}

عن الخيانة والتخوين: في الشعر والسيرة

نبيل سليمان 13 مايو 2017
هنا/الآن عن الخيانة والتخوين: في الشعر والسيرة
لوحة للفنان السورس سمعان خوام

 

أنا سأختانكِ يا حبيبتي بعدما ارتكبتِ المخانة.

أنت رجل خائنة يا حبيبي، وأنا تخوّنتك برموش عيني، لكنك خوّان وخؤون.

حسناً يا خَوْنة. أنا كل ذلك، وأنتِ؟ هل أنت إلا خانة؟

مثل هذه السفسطة القاموسية في الخيانة والتخوين، أفاقت بعد قرون من سباتها، وها هي تحجل في مرابعنا، فإذا بواحدنا يصم الآخر، والآخر يرد صاع الخيانة والتخوين صاعين فأكثر.

 

في السيرة:

والحق أنني كثيراً ما توهمت أننا في مهرجان للخيانة والتخوين، منذ شهدت عام 1961 الانفصال بين إقليمي الجمهورية العربية المتحدة، وسقوط دولة الوحدة السورية المصرية 1958-1961. فالوحدوي يرمي الانفصالي بالخيانة، والانفصالي يخوّن الوحدوي. ولا أنسى من قبل ذلك صدى تخوين الشيوعيين الذين عارضوا قيام الوحدة. بل وقبل ذلك أيضاً، أفقت على تخوين نوري السعيد في العراق. وكرّت السلسلة من بعد، فمع دولة البعث عام 1963 فشت الخيانة وفشا التخوين، وبخاصة بعد هزيمة 1967: البعثي والناصري والشيوعي والرجعي والتقدمي والإخواني والملحد و.. وجلجل في سبعينات القرن الماضي صدى الانشقاق في الحزب الشيوعي، ليرمي بالخيانة والتخوين كل شقٍ الشق الآخر. لكن كل ذلك ظل هيناً بالقياس إلى ما تلا مع تغوّل الديكتاتورية، لكأن كل ما سبق لم يكن إلا إعلاناً عن المهرجان أو مقدمة له. وإذا تركنا التخوين الرسمي الحاكم لكل من رماه بخائنة الأعين، أي نظر إليه بريبة، فبين من عارضوا النظام بدرجة أو بأخرى، من راحوا يبحثون لهم في المهرجان عن دور.

وهكذا سرى حيناً تخوين الحزب الشيوعي/ المكتب السياسي، أي من عرفوا بجماعة رياض الترك، لرابطة العمل الشيوعي، وسرى تخوين هذا الحزب على إيقاع الصراع المسلح بين السلطة والإخوان المسلمين ومجزرة حماة. ولوفرة القرائن أكتفي بما نال رهطاً من المثقفين. ففي بداية التدخل العسكري السوري في لبنان عام 1976، أصدر عدد من المثقفين السوريين بياناً يعارض التدخل، وكان أول بيان أوقّع عليه، وجلجل التخوين، كما سيجلجل إثر البيان الذي أصدرناه صبيحة حرب الخليج الأولى.

من بعد، سأكتفي للسيرة بأمرين؛ أولهما هو صدور روايتي "سمر الليالي" إبان ربيع دمشق سنة 2000، حين انتشرت المنتديات. وكان أن أقمت ندوة في منزلي في اللاذقية، وتحدث فيها جاد الكريم جباعي وعبد الرزاق عيد، وحضرها خمسة وأربعون صديقة وصديقاً، فعوقبتُ بما هو أقسى من اعتداء مجهولين معلومين عليّ، وبخاصة بعدما سرى أن السفير الأميركي أرسل لي إلى المستشفى باقة ورد، فجلجل التخوين، كما سيجلجل في 11 /7 /2011، إثر مشاركتي في مؤتمر سميرأميس في دمشق على إيقاع الزلزلة التي كانت قد بدأت في 15/3/2011. وكان الجزاء هذه المرة، مع التخوين، الاعتداء على منزلي وسيارتي في قريتي.

 

في الشعر:

كي لا أذهب أبعد في كم هو التخوين داؤنا العريق والمكين، حسبي أن أذكّر بما جلجل إبّان سقوط السلطنة / الخلافة العثمانية، فهذا خائن لأنه يبكيها، وهذا خائن لأنه يهلل لسقوطها، بل ويمد يده إلى ورثتها في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.. ومنذ ذلك الحين إلى هذا الحين، هو قرن من الجلجلة بالخيانة والتخوين، أو من شبهة المهرجان، أو الإعداد للمهرجان. وبما أن أطروحة (بلاد العرب أوطاني) لم تزل صحيحة فيما أحسبه، فلندْعُ بالرحمة لمبدعها فخري البارودي (1887 -1966)، ولنبدأ بالمغرب، حيث دوّى مديح شاعر الحمراء محمد بن أباهيم لجنرالات فرنسا، وقال في مديحه لباشا مراكش التهامي الكلاوي: "هذي فرنسا وذا وسام عزتها" وقال: "هذي فرنسا وهي خير حبيبة/ للعرش وهو لها أعز حبيب".

ثم لنمضِ إلى السودان، حيث مدح الشاعر عبد المجيد وصفي الملك جورج الخامس حين عبر ببورتسودان، ومن المديح: "ربّ الجلالة جورج من تعنو له/ كل الملوك بذلّةٍ وصغار/ وافيتَ للسودان سعداً طالعاً/ فغدا بزورتكم رفيع منار/ أوليته نِعماً غراراً قبل أن/ تأتي وقد أردفتها بغزار".

 ثم لنمضِ إلى فلسطين وحديث معروف الرصافي فيها، نقلاً عن سميح القاسم في حواره مع جريدة الأيام 2 /9 /2014. فقد زار الرصافي القدس في عشرينات القرن الماضي، وأقيم على شرفه احتفال في منزل رئيس البلدية. وكان من المدعوين المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل وكاتب يهودي هو يهودا أبولا، والذي خطب في الحفل داعياً إلى العلاقات الأخوية اليهودية الفلسطينية، فرد عليه معروف الرصافي: "خطاب يهوذا قد دعانا إلى الفكر/ وذكّرنا ما نحن منه على ذكر/ فيا لها ليلة كادت وقد جلّ قدرها/ تكون على علاتها ليلة القدر". وقد ردّ شاعر فلسطيني – لم يسمّه سميح القاسم – بقصيدة منها "أجل، عابر الأردن كان ابن عمنا/ ولكننا نرتاب في عابر البحر". وقد أصاب التخوين معروف الرصافي جزاءً على هذه القصيدة، كما أصاب المغربي شاعر الحمراء والسوداني عبد المجيد وصفي. وبما أن صاحب (بلاد العرب أوطاني) سوري، فلنعد إلى سورية، وإلى زمن فخري البارودي.

 

قلادة الذهب في فرنسا والعرب:

اكتشف وائل السمري ديوان "قلادة الذهب في فرنسا والعرب" للخور فسقفوس جرجس شلحت السرياني (ت 1928)، ابن حلب، وصاحب مجلة الزرقاء، وكتاب (النجوى). وقد طبع ديوان (قلادة الذهب...) في مصر سنة 1923، وأهداه صاحبه إلى الجنرال هنري غورو الذي قاد احتلال فرنسا لسورية، وفصل عنها لبنان، واشتهر بأنه وضع قدمه على قبر صلاح الدين الأيوبي وقال ساخراً: "ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين". وينقل السمري عن قسطاكي الحمصي في كتابه "أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر" أن صاحب "قلادة الذهب.." من "العلماء المحققين وجهابذة أهل النظر الراسخين" وأنه تعلم الفرنسية والإيطالية وأقام في مصر منذ اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى عام 1921، والأهم أنه انتخب عام 1923 عضواً في المجمع العلمي العربي الذي كان يترأسه آنئذٍ محمد كرد علي.

تصدرت ديوان (قلادة الذهب..) صورة للجنرال غورو مذيلة بقول شلحت: "هذا الجريح الذي داوت عزائمه/ كلومنا بعد إذ عمت مكارمه/ بين السياسة والإقدام قد جمعت/ فعالُ غورو فراعتنا عظائمه". والديوان مكون من قصيدتين، أولاهما عنوانها (فرنسا) ومنها هذا الترحيب بغورو: "أهلاً وسهلاً مذ زارنا فرجت/ كروبنا وبنا حفّت مسراتُ/ ما زال من نعم الرحمن مكتنفاً/ ما غردت في ربى النعمى هزاراتُ". والقصيدة الثانية عنوانها (العرب)، وقد تمحورت على التغني بالعرب، ولكن دون أن تنسى فرنسا.

 

بدوي الجبل:

في 24 /10 /1920 نشرت جريدة "ألف باء" الدمشقية للشاعر بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد 1898-1981) قصيدته "تحية للجنرال" بتوقيع (وطني لا ييأس)، ومنها: "أسدٌ أطلّ على الشآم فهللت/ وكذا تكون تحية الآسادِ/ بسمت لوجهك مرتين ورحبت/ أنجادُها بليوثك الأنجادِ). وعلى الرغم من أن الشاعر كان في مطلع عشرينيته، وفي غرارته السياسية، فقد قال في القصيدة نفسها: "كنا فلاسفة السياسة مدة/ فاليوم نحن بها من الزهاد/ ياللسياسية كم نفوسٍ أزهقت/ ودمٍ هما ملء الصعيد جماد/ واليوم ودعت السياسة جلّقٌ/ فارتاح حاضر جلّقٍ والبادي".

لبدوي الجبل أيضاً قصيدته "عواقب الجهل" التي نشرتها مجلة "العرفان" اللبنانية في آب/ أغسطس 1921، وفيها يحمل الشاعر على الشيخ صالح العلي الذي قاد الثورة في الساحل ضد فرنسا، ويمتدح الضابط الفرنسي نيجر: "وليثٍ من الإفرنسي صعبٌ مراسُهُ/ صؤولٌ وأفواه المنايا فواغرُ/ أنيجرُ رفقاً بعد ذاك ورحمةً/ فأنت على ما شئت بالقوم قادر". وهذه القصيدة، كسالفتها، رمت الشاعر بالخيانة. ولم يضم ديوانه تينك القصيدتين اللتين أثبتهما هاشم عثمان في كتابه "بدوي الجبل: آثار وقصائد مجهولة" وأكد عثمان أن الشاعر اعترف في جلسة لهما بأن القصيدة الأولى له، وهي في مديح جنرال فرنسي. وهذا ما نفاه لي أحمد محمد سليمان الأحمد (ابن الشاعر)، مضيفاً أن الشاعر نفسه نفى نسبة القصيدة له، وذلك في أحد أعداد جريدة "القبس" الدمشقية لعام 1945، وأن أحدهم ساق القصيدة على لسان الشاعر لأغراض السياسة، وقد تحفظ أحمد الأحمد على إعلان اسم الفاعل لأسباب شخصية.

انتخب بدوي الجبل عام 1930 عضواً في المجلس التمثيلي (البرلمان) لدولة العلويين التي أنشأتها فرنسا عام 1922. وأعيد انتخاب الشاعر في المجلس عام 1935، مما جرّ عليه هجاء بعضهم. وبعودة دولة العلويين إلى الوطن الأم (5 /12 /1936) انتهت في حياة الشاعر السياسية مرحلة التعاون مع الفرنسيين، مما جرّ عليه هذه المرة غضب من ظلوا انفصاليين، كما في حملة جريدة "البشير" اليسوعية البيروتية، والتي رد عليها بقوله: "إنني لن أنكر موقف الضعف الذي وقفته سنة 1920 الذي دفعني إليه أعصاب أرهقها الطغيان وحداثة سن لها حكمها، وسيطرة اليأس على النفوس في تلك الفترة العصيبة". وعلى الرغم من انخراط الشاعر من بعد في الحركة الوطنية السورية، وعلى الرغم مما في شعره قبل ذلك وإلى مماته من امتلاء بكل ما ينقض عهده الفرنسي والانفصالي، فقد لحقت به لعنة التخوين المتفجرة سباباً في كتاب صالح عضيمة "هذا هو بدوي الجبل – 1995". وكان التخوين قد أصاب بدوي الجبل جراء معارضته لجمال عبد الناصر ولدولة الوحدة السورية المصرية (1958-1961). ومن بعد، بلغ التخوين أن كاد يقضي على حياة الشاعر عام 1968 جراء معارضته لسلطة البعث.

***

من فيض من الشعر في الخيانة والتخوين، أذكّر برائعة محمد الماغوط "سأخون وطني"، والتي قدم لها زكريا تامر، فعدها إنذاراً من الشاعر بأنه عازم على أن يخون وطنه في زمان تتم فيه أفعال الخيانة سراً. ولكن هل ما زال الأمر كذلك؟

يكتب محمد الماغوط أن كل متهم يحمل فرشاة في يمينه وسطل الدهان في يساره، ويبدأ بلصق التهمة على ظهر الذي أمامه، بينما تكون فرشاة الذي وراءه تعمل على ظهره، وتلصق عليه ألف تهمة مماثلة، حتى أصبح ظهر المواطن العربي مع مرور الأيام والعهود والمراحل كواجهة السينما أو لوحة الإعلانات. فهل يأتي يوم نكذّب فيه الشاعر؟

 إلى أن يكون ذلك، لا يغيبنّ عن البال أن الخيانة مبهمة أو ملغزة، صريحة أو مواربة، قد تُغفر، لكنها لا تنسى، كما يقول المثل الفرنسي، وقد نُقل عن سعدالله ونوس قوله: الخيانة لا تُنسى. ولا يغيبنّ عن البال أيضاً الفرق الحاسم بين الاختلاف المخصب والتخوين الذي ليس غير الاختلاف المدمّر. لذلك أختم منادياً ما كتب الصديق أحمد عمر عن فيلم "عواء الذئب" العائد إلى عام 1974، وأدى فيه الممثل صلاح قصاص دور المهرّب ابن الزبداني الذي قتل شرطياً، وصادف أن عثر على طيار إسرائيلي سقطت طائرته في حرب 1973، فقرر تسليم نفسه مع الطيار، رافضاً رشوته كي لا يسلمه، ومواجهاً الحكم بالإعدام، وقال لزوجته قولته التي لا ينقطع دويّها: "ألف حبل مشنقة ولا يقولوا بو عمر خاين يا خديجة".

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024
آراء
1 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.