}

ترجمة الكتّاب السورييّن للألمانيّة: حركة جديّة أم فقاعات (2-2)

عارف حمزة 1 مايو 2017
هنا/الآن ترجمة الكتّاب السورييّن للألمانيّة: حركة جديّة أم فقاعات (2-2)
عمل للفنان السوري خالد تكريتي

ربّما يظن بعضهم أنّ الأدب السوري حظي بحصّة الأسد من الترجمات التي تُنقل من العربيّة إلى الألمانيّة، وربّما يظنّ كثيرون العكس. لكن من الواضح أنّه حظي في الآونة الأخيرة باهتمام جيّد من المترجمين ودور النشر الألمانيّة الخاصّة، على عكس حركة الترجمة من الألمانيّة إلى العربيّة. فهل حركة الترجمة لكاتبات وكتاب سوريين إلى الألمانيّة هي حالة جديّة، قائمة على وسائل وخطط ومعايير واضحة ومحترفة، وتتعلق بالقارئ الألماني في الدرجة الأولى وتهدف إلى إطلاعه على أدب جديد يستحق القراءة، أم هي مجرّد فقاعة تخضع أكثر شيء للسوق والمزاج العام والأرباح ستنفجر وتنتهي في مدة زمنية قصيرة؟ هذا كان السؤال الرئيسي الذي طرحناه على المشاركين في هذا الملف حول ترجمة الأدب السوريّ إلى الألمانية التي تجري بشكل ملفت منذ سنوات قليلة.

هنا الحلقة الثانية:

ترجمة جدّية أم فقاعات؟

بناء على ما تقدّم يُطرح السؤال: هل حركة الترجمة لكاتبات وكتاب سوريين إلى الألمانيّة هي حالة جديّة، قائمة على وسائل وخطط ومعايير واضحة ومحترفة، تتعلق بالقارئ الألماني في الدرجة الأولى وتهدف إلى إطلاعه على أدب جديد يستحق القراءة، أم أنها فقاعة ستنفجر وتنتهي في مدة زمنية قصيرة؟

طرحنا هذا السؤال على المشاركين في هذا الملف حول الترجمة التي تجري بشكل لافت منذ سنوات قليلة للأدب السوريّ.

الشاعر والناقد السوريّ خضر الآغا يعتقد أنّه "لا توجد حركة ترجمة جدية". ويُعلّل كلامه هذا بأنّ: "هناك ترجمات متفرقة تجري هنا وهناك تتراوح بين ترجمة نصوص لقراءتها أو نشرها في إطار فعالية ما، وبنسبة أقل بكثير تجري ترجمة بعض الكتب. حتى الآن، يبدو أن هذه الترجمات ليست مبنية على معايير واضحة وجدية، كما أنها ليست احترافية. تبدو عملية الترجمة هذه خاضعة لمصادفات، ولحاجة الفعاليات الثقافية الألمانية الآنية وهذه خاضعة بدورها لرؤية الجهات المنظمة والداعمة والممولة وغير ذلك".

ويضيف: "لست أميل لإطلاق تنبؤات من مثل أن ذلك يشكل فقاعة زائلة، أو أنه ليس كذلك. فضمن موجة الهجرة السورية إلى العالم، وإلى ألمانيا خاصة، يمكن ملاحظة أن الألمان عامة والقارئ الألماني خاصة يحب أن يعرف ويتعرف إلى السوري وثقافته، والعملية السائدة حتى الآن لتلك المعرفة ولذلك التعرف هو الترجمة. لذلك أظن أنه بعد فترة من الزمن يمكن أن تنشأ حركة ترجمة إلى الألمانية، أتمنى أن تكون منهجية واحترافية تمكّن القارئ الألماني من الاطلاع على ثقافة السوري الحقيقية العميقة وليست الإعلامية والفيسبوكية".

تسوّل وسطحيّة وفئران تجارب

الشاعر والناقد السوري محمد المطرود يرى أنّه: "طالما أنّه ليست هناك مشاريع ترجمة حقيقية، ولا يوجد مترجمون مهنيون وموهوبون، فإن ما تمّ برأيي إلى الآن، لا يرقى إلى العمل المؤسسي، ولا يعدو كونه أكثر من حالة تسول ومحاولة استدرار عواطف في حالات كثيرة، يتحوّل فيها الكاتب إلى فأر تجارب، مستمرئًا هذه الحال، مُتتبعًا المترجم وما تريده "السوق" أكثر مما يريده هوَ. هنا الكاتب لا يُقدَم على أنّه كاتب، بقدر ما يُعامل كناقل أخبار ومعايش للحرب، ولهذا في كثير مما ساهمت فيهِ متحدثًا أو مستمعًا، كانت الأسئلة سطحية من القارئ الألماني ولا تذهب إلى روح الكتابة وتقاناتها عند آخر مختلف! وكما لم ينجح كُتّاب سبقوا موجة النزوح واستوطنوا في ألمانيا، وتحدثوا لغتها وكتبوا بها، إلا في مطارحات إثنوغرافية تتحدث عن العادات والطعام على سبيل المثال كمحاولة بائسة لإظهار المحلية، وهو بالضرورة تعامل خاطئ مع هذه الثيمة التي ظنوا بها سوءًا حين رأوها طريقًا إلى العالمية، فإننا والحال اليوم أيضًا سنكون أمام نصوص تجتّر نفسها، سيعتادُ المتلقي الألماني سماعها، وبالتالي ستصبح ممجوجة، خاصة في ظل فورة صبيان، يستطيعونَ الوصول إلى مترجمين هواة، وإلى منابر بنصوص قليلة الدسم والعمق، تناسب المعرفة الضئيلة لهؤلاء التلاميذ، وسيكون هناك، وفق هذا الاستسهال، غياب لكتابة حقيقية، تقترح على الدوام علاقات جديدة في اللغة والفكرة وتَصورات المتلقي بوصفها جزءًا من فعالية الكتابة بحسبِ النقاد الغربيين، من حيث احترامها والندية معها لكسب ذائقته، وليس من باب مسايرته بالأضعف والقابل للعلكِ بسهولة. منذ أيام حضرت أمسية كان فيها مشاركة لسوريين، وبعد نهاية الأمسية، تقدمت مِنّا مُنظمتها، واعتذرت عن المستوى العادي، مقارنة بأمسية سبقتها وحضرناها معًا. قد يكون هذا عاديًا أن يكون هناك غثٌ وسمين، غير أننا نتحدث عن فرص ليست كثيرة وبلغة أخرى ومتلق آخر، وطبع صورة مغايرة ليس بالأمر اليسير، وأخذ هذا الهامش لصالح الأقّل دهشة والأكثر هشاشة كفيلٌ بجعل هذه الظاهرة مكرّسة وفي الواجهة، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم قدرتها على الصمود، وستكون في المحصلة فقاعة لها عمر زمني قصير، لكنها ستترك ندبةً كبيرة على وجه المشهد، سيترتّب على أصحاب المشاريع الشجاعة امتلاك الجلد الكافي لمداواتها أو استئصالها، وأقصدُ الندبة التي لن ينفع معها الماكياج".

ترجمة خجولة

تعتبر الروائيّة السوريّة روزا ياسين حسن من الأسماء التي حقّقت حضورًا مميّزًا في المشهد الروائي السوري، وحصلت على عدّة جوائز، كما حصلت على استقبال جيّد من القارئ الألماني بعد ترجمة روايتيها "أبنوس" و"حرّاس الهواء" إلى الألمانيّة، كما أنها باتت مدعوّة إلى حوارات وإلقاء محاضرات على طلاب يدرسون الأدب العربي في جامعة هامبورغ.

ترى روزا أنّ "ترجمة مجموعة من النصوص المتفرقة إلى الألمانية أو غيرها من اللغات لا تعني بحال حركة ترجمة قوية وممنهجة، فمشاريع الترجمة لم تتعدَّ عشرات النصوص بعد، وأقل منها بكثير في ما يتعلّق بالكتب! ما زالت حركة الترجمة خجولة بالنسبة للكتابة السورية، والشرق أوسطية العربية وغير العربية بالعموم، إلى اللغة الألمانية. أما النصوص التي تُرجمت فتتفاوت في أهميتها وكذلك في قدرتها على إعطاء القارئ الألماني صورة جيدة ووافية عن الأدب السوري: ثمة نصوص جديرة بالقراءة وثمة نصوص غير جديرة البتة، وكانت اختيارات الترجمة تقوم على مبادرات فردية في أحيان وفي أحيان أخرى لم تقم على مبادرات فردية بل من قبل لجان مختصّة بذلك. الأمر يعتمد على جدية الجهة المترجمة باعتقادي. لكن الإكثار من ترجمة نصوص من غير تقييم مسبق، ولمجرد العلاقات الشخصية مع كتابها أو للركوب على موجة اللاجئين ومسايرة تلك الموضة، سيساهم في تعتيم صورة الأدب السوري الحقيقي، أو سيساهم في إعطاء صورة مغلوطة ومشوّشة عن المشهد الإبداعي السوري، تمامًا كما عملت وتعمل الكثير من النواحي السلبية في مجتمعاتنا وتاريخنا على إيصال صورة قاتمة اليوم عن الشرق الأوسط.     

"في النهاية المشهد المترجم، على صغره، شبيه بالمشهد الإبداعي السوري، متفاوت ومختلف المستويات والقيم، ولكني أعتقد بأن النصوص هي التي تفرض نفسها في النهاية، النص المترجم غير الجيد سيُرمى جانبًا والنص الجيد سيبقى، تمامًا كما هي الحال دومًا في المشاهد الإبداعية سواء في العالم العربي أو الأوروبي، والزمن والقراءة كفيلان بفرز الإبداعي عن اللاإبداعي".

ثقافة بيضاء... ومُلوّنة

سألنا المشاركين: من خلال مشاركتكم في العديد من الفعاليات، ومن خلال حضور بعضها الآخر، أو قراءتها، هل ترون أن هذه الأعمال تضيف درجات إلى الأدب السوري لدى القارئ الألمانيّ؟

"بالتأكيد لا"- يجيب الشاعر والناقد خضر الآغا، ثم يُكمل: "ما يضيف تلك الدرجات هو الأثر الذي يخلفه الكاتب ضمن ثقافته المحلية، ثقافته الأم لو صح القول. فبقدر ما يكون الكاتب متجذرًا في ثقافته السورية، في مجتمعه السوري، بقدر ما يكون قادرًا هو ذاته على إضافة درجات إلى الثقافة الألمانية ذاتها. نحن نعرف أن ما يسمى بالتيار ما بعد الكولونيالي، في أميركا خاصة، الذي أسسه كتاب مهاجرون وفارون من بلدانهم الأصلية إلى المجتمع الأميركي أضفى على الثقافة الأميركية بعدًا جديدًا وحيويًا ما كانت الثقافة الأميركية البيضاء تتوقع أنه يمكن أن تتشارك معه، أو يمكن أن يكون موجودًا أصلًا، الأمر الذي جعل الثقافة الأميركية البيضاء ملونة، وجعلها لم تعد ترى نفسها إلا ملونة، أي غيّر الثقافة الأميركية برمتها، وصار جزءًا أصيلًا منها. مثلا، هل يمكن أن تفكر بالثقافة الأميركية دون توني موريسون؟".

ترجمة لأسباب إنسانيّة!

سألنا الآغا فيما إذا تحدّث بعض أصدقائه الألمان عن هذه الترجمات ومستواها وعن رأيهم فيها؟، فأجاب:

"تجربتي في ذلك محبطة. إحدى المهتمات بالشأن السوري وبالثقافة السورية حصلت على كتابين مترجمين للألمانية لكاتبين سوريين. وبعد أن قرأتهما سألتني باستغراب حد الدهشة: هل هذه هي الثقافة السورية؟ هل هذا ما يشغل بال السوريين خلال ثورتهم؟ وعندما عرفت هذين الكتابين وعرفت أن الحديث حول نصوص مكتوبة على فيسبوك، راعت النشر على فيسبوك من حيث خفتها وعدم مبالاتها وطرافتها وسطحيتها، درت يمينًا وشمالًا لأقول لها: لا، هذه ليست الثقافة السورية، وأنهما تُرجما ليستطيع صاحباهما الحصول على فيزا تمكنهما من الدخول إلى هذا البلد. أي تُرجما لأسباب إنسانية وليست ثقافية!! وطرحت السيدة الألمانية أن نقوم بحملة دعائية مضادة لذلك النوع من الكتب ولذلك النوع من المترجمين حفاظًا على الثقافة السورية التي نريد للألمان أن يتعرفوا إليها".

تفاوت الترجمات

أما روزا فإنها ترى، ردًا على السؤالين السابقين، أنّ "النصوص الجيدة ستعمل على بناء ذاكرة إيجابية لدى القارئ والناقد الألماني بخصوص الأدب السوري، خصوصًا أن الأدب السوري شبه مُغيّب عن الساحة الثقافية الألمانية، باستثناء كتّاب قلائل جدًا تمت ترجمة أعمالهم في العقود القليلة الماضية، ويكاد عددهم لا يتجاوز أصابع اليدين. ولكن في النهاية اتساع المشهد الأدبي المترجم وتنوّعه هو حالة إيجابية على كل الأحوال. المشاهد الإبداعية المتّسعة تتيح رؤية عامة أكثر وضوحًا، وتتيح للقارئ والناقد الاطلاع بشكل أعمق على تنوعات المشهد السوري، وتحديد الفروقات القيمية بين النتاجات". 




وتضيف: "طبعًا، الشعب الألماني شعب قارئ بالعموم، ولو أن لوثة الكتابات السهلة والروايات السطحية مسّت جزءًا منه أيضًا. الترجمة هي كتابة أخرى للنص، أو كتابة ثانية بالأحرى، مما يجعلها بأهمية الكتابة تمامًا. وفي هذا المضمار ثمة تفاوتات أيضًا بين الترجمات، فهناك الترجمات السريعة غير المُعتنى بها، وهناك الترجمات الجيدة التي تقدّم للقارئ نصوصًا بلغة مُعتنى بها. الأهم أن ثمة تفاوتا كبيرا بين آداب منطقتنا العربية، بكل تنوعاتها الإيديولوجية والإثنية والدينية والطائفية والثقافية الاجتماعية، وبين الأدب الأوروبي أو الألماني، الأمر الذي يجعل القارئ الألماني يطّلع من خلال قراءة آداب منطقتنا على حيوات وعوالم أخرى لم يعرفها يومًا. على هذا فأنا أرى أن سعي بعض الكتّاب لأن تترجم نصوصهم وتصل للقارئ الألماني، عليه ألا ينسيهم الاشتغال على النص، وعدم التورّط في الكتابة للغرب، أي عدم كتابة نصوص موجّهة للغرب ومعلّبة على قياسه، لأن هذا سيخرّب العملية الإبداعية بل سيدمّرها. أن نكتب خصوصيتنا/ آدابنا وأن نشتغل عليها بهدوء وعمق، أن نكتب أدبًا حقيقيًا باختصار، هو الوصفة السحرية للعالمية، كما قال هنري جيمس يومًا".


الإحاطة النقديّة

الناقد والشاعر محمد المطرود لا يترك الأمر برمّته للقارئ أو لدور النشر فحسب، بل للنقد والنقّاد. يقول المطرود: "شخصيًا تُرجم لي القليل، ولم يتصدّ لهذه النصوص إلا مترجمون عرب، باستثناء مترجمة جيدة ألمانية، ترجمت لي مقطوعاتٍ مختارة في فترة مبكرة من مجيئي إلى ألمانيا، ولاقت قبولا جيدًا، غير أني لم أكن راضيًا عنها، ومع هذا ارتأيت أن أقدم نفسي كما أنا، دون التنازل عن خياراتي في الكتابة، وأحسبُ أن ما أقوم به يحافظ عليه آخرون، ينظرونَ إلى أنفسهم كمعلمين وليسوا تلاميذ، وأعتقد أننا بهذا سنقدم أدبًا وإن تصالح مع الحرب من جواتها، إلّا أنّه لن يكونَ صورًا من المعركة".

ويتابع: "أي ظاهرة سُتتبع بإحاطة نقدية بعد توضّح ملامحها، وهو ما يجعلني أطلق على ما كتبت هنا الانطباع أكثر مما هو نقد، ولا سيما أننا ما زلنا في ذلكَ المران والمراوحة بين البكائيات والهدوء الذي يفترضهُ الأدب كمفهوم وعلاقة مع الأشياء سواء الحرب أو الحياة الجديدة التي اقتضتها تلك الحرب، وأعتقد أن من المبكر الخوض في مسألة جوهرية نقدية: هل ما يكتبُ اليوم ويترجم يمثل حالة صحية أم سوى ذلك؟ عمومًا الآراء التي توصلت بها من مهتمين بسورية وما يحدث فيها وأخرى بأدب سوري يُراد التعرُّفُ إليه ليست سيئة، ويمكن للمتلقي الألماني أن يقوم بعملية الانتقاء والاصطفاء وفقًا لما يروم الوصول إليه، وهذه الآراء فيما لو تمَّ الاستماع إليها جديًّا، يمكن للمنتج الأدبي أن يحدد زاويتهُ من خلالها، لا أن يبرر هشاشة كتابته بأنها استجابة ضمنية لقدرات المترجمين وميول المتلقين، وهذا بالطبع سيكون رقابة أخرى لا تختلف عن الرقابة المخابراتية في بلداننا".

التجربة الأمثل في ترجمة الشعر

طرق عديدة باتت متداولة في ترجمة النصوص، وربّما يُعتبر أصعبها تجربة ترجمة الشعر. لاريسا بندر ترى أن "أكبر مديح للمترجم هو عندما لا يلحظ القارئ أنّ الرواية مترجمة".

لكن ربّما في الشعر قد يختلف الأمر، وهنا نقرأ شهادة الشاعر والصحافي السوري الفلسطيني رائد وحش حول تجربة مميّزة في ترجمة نصوص له إلى الألمانيّة:

"تجري العملية التقليدية للترجمة خلال اعتكاف المترجم على النص مدّة من الزمن، ثم يعود بعدها إلى المؤلف بجملة من الأسئلة والاستفسارات التي تخدم المعاني التي توصّل إليها، أو تطوّرها. وغالبًا ما يتم التواصل بين الكاتب والمترجم من خلال التلفون أو الإيميل، أو عبر لقاءات قصيرة، في أحسن الأحوال، إذا سمح الظرف بوجود كلٍّ منهما في المكان ذاته.

"لا أستطيع التقليل من هذه العملية، ذلك أن النتيجة النهائية فيها تتوقف على إمكانيات المترجم وثقافته وموهبته، لكنني أراها أكثر صلاحية وفعالية في ترجمة الأعمال السردية والدراسات، بينما تكتسي بكثير من الغموض في ترجمة الشعر.

"في تجربةٍ شخصية، شاركتُ في ورشة تقوم على اجتماع شاعر عربي مع آخر ألماني وبينهما مترجم يجيد اللغتين. كان شريكي الشاعر غيورغ ليسْ، تعرفنا على بعضنا بالإنكليزية، ثم بدأ العمل من خلال المترجم، الذي لعب إلى جانب الترجمة دور مدير الحوار.

"المترجم قام بنقل النصين نقلًا حرفيًا إلى كلّ من اللغتين، وكان على كل منا أن يقرأ نص الآخر، ويحاورها في كلّ تفاصيله ومغاليقه، وبما تحته وحوله، لنصل إلى صورة نهائية كاملة لكل تصوّرات النص، وبعد ذلك يقوم كلٌّ منا بصياغة شعرية للترجمة الأولية بناء على مخرجات ذلك الجدل.

"أظن أن هذه التجربة - وقد باتت شبه مُعمّمة في السنوات الأخيرة- هي الأمثل في ترجمة الشعر، لأنها مفتوحة على الحوار، وقائمة على التجوال في النص وصاحبه معًا، لنصل في النهاية إلى نص أجنبي مكتوب مرّة أخرى، باللغة الأخرى، وليس منقولًا إليها، وما يؤكد هذا أن النص يتخلّى عن حواشيه التي تشرح للثقافة المنقول إليها مثلًا شعبيًّا، أو حكاية خرافية، بحيث تصبح مضمّنة ضمن السياق الشعري الأصلي، دونما أية حاجة إلى شروحات.

"كما أن البلاغة اللغوية تستطيع أن تمارس دورها الطبيعي الذي تمارسه في اللغات الأصلية. فمثلًا كانت قصيدة غيورغ تتضمن مفردةً يصف فيها حيوانًا بأنه "ضعيف" أو "هزيل" أو "متعب"، كما هي المقترحات الحرفية التي قدّمتها مسوّدة الترجمة الأولى، ليتضح في سياق الحوار والعصف الذهني أن المقابل العربي الأنسب هو "ناحل"..".

الترجمات ونظرات مختلفة ومتوافقة حول العالميّة

لا يخفى على أحد أنّ ترجمة النصوص أو القصائد أو الروايات لكاتب معروف في بلده إلى لغة أخرى لا تعني العالميّة بالضرورة، ولكن بالتأكيد لا ينطبق هذا الأمر على الجميع. كما أنّ للترجمة "المُبكرة" ضريبتها التي قد تدفع الكاتب للأسفل وليس للأعلى.

كان هذا هو محورنا الأخير في هذا الملف، حيث يرى الكاتب والمترجم سليمان توفيق أنّ "مجرّد ترجمة بعض النصوص لكاتب ما إلى الألمانية لا يعني أن يدّعي أنه أصبح كاتبًا عالميًا. إنها سخافة".

روزا ياسين حسن توافق على ذلك أيضًا، حيث تقول: "ترجمة نصوص إلى الألمانية لا تعني العالمية بالتأكيد. هي خطوة لتقرأ شعوب أخرى بلغة أخرى ما نكتبه. العالمية لا تعني فقط أن تترجم نصوصك، بل تعني أن تصل أفكارك إلى الثقافات الأخرى وتؤثر عليها، وعلى هذا ما يهمّ في الطريق إلى العالمية هو ما تكتبه أولًا، تمامًا كما هي حركة الترجمة مهمة، بل إن ما تكتبه أهمّ بكثير في السعي للعالمية. المشكلة الأساسية هنا أن يظنّ بعضهم أنهم وصلوا إلى العالمية لمجرد أن تُترجم لهم بعض النصوص، لأن هذه القناعة ستعمل على إيقاف سعيّهم للتطور واشتغالهم على عمق نصوصهم وإبداعهم، وبالتالي ستكون وبالًا على أدبهم وتطوّر تقنياته ومضامينه".

مراهقة المصطلح

من جهته يُقدّم الشاعر والناقد محمد المطرود فكرته عن هذه الترجمات ومفهوم العالميّة، حيث يرى أنّ "الكتّاب الذين ترجموا إلى لغتنا أو الذين ترجموا إلى لغات الآخرين من العرب، تناولوا محليتهم وطقوسهم وهوامشهم وتفاصيلهم، وابتدعوا طرائق وتقانات في الكتابة قائمة على اللغة والسحر الذي تشيعه، وهي تستلهم روح المكان والمنتج وقدرته المعرفية في الوصول إلى ذات الإنسان بوصفه إنسانًا، يتماثل مع الإنسان في أي مكان آخر، وما على الأذكياء إلّا اكتشاف تلك (النكشات) وتظهيرها. وأنا أجد مراهقة بعضهم في إطلاق صفة العالمية على نص أو رواية أو مقال مترجم ضربًا من السخف والمغالاة. العالمية تعني مشروعًا متكاملًا، سيّالًا، ويستوجب جَلَدًا ومساندةً من مؤسسات ثقافية، تنموية، من مصلحتها تقديم أنموذج ثقافي قائم على الحوار بدلًا من التصادم، وقد يستلزم هذا تدخل الدول نفسها، لإبدال شنِّ الحروب بهذه المشاريع التنموية في جوهرها. قد تبدو فكرتي طوباوية، لكن لا بدَّ من الأحلام..".

وهم العالميّة

من وجهة نظر الشاعر والناقد خضر الآغا على الكاتب أن يكتب ما يُريد وليس ما يُريده الألمان، ويتحدث قبلها عن وهمٍ قد يستشري اسمه العالميّة. يقول الآغا: "غالبًا ما يظن الكتاب الجدد أنهم بترجمة نصوص لهم صاروا واقفين على بعد خطوة واحدة من العالمية. أما إن لم يكن جديدًا فثمة فراغ نفسي يريد أن يملأه بهذا الوهم. نحن نعرف أن الكاتب العالمي ليس هو الكاتب المترجم بالضرورة، بل هو الكاتب الذي أثر بثقافته المحلية، وبناء على ذلك تمت ترجمته، وصار بالإمكان القول إنه عالمي. من كان يعرف نجيب محفوظ قبل نوبل؟ وقد حصل عليها ليس لأنه كان مترجمًا، بل لأنه أثر في الثقافة العربية والثقافة المصرية، وأثره في ثقافته المحلية هو الذي أدى إلى ترجمته. ما ينبغي التأكيد عليه بلا تردد هو أن على الكتاب السوريين في ألمانيا (وغيرها) أن يقدموا ثقافتهم المحلية كما هي وليس كما يريدها الألمان، وعندما يحدث نوع من التضاد لا ينبغي مراعاة ذلك، بل ينبغي الإلحاح على تقديمه على أنه ثقافتنا. ما يحدث غالبًا من خلال متابعتي هو أن بعض الكتاب يفكرون بأننا يجب أن نكتب كذا ولا نكتب كذا لأن الألمان يحبون هذا ولا يحبون ذاك... في هذه الحالة نحن نكتب ثقافتهم وهم بغنى كبير عن ذلك. عمقيًا، هم يرغبون بالتعرف إلى ثقافتنا كما هي وليست الثقافة المُرتعشة أمامهم". 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.