}

رحلة 1200 مخطوطة موريسكية من المغرب لمدريد

أحمد عبد اللطيف 26 يونيو 2017
                                                           

لا تزال الفترة التي أعقبت سقوط غرناطة محاطة بالكثير من الأسرار، فتحول المسلمين من أندلسيين أصحاب سلطة إلى "مدجنين" في كنف الإمارات الكاثوليكية جعل حياتهم منغلقة ومضطربة، أول ما يحكمها هو الخوف وتجنب المواجهات. لكن هذه الفترة نفسها، برغم ما فيها من سوءات، كانت أفضل من فترة أخرى تحولوا فيها إلى موريسكيين، أي صدر فرمان ملكي بتنصيرهم أو تهجيرهم، فاختاروا، ظاهريًا، التنصير. في هذه المرحلة، التي بدأت من عام 1502، ازداد الغموض حول حياتهم، وباتوا يكوّنون جالية بالمعنى المفهوم، مع أنها جالية مخترقة بعيون الأمن، إذ فرضت عليهم السلطة أن يتركوا أبواب بيوتهم مفتوحة حتى يتسنى للمخبرين الاطلاع عل حياتهم الداخلية.

 ورغم العثور على آلاف المخطوطات الخاصة بالموريسكيين، أو التي ورد ذكرهم فيها، مثل أرشيف محاكم التفتيش، إلا أنها لم تكن كافية لتكوين صورة تاريخية عادلة، ولا تقديم قراءة أنثروبولوجية وثقافية لأفراد فرضت عليهم السلطة أن يعيشوا في جلد غير جلدهم. بالطبع، اعتمد المؤرخون على مخطوطات عثر عليها التاج الكاثوليكي في البيوت المهجورة، بعضها كان في كوات، أو بين الجدران أو تحت الأرضية، لكن المؤكد، أو ما بات مؤكدًا في السنوات الأخيرة، أن الموريسكيين حملوا معهم مخطوطات أخرى كثيرة إلى مدن المهجر، خاصة في المدن المغربية، مثل تطوان وطنجة وفاس، من بين مدن أخرى. وهو ما كشفت عنه مؤخرًا كشوفات تاريخية.

في منتصف القرن التاسع عشر، ومع احتلال إسبانيا للمغرب، تمكن الجيش الإسباني من العثور على 233 كودًا عربيًا حملها معه إلى المكتبة الوطنية بمدريد، دون دراسة محتواها. ومنذ ذلك الحين ظلت قابعة هناك. القصة، بحسب جريدة الباييس الإسبانية، أنه في أكتوبر/ تشرين الأول 1859 أعلن الجنرال أودونيل الحرب على المغرب، وبمجرد أن وضع قدميه في أفريقيا فكرت أكاديمية التاريخ أن الغارة العسكرية يمكن أن تصطحبها لجنة علمية لتحقق فتحًا ثقافيًا. الأكاديمية أوصت الحكومة بأسماء معينة لتصطحب الجيش بغرض عمل مسح ثقافي فني. أحد هؤلاء العلماء كان المستعرب إميليو لافوينتي القنطرة، وتركز اهتمامه على البحث عن مخطوطات عربية، وكانت البداية من تطوان. وبالتوازي مع تقدم خطوات الجيش، كان المستعرب يمشط مكتبات المدينة، وبفضل ذلك حصل على 233 كودًا لمخطوطات عربية، انتقلت بعد ذلك إلى مدريد.

يحكي إميليو لافوينتي في كتالوغ الأكواد العربية أن "ثمة ملمح مميز في الجنس العربي ساهم في الاحتفاظ بكل ما وصل إلينا من الأعمال القديمة: أن كل المسلمين يكنون تقديرًا خاصًا للكتب، حتى ولو لم يعتنوا بها بشكل مفرط ولا يبدو أنهم يستغلونها جيدًا بقراءتها، لكنهم نادرًا ما يتخلون عنها أو يهملونها".   

 الأكواد المشار إليها تضم 1200 مخطوطة عربية لا تزال على حالتها منذ وصلت للمكتبة الوطنية الإسبانية. ويقول أرسينيو سانتشيث، مرمم المخطوطات، إنها لم تدرس بعد ولم تبرمج.

 "الباييس" تلتفت إلى أن ثمانية قرون عربية بالجزيرة الآيبيرية لم تخلف وراءها إرثًا مكتبيًا كبيرًا، فيما يؤكد أرسينيو سانتشيث أن إسبانيا تحتفظ بـ6 أو 7 آلاف مخطوطة أصلية. الملفت هو عدم ظهور مخطوطات أدبية في إسبانيا المسلمة. لكن المعروف أن الحريق الذي نشب في ميدان غرناطة أوائل القرن السادس عشر قد التهم آلاف الكتب التي كانت موجودة في مكتبة المدرسة اللامعة، وكتب الجامعة الإسلامية التي كانت تقع على بعد أمتار قليلة من مكان نشوب الحريق. معروف أيضًا أنه كان حريقًا كاثوليكيًا ومتعمدًا. وقبل ذلك بعدة قرون، التهمت نيران أخرى 400 ألف كتاب من مكتبة قرطبة الكبيرة، لكنها كانت نيرانًا مسلمة هذه المرة.

 

رحلة مخطوطات

  لقد وصلت المخطوطات العربية إلى إسبانيا عبر طرق مختلفة، فالمكتبة الوطنية جمعت كنوزها القديمة من خلال الحملة العلمية على مراكش، أما مركز الأبحاث العلمية (ثيسك) الذي يضم 200 مخطوطة، فترجع محتوياته إلى العثور على غرفة سرية شيدها موريسكي قبل الطرد من مدينة ثاراجوثا (سرقسطة). أما مكتبة الإسكوريال الشهيرة، وهي المكتبة الأكبر في محتواها العربي، فتضم ألفي كود، حصلت على أغلبها عندما قام قراصنة إسبان بمهاجمة مركب مولاي زيدان، سلطان المغرب.

 أحد الفصول الهامة في تاريخ المخطوطات هو "الأدب الموريسكي". المستعرب أرسينيو سانتشيث يؤكد أن الموريسكيين، أمام تعسف السلطة الكاثوليكية التي فرضت التنصير وأمام رغبتهم في الحفاظ على القرآن بعد اختراع المطبعة بقرن، شرع المسلمون في طبع نسخ سرية وخط مخطوطات باليد للكتب التي يحتاجون إليها. ثم لجأوا إلى التغليف. ولأن الحاجة أم الاختراع، ابتكروا طريقة للتغليف مختلفة عن الطرق التي كانت موجودة في ذلك الحين. استخدموا الخشب والأغلفة المكسوة بجلد الماعز المعالج، لكنهم أضافوا إليها بعض العناصر التي توحي بأن الكتاب مغلق بالجبس والحجر، ما جعل المحاولات الأولى للتعامل معها تفضي إلى نتيجة شبه مؤكدة، أن التغليف معيب، وهو ما أكدته تيريسا إسبيخو، البروفيسورة بجامعة غرناطة وهي من أكبر المتخصصين في ترميم الكتب العربية، والتي أضافت أن المتخصصين انتبهوا بعد فترة من التعامل معها أنهم بالفعل أمام نموذج جديد من التغليف.

 لو استرجعنا القرن السادس عشر فنحن في لحظة معقدة بالنسبة لمسلمي إسبانيا، إذ حرمت السلطات التحدث باللغة العربية ما أدى لاستخدام الموريسكيين لخليط من العربية والإسبانية، وهي لغة انعكست أيضًا في الكتب. من هنا ظهرت الكتابة الأعجمية ذات الحروف العربية والصوت الإسباني.

مخطوطات مغربية وموريسكية

 المستعرب إميليو لافوينتي، الذي رافق الجيش الإسباني، عثر بالإضافة للمخطوطات الموريسكية على أخرى مغربية، غير أن اهتمامه انصب على الموريسكية باعتبارها الجزء الناقص في التاريخ الإسباني، أو بمعنى آخر، الفضول لمعرفة ما كتبه المهزوم أثناء هزيمته.

 بجدولة المخطوطات الجديدة وإخضاعها للدراسة لا بد أن جزءًا جديدًا في الحياة الموريسكية سينكشف، إنها ما خطه الموريسكي بيده بعيدًا عن يد السلطة الكاثوليكية، وما قرر أن يحتفظ به أيضًا في رحلة العبور لجنوب المتوسط برغم ما فيها من مخاطر. بالطبع سيكون سابقًا لأوانه الجزم بمحتوى المخطوطات، وإن كانت التوقعات تنصب على الحياة اليومية والتوثيق لها، وربما تضم أدبًا جديرًا بتقييم إبداع تلك الفترة الخاضعة للرقابة والتسلط. المؤكد أن هذه المخطوطات ستفتح بابًا جديدًا للجدل، خاصة أن مستعربي اليوم أكثر موضوعية واستقلالية في ما يخص البحث العلمي، وكثير منهم ينحاز للتاريخ الإسباني العربي أو ما يسمونه بـ"إسبانيا المسلمة". نحن هنا أمام تاريخ آخر، يختلف عن التاريخ الذي كتبه المنتصر، ولا بد أن تعدد الروايات سيفضي لنتائج موضوعية في ما يخص تلك الفترة.   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.