمال التخريب. يومها التفّ حوله شعراء وأدباء وناشرون وتشكيليون وسينمائيون من أجيال مختلفة، ملأوا مدخل العمارة ودرجات السلم القديم المؤدي إلى مقر دار النشر. أحاطوا به في مسيرة حتى ميدان طلعت حرب يهتفون: "سيبوا الورد يفتح سيبوا، هاشم منّا ومش هنسيبه". كان طبيعيًا فوز "ميريت" بجائزة نادي القلم الدولي من ألمانيا، كدار نشر ساندت حرية الكتاب والمناضلين، حيث وقفت وراء الكتابات والحراك السياسي المقاوم للقمع منذ نشأتها، ورأت صالتها اتفاقات تأسيس جماعات سياسية مثل "كفاية" و"أدباء وفنانون من أجل التغيير"، واحتضنت أبرز الوجوه الثقافية والسياسية التي غضبت عليها السلطة، غير أن إزاحة سقف الحرية تلك لم تقف عند مساندة المرفوض من قبل السلطة السياسية، ولكن من أي سلطة، ولو كانت سلطة استقرار خريطة الأدب عند معايير بعينها. من هنا، خرج إلى السطح عدد كبير من أعمال أدبية لشباب لم يكن أحد يعرفهم، بكتابة خرجت عن أي معنى للمعايير الثابتة. الآن، أٌفكر في أن هذا ما أثّر بشكل عفوي في تسمية الكُتّاب الذين ظهروا مع أوائل الألفية: "جيل الكتابة الجديدة"، ذلك أن أغلبهم، بالأحرى أبرز موجتهم الأولى، خرجت أعمالهم من "ميريت".

منذ حوالي عامين، أغلقت دار ميريت للنشر مقرّها الشهير في 6 ب شارع قصر النيل وسط القاهرة، وانتقلت إلى شارع صبري أبو علم القريب. ظروف اضطرت صاحبها محمد هاشم إلى ذلك. وقتها كان حزينًا ومعه شبان وفتيات اعتادوا الذهاب والمجيء إلى المكان. حزن يتعلق بالخوف من فقد متنفس لممارسة الحرية والفن والحياة، وذكريات واحد من أهم بيوت الثورة. لكن الحزن لم يطُل، قلنا لبعضنا البعض: ستتجدد الحالة بشكل مؤكد مع المقر الجديد.

بالأمس كان المكان محميًا بأسماء يصعب على السلطة أن تتعامل معها بغشم. واليوم، بينما رحلت عن الحياة أغلب هذه الأسماء، بات يحمي المكان صمود هاشم أمام ظروف عامة وخاصة صعبة، لا تدعمه سوى عاطفة لا تقدر على تخييب ظن شباب يرون في "ميريت" ملجأً لأحلام التغيير، أو في أسوأ الأحوال، نوستالجيا دافئة لذكرى مهد تلك الأحلام.

3

في العام 2008، وبعد مروري الأول عليها بأسابيع، تحتفل "ميريت" بذكرى ميلادها العاشرة في مسرح "روابط"، وسط تألق الحالة التي أُنشئت في الأساس لتحقيقها. الكثير من الأدباء الشباب، وبعض الأدباء الذين فضلوا تلك المساحة عن المساحات الرسمية. موسيقى وغناء يعبر عن اكتمال يقترب لفنون "الآندر جراوند" انتصارًا على سلطة مسؤولي خريطة الغناء الرسميين وغيرهم. وأجواء كانت تفترض طريقًا أفضل قبل أن تنكسر الأحلام عند حدود استماتت السلطة في عدم تجاوزها.

منذ أيام أعلن هاشم عن مجموعة كبيرة من الإصدارات الجديدة، بعد فترة كبيرة من عدم النشاط. وتأهب الجميع ليتذكر أن عشرين عامًا مرت، عشرين عامًا من "لا لكاتم الصوت" بتعبير ناجي العلي. الجميع يريدها هنا ولو في الحدود الطبيعية لوظيفة دار النشر، وينتظر إعلان "ميريت" مكان وزمان الاحتفال بعيدها العشرين.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.