}

روائيون عرب عن الجملة الافتتاحية للرواية:هي الرؤية الفلسفية للنص

إيهاب محمود 1 نوفمبر 2018

(1)

"توفيت أمي اليوم، أو ربما بالأمس لا أدري".

"بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، سيتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد".

الجملة الأولى للروائي الفرنسي ألبير كامو في افتتاحية روايته الشهيرة "الغريب"، أما الجملة الثانية فهي افتتاحية "مئة عام من العزلة" لغارسيا ماركيز.

(2)

يُخيل إلي أنه سينتهي العالم، وتزول آثاره، وسيصل الإنسان لأبعد مما تخيل بكثير، غير أن ثمة أمورا لن تنكشف أبدًا، منها الفن، وما يتعلق به، لا أظن أن أحدًا سيصل للتعريف الكامل، الوافي، لكنه الفن، وكذلك الأمر بالنسبة للكتابة، لن تذهب التحليلات أكثر من اعتبارها عملية معقدة، لا أكثر. ومن تعقيدات هذه العملية أن نصًا روائيًا لم يصل أصحابه حتى الآن لتحديد أهمية، وقيمة، وتأثير الجملة المفتاحية للرواية، متى تأتي، ما مدى أهميتها، وإلى أي درجة تفرق في التلقي، وإلى أي حد قد تجتذب قارئًا وينفر منها آخر.

هنا، يشارك خمسة من الروائيين العرب بتعليقات حول هذه الجملة الافتتاحية.

(3)

يحب الروائي المصري ممدوح رزق أن يكون للجملة المفتاحية في الرواية صوت "النداهة" في الأسطورة الريفية المصرية القديمة.. إغواء يوطده نوع من الهمس الشيطاني حتى لو كان يصف انفجارًا، أو يرصد عاصفة، أو يتأمل صرخة مضرجة بالدماء.. حتى لو كان مراقبة لضحكات طفل.

"أعرف يا أبي أنك أنت الذي فعلتها، أنت الذي تركت الرسالة التي فوجئ بها صباح اليوم أعضاء وزوار منتدى (أضواء المنصورة) وأبلغتهم فيها أنك قمت بالاستيلاء على المنتدى".. فتحت هذه الكلمات باب الأكاذيب الصادقة في رواية "خلق الموتى" لرزق، الذي يوضح: "أما الهمس فهو لا يحرّض على التوغل في الغابة فحسب، بل على اليقين أيضًا بأن ثمة خطابًا سريًا، شخصيًا تمامًا، يكمن في انتظار ذلك الذي يتعيّن عليه دون أحد آخر أن يكتشفه داخل ظلامها".

يتابع: "هكذا يمكن الإنصات إلى الروح الشريرة الفاتنة التي أراد ماركيز أن يستدرج قارئ "مئة عام من العزلة" بنبرتها الشبحية الخافتة نحو الشَرَك.. النبرة ذاتها التي استعملها كافكا في بداية "المسخ"، وبالطبع كانت لدى ألبير كامو في افتتاحية "الغريب". تُنسج الجملة المفتاحية وفقًأ لما يستقر عليه التواطؤ بين البنية المخاتلة للرواية ـ التي تتضمن ماضيها بالضرورة ـ وأبديتها الغامضة. بين ما يجدر بها إخفاؤه، والعلامات التي تحفّز التفاصيل المعلنة على الاستمرار في تجاوز نفسها.. بين الشروط المخادعة للعبة، ونزع الغائية عن أحلامها.. لذا يمكن القول بأن العبارة الأولى هي التعويذة المقتضبة التي أقرتها الرحلة الذهنية لتشييد المتاهة، والتي تحاول أن تضمن للرواية ألا تنتهي، أي أن يواصل القارئ كتابة ذلك الخطاب السري بينما يحاول اكتشافه، وهو ما قد يجعلها كما أشارت جيني ديفيدسون في مقالها "البساطة أم الأسلوب؟" تتخذ حياةً بحد ذاتها".

الجملة الافتتاحية هي الفكرة

"دائمًا هي الفكرة". يقول الروائي المغربي الغربي عمران واصفًا الجملة الافتتاحية للرواية، متابعًا: "أنا أشبهها بالبذرة في رحم الأنثى.. تظل تتخلق.. يقلبها الكاتب لفترة حين يشعر أنها اكتملت وأصبح مشروعه جاهزًا.. تأتي لحظات المخاض.. هنا الجملة الأولى.. دوما ما تكون متعبة بعض الشيء وكأنها الثغرة التي سيتدفق منها مياه السد لينسال بعدها ما بجوفه شلال.

الجملة الأولى عند الكثيرين مفتاح السر.. بعدها يستمر الخطو بسلاسة وسهولة.. هكذا عند إيزابيلا اللندي في إحدى مقابلاتها.. قالت إنها لا تخطط لرواياتها.. وإن الجملة الأولى هي الأساس بعدها يتدفق البوح. عند من يخططون قبل البدء كذلك.. لكن تلك الجملة مفتاح الحكي، تتغير مع التعديلات، فبعد إنهاء العمل تأتي مرحلة التنقيح والتصحيح.. فتجد تلك الجملة مثل غيرها تتغير أكثر من مرة.. وبعد أن كانت لها المهابة.. تغيرت بشكل سهل وسريع.. لتأخذ ضمن سياق ما بعدها سياقا مختلفا عما كانت في البداية كمتحكمة عند البدء.. وحين كانت الجملة الأولى هي مفتاح الولوج إلى ترتيب وخلق عالم من الخيال والإدهاش".

"مروحة" تتعدد عبرها الدلالات

وبحسب الروائي المصري سمير الفيل، يتوقف الكاتب وقتًا طويلا أمام جملته الأولى التي يبدأ بها سرده. يريدها جملة مكثفة تحمل سماته اللغوية، وخصوصيته الأسلوبية، مشحونة بطاقة هائلة لتمنحه أفقًا بعيدًا، ينفتح على حقول جمالية مترعة بالفتنة.

يتابع: "تأتي الجملة الافتتاحية في الغالب كمروحة تتعدد عبرها الدلالات، وتحتاج دائما إلى لغة شفافة، مشفرة، تخلو من الثرثرة. بعدها يندفع تيار السرد هادئا، محملا بكل ما يفكر فيه الكاتب من احتمالات لتشكيل هيكل النص، متجاوبا مع أصداء حكايات عتيقة وأخرى آنية، نابعة من داخله".

جملة لا تستحق هذه المبالغة

ثمة مبالغة يرفضها الروائي الفلسطيني سليم البيك بخصوص الجملة الافتتاحية للرواية. يقول: "أعتقد أن هنالك اعتبارًا مبالَغًا فيه تجاه الجمل الافتتاحية في الرواية، ففي النهاية هي جملة ضمن نصّ طويل، وكونها الأولى لا يعني أنّها مؤثرة على عموم النص، قد يكون منح اعتبار زائد للفصل الأول مبرراً، بل هو كذلك، أما جملة واحدة فلا تكفي لذلك. وصل الأمر لدرجة صرتَ تجد فيها كتّاباً "يعلنون" عن الجملة الافتتاحية باحتفاء كـ ”بوست“ على الفايسبوك ومقدّمين لها بأنّها "الجملة الافتتاحية" (بـ ال التعريف) لروايتهم الجديدة، قبل أن نعرف، مثلاً، عنوان الرواية!

خلافي هو على الاعتبار الزائد الممنوح للجملة الافتتاحية، لكن ذلك لا يعني أنّها بقيمة أي جملة داخل النّص، فقد تزيد أو تقل أهمية عنها، إلا أن ما يميزها هو كونها افتتاحية، كونها التحيّة التي تلقيها الرواية على قارئها، كأنْ تلتقي بشخص لا تعرفه، ضمن آخرين، ومن التحيّة تشعر بتلك الطاقة التي تصلك، سلبية كانت أم إيجابية، لكن ذلك لا ينسحب طبعاً (ويجب ألا ينسحب) على كامل الشخص/النّص".

يوضح سليم أن الجملة الافتتاحية هامة (إنّما ليست أساسية)، فهي المسؤولة عن استهلال الانطباع الأوّلي الذي يمكن أن تمنحه الرواية لقارئها، انطباع يحتاج لصفحات عدّة كي يتشكّل.

يتابع: "هنالك جمل افتتاحية تقليدية، نجدها كثيراً في الروايات الكلاسيكية (هي أشبه بالصورة البانورامية التي نجدها كذلك كمشهد أول في الأفلام)، تقدّم المكان والزمان والظروف للقارئ («الأبله» لدويستوفسكي، «1984» لأورويل…إلخ).

ما أحبّه هو الجمل الافتتاحية الأكثر ذكاء، أتذكّر الآن افتتاحية رواية قرأتها مؤخراً وهي «متحف البراءة» لأورهان باموق: "كانت أسعد لحظة في حياتي من دون أن أعرف". ويُكمل الفقرة كأنّها آتية من منتصف الرواية، وهذه الجملة الافتتاحية ستبقى ترنّ في ذهن القارئ على طول الرواية (768 صفحة)، الرواية التي أتى فصلها الأخير (فصل 83) بعنوان "سعادة". هنا، يمكن الحديث مطوّلاً عن وقع الجملة الافتتاحية وأهميتها.

هل أذكّر كذلك بجملة ماركيز في "مئة عام من العزلة"؟ "بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، سيتذكر الكولونيل أوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد".

ويوضح الروائي والمترجم مدحت طه أن الجملة الافتتاحية لا تأتي بالضرورة قبل كتابة العمل الإبداعي "لأن أي نص يعتبر عملية خلق من عدم يبدأ بفكرة تراود كاتبها وتلح عليه حتى تتشكل تدريجيًا أثناء فعل الكتابة بما فيها عمليات الحذف والإضافة وتغيير حدث أو زمان أو مكان حدوثه لضرورة درامية ما".

يتابع: "لكن الكلمة الافتتاحية هي في ظني الرؤية الفلسفية للعمل أو بمعنى أكثر بساطة وضع الفكرة في سياق يمكن قبوله ويكون مسوغا ومبررا للدخول إلى عالم النص بسلاسة".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.