}

مدريد تحتفي بالشعر الأندلسي: ربّى ذائقة لوركا

ميسون شقير ميسون شقير 5 يناير 2018
هنا/الآن مدريد تحتفي بالشعر الأندلسي: ربّى ذائقة لوركا
لوركا

هي حضارة وارفة الظلال تطل من كل حجر ومن كل زخرف، وتلقي بكل ورودها على قصائد طاعنة في جمالها، قصائد لم تزل تتوالد في كل من يعبرها، وترمي على روحه شالاً من حنين.

إنها حضارة الأندلس، أجمل وأغنى مراحل تاريخ الحضارة الإسلامية على الإطلاق، ذاك المزيج الغني بين روح عربية دافئة ووهاجة، وبين إرث حضاري أموي له صوت حضارات بلاد الشام (أول حضارات الأرض)، وبين حضارة غربية أضافت على هذا الإرث نوافذ جديدة، خاصة بوجود طبيعة ساحرة ألقت عليه ظلالاً من شجر.

إن الحضارة العربية في الأندلس، وبعد ما يزيد عن ألف سنة من وجودها، لم تزل إلى اليوم موضوع دراسات إسبانية عديدة، وموضوع رسالات تخرج، وأطروحات لشهادتي الماجستير والدكتوراه من الجامعات الإسبانية بأقسام كل من اللغة العربية، والأدب الإسباني، ولم تزل أيضاً ذلك الأدب الذي يثير شغف المستعربين والمترجمين الإسبان، والذي يجعلهم يتنافسون في ترجمته، ويجعلهم اليوم، خاصة بعد انهيار فترة الدكتاتور فرانكو، وبعد دخول البلد مرحلة الديمقراطية والانفتاح الحضاري، يحتفون بما تركت الحضارة العربية في الأندلس من تأثير عميق على شخصية الإنسان الإسباني، وعلى أدبه ولغته، ويعترفون أيضاً بأن الجمال الحسي المعماري، والكم المعرفي والإبداعي، الذي تركه العرب هنا، يعتبر من عوامل تكوين الشخصية الأوروبية بشكل عام، والإسبانية بشكل خاص.

إن هذا الإقرار بمدى أهمية الثقافة الأندلسية يترجم الآن بعدد كبير من الفعاليات الثقافية التي تتناول ما تركه العرب من تميز على صعيد الشعر، والفلسفة، والموسيقى، والفن العماري. ومن ضمن هذه الفعاليات أقيمت في الأسبوع الماضي فعالية في المعهد المصري للدراسات الإسلامية، بدعوة من الملتقى الثقافي العربي الإسباني في مدريد، وبمشاركة مميزة من أساتذة إسبان محاضرين في جامعات مدريد بقسم اللغة العربية، تحت عنوان "الشعر والموسيقى الأندلسية".

قدمت الفعالية الصحافية والكاتبة الإسبانية بلانكا كلامور التي عرفت بالفعالية وبأسباب إقامتها مؤكدة على تميز العلاقة بين الحضارتين الإسبانية والعربية، وعلى دور الشعر والموسيقى "في إعادة الأجنحة لأرواحنا، وفي دعم بنائنا الإنساني".

بعد ذلك تحث الدكتور بسام صلاح باسم المعهد المصري للدراسات الإسلامية، شاكراً جميع القائمين على هذه الندوة، ومؤكداً على اهتمام المعهد المصري للدراسات الإسلامية بإقامة نشاطات دائمة تعزز هذا التواصل، وتنمي حالة الحوار الحضاري الذي يزيد من الألفة بين الشعوب، وداعياً الجميع لأن يعتبروا المكان بيتهم الثاني الجاهز لاستقبالهم في كل الأوقات، ولاستقبال مساهماتهم ولتقديم يد العون والود لكل من يقصده.

الفقرة الثانية من هذه الفعالية كانت عبارة عن كلمة مختصرة للسيد عبدو التونسي، مدير الملتقى الثقافي العربي الإسباني، الذي كان من أول المنظمين لهذه الندوة، والذي منذ افتتاح الملتقى في مدريد يقيم النشطات الثقافية بما يخدم الثقافتين معا، ويدعو المهتمين بالشأن الثقافي من كل الجهات، للتلاقي الثقافي والحواري وينظم الإعلان عن هذه النشاطات بطريقة جميلة وودودة، إذ تخدمه شخصيته الدمثة وإتقانه الكامل لكلا اللغتين. وقد رحب الأستاذ بكل الموجودين وشكر بشكل خاص الأستاذة المترجمة الدكتورة كارمن رويث المهتمة بالأدب العربي والمحاضرة في جامعة الكومبليتنسي في مدريد، وشرح أن الهدف من إقامة هذه الفعالية تحديداً هو قراءة نفس مقاطع الشعر الأندلسي المترجمة الى الإسبانية باللغتين الإسبانية والعربية الأم، ما يعمق الإحساس بالموسيقى الأصلية للشعر التي يحتويها وهو مكتوب بلغته الأصلية، وكذلك يصنع حالة من التناغم تسري بين القراءتين وتخلق وحدة حسية غامضة.

الشعر الأندلسي أهم ما

ملكت إسبانيا من شعر

بعد ذلك اعتلت المنصة الدكتورة المترجمة كارمن رويث، وهي التي قامت بترجمة كل النصوص الشعرية الأندلسية التي قرئت في هذه الفعالية إلى اللغة الإسبانية، والأديبة والمحاضرة التي دافعت عن المنجز الإبداعي العربي منذ ما يزيد عن خمسة وعشرين عاماً، إذ إنها كانت قد أصدرت كثيراً من الكتب حول تميز المنتج الشعري الأندلسي، وجمال بنائه الشعري.

وقالت في كلمتها: لقد أدهشني الأدب العربي دائماً، خاصة الأدب الذي كتب في الأندلس. لقد كان هذا الأدب جميلاً وشفافاً مثل الحجر الذي حوله العرب في قصر الحمراء إلى ما يعطيك إحساس الدانتيلا المطرزة الهفهاف. لقد كان هذا الأدب غنياً بالعشق وبالجمال، قبل أن يتحول إلى مرحلة أدب البكاء على الأندلس الضائعة، وإنني أعتقد أن الإسبان إذا لم يحافظوا عليه فسوف يفقدون منجزاً إبداعياً لن يتكرر أبداً في التاريخ الإسباني.

وفي سؤال وجّهه "ضفة ثالثة" للمترجمة والباحثة الدكتورة كارمن عما تركه هذا المنجز الشعري الأندلسي من أثر في الشعر الإسباني اللاحق، قالت: "إن هذا الشعر هو الذي ربى ذائقة الشاعر الإسباني الأول لوركا. فلقد كانت أمه تغني له من شعر ابن العباد وابن هانئ الأندلسي طيلة فترة صغره، وحين بدأ لوركا مرحلة الوعي الفكري والحسي، قرأ بنهم وشغف كل الشعر الأندلسي الذي كان مترجماً للإسبانية، وهذا ما جعل الشعر الذي تركه لوركا غنياً بلسعة النار العربية، وغنياً بروح شرقية ساحرة قادمة من عمق وتجربة شعرية طاعنة بالقدم. كما أنني أعتقد أن الشعر الأندلسي هو أهم ما ملكت إسبانيا من شعر وسيكشف التاريخ أنه أثر في كل حرف كتب بعده".

بدأت بعد ذلك فقرة قراءة النصوص المختارة بالإسبانية أولاً ثم بالعربية، إذ قرأ بالإسبانية كل من الكتاب بيدرو غونثاليز، وإدواردو توليدانو، وخوان خوسيه نونيث، والكاتبة روسا رودريغث نويث، وتم إلقاء ترجمة الدكتورة كارمن بأصوات عذبة ومؤثرة، لكن الجميع كان مدهوشاً حين ألقي الشعر الأندلسي بلغته الأصلية الطافحة بالموسيقى، وبالروح التي تحملها الكلمات فيما بينها، وبطريقة الإلقاء الهادئة والمعبرة التي أضافت إلى النصوص طعماً جديداً.

ولعل أجمل المقاطع تلك كانت قصيدة المعتمد ابن عباد، ذاك الشاعر الحاكم الذي سكن إشبيلية، والذي عشق جارية لأنها تقول الشعر فحوّلها الى زوجة وملكة، وهو أيضاً الذي عاد ونفي بعيداً عن كل إشبيلية، وعن قصره وملكه، ومات هناك غريباً وحيداً في منفاه.

غريب بأرض المغربين أسير             سيبكي عليه منبر وسرير

وتندبه البيض الصوارم والقنا          وينهل دمع بينهن غزير

أذل بني ماء السماء زمانهم              وذل بني ماء السماء كبير

قضى الله في حمص الحمام و        بعثرت هنالك للنشور قبور

والقصيدة التي تحمل عنوان "عاشق المشتري" للشاعرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي التي طرزت عشقها على طرف ثوبها شعراً، بكل ثقة وتفرد وتمرد: "لعشيقي صحن خدي   وقبلتي لمن يشتهيها": 

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا       لم تهو جارتي ولم تتخير

وتركت غصناً مثمراً بجماله          وجنحت للغصن الذي لم يثمر

ولقد علمت بأنني بدر السما          لكن دهيت لشقوتي بالمشتري 

ورافق الموسيقي حسام المغربي إلقاء الشعراء من خلال عزفه أولاً على آلة البزق لمقطوعات على مقام البيات، ثم على آلة العود مقطوعات على مقام النهوند، لتتداخل الموسيقى مع الشعر، فتغير الأرض مدارها، ويزهر في القلوب ربيع مباغت.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.