}

13 نيسان اللبناني: زيت السلاح على أيدي الأحفاد

فيديل سبيتي 13 أبريل 2017
هنا/الآن 13 نيسان اللبناني: زيت السلاح على أيدي الأحفاد
غرافيتي عن 13 نيسان

لحسن الحظ أن اللبنانيين يتفقون على بداية حروبهم الأهلية المديدة والمتناسلة في 13 نيسان/ إبريل 1975، بعد حادثة "بوسطة عين الرمانة"، رغم أنهم يختلفون على سبب هذه الحروب، فبعض أصحاب العواطف "الأخوية" يظنها "حروب الآخرين على أرضنا"، وفي خلده أن اللبنانيين لو تركوا إلى حالهم وطبيعتهم وفطرتهم فإنهم سينعمون بسلام أبدي على أرضهم "الجنة" أو "قطعة السما" على ما رندح الرحابنة والصافي وشمس الدين، مطولا.

آخرون يجدون أسباباً أخرى للحرب، الطبقية مثلا، والطائفية، والسلاح الفلسطيني، وقوة لبنان في ضعفه، واتفاق القاهرة 1968 بعد هزيمة 67، وعدوان إسرائيل الهمجي في كل حين. بعض آخر يقول إن حرب اللبنانيين مكتوبة عليهم، لأنهم جُمعوا قسراً في بلاد لا تسعهم ولا تُؤوي خلافاتهم واختلافاتهم وأعراقهم وإثنياتهم وطوائفهم، بالتأكيد.. إلخ.

 

الحرب لم تقع كما في الروزنامة

 

الأسباب كثيرة لتبرير الحروب الأهلية اللبنانية. كل لبناني يمكنه اختيار السبب الذي يناسبه من بين هذه الأسباب لتبرير اشتعالها، ويمكنه أن يختار بينها ويدمج أحدها بالآخر ليستخلص سبباً إضافياً، لكن ما لا يمكن للبناني أن يناقش فيه هو تاريخ انطلاق الحروب الأهلية اللبنانية، فالتاريخ المحدد والنهائي والمحسوم هو 13 نيسان 1975. ومنذ ذلك اليوم الذي جرت فيه مهاجمة "بوسطة" (باص، حافلة) عين الرمانة بدأوا بالعدّ، فيقولون مرت سنةٌ على بداية الحرب، ثم سنتان ثم خمس عشرة سنة... ثم ثلاث وأربعون سنة. وكما بدأ العدّ في تاريخ محدد فإنهم ينهونه في تاريخ محدد أيضاً، أي مع بدء تطبيق اتفاق الطائف، ويعتبرون أن هذا التاريخ هو اليوم الذي انتهت فيه الحروب الأهلية اللبنانية. يريدون للحرب أن تبدأ في يوم وأن تنتهي في يوم. رغم أنهم يعرفون أن الحرب لم تبدأ في عام 1975 ولا في 13 نيسان منه، بل بدأت في اليوم الذي تم فيه إعلان لبنان الكبير 1923، أو في عام 1958 في "بروفا" الحرب المصغّرة، أو في عام 1973 حين أعلنت حالة الطوارئ وهاجم الجيش اللبناني معاقل الفلسطينيين ومراكزهم، أو في عام 2005 حين زلزل انفجار اغتيال رفيق الحريري لبنان... أو... أو...

اتفاق اللبنانيين على تاريخ محدد لبدء حروبهم ونهايتها لا يغير شيئاً من حقيقة الأمر، في عام 2017 يبدون وكأنهم في عام 1848 أو 1868 أو 1923 أو 1958 أو 1975 أو 1982 أو 1996 أو 2005 أو 2006...إلخ، ولكل من هذه التواريخ حربٌ صغيرة أو كبيرة تعرّف عنه. لنترك أمر التأريخ للمؤرخين، ولنعد قليلا إلى الوراء، إلى زمن ما  قبل "البوسطة"، وإلى ما حدث كي تقع حادثة البوسطة أصلا. لنعد إلى بداية السبعينيات من القرن المنصرم، ونشاهد كيف كانت تجري الأمور في بلاد الأرز واللبان، والواحة في قلب الصحراء.

 

بداية الحرب قبل أن تبدأ

 

1973 عام كغيره من أعوام السبعينيات من القرن المنصرم، لا يفترق عنها سوى أن جنازات تشييع "الشهداء" زادت عدداً، وسار خلفها لبنانيون وفلسطينيون كثر في الشوارع والأزقة على طول الأراضي اللبنانية وعرضها. فلبنان لم يكن منطلقاً لعمليات المقاتلين الفلسطينيين فحسب، بل كانت أرضه مثوى لأجساد شهدائهم ولشهداء لبنانيين قاتلوا في صفوف فصائل المقاومة الفلسطينية. ومع كل مسيرة تشييع كان يزداد التحام الشارع الإسلامي "العروبي" وأحزاب "اليسار" بالمقاومة الفلسطينية. فباتت الجنازة التالية تستقطب عدداً من المشيعين أكبر من التي سبقتها، وترتفع فيها شعارات سياسية أكثر إصراراً على منح المقاومة الفلسطينية حرية العمل فوق الأراضي اللبنانية.

جاذبية "الكفاح المسلح" وفاعليته في جمع المناصرين ساهمتا في تكريس الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وأرستا دعائم هذه الدويلة، خصوصاً بعد اتفاق القاهرة في عام 1969، وانتقال الفدائيين المسلحين من الأردن إلى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود في عام 1970.

 

حدس ياسر عرفات 

 

في تصريح له في اليوم الأخير من عام 1972، إثر سؤاله عن توقعاته للعام الجديد، قال ياسر عرفات إن هذا العام سيكون عام الانتفاضات والثورات وتحقيق "الانتصارات". ولم يكذب حدسه. كانت "منظمة التحرير الفلسطينية" تتبنى العمليات التي تجري في الداخل الفلسطيني، ولكن مجموعات بأسماء مختلفة كانت تعلن مسؤوليتها عن العمليات التي تقع في خارج أرض المعركة الأصلي، أي في الدول الأوروبية أو العربية أو على متن الطائرات المخطوفة.

كان الرد الإسرائيلي على تمدد الفصائل الفلسطينية في لبنان وتمتعها بحرية العمل العسكري، اغتيال قادة منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية في أماكن وجودهم في أوروبا، وكان على رأس هؤلاء الدكتور باسل رؤوف الكبيسي في باريس في آذار 1973، قبل أن تكرّ سبحة الاغتيالات لتطاول عدداً كبيراً من القيادات والمثقفين والكتاب الفلسطينيين الموزعين في أرجاء أوروبا.

ولجأ الإسرائيليون إلى عمليات الكوماندوس في لبنان، وكانت البداية بالهجوم على مخيمي البارد والبداوي في شمال لبنان في شباط 73، حيث قتل الكوماندوس ما يزيد على أربعين فلسطينياً من المسلحين والمدنيين، بعد معارك امتدت على مدى ساعات طويلة دمر خلالها جزءا كبيرا من المخيمين.

بعد هذا الكوماندوس اشتعل غضب الشارع اللبناني بمختلف أطيافه في وجه الحكومة اللبنانية، بعدما كان الغضب مشتعلا أصلا اقتصاديا واجتماعيا. فقد اعتبر اللبنانيون، مواطنين وساسة، أن هذا الهجوم ينتقص من سيادة بلادهم، ويكشف ثغرات أساسية في المنظومة الدفاعية ويثير الشك حول تواطؤ الأجهزة الأمنية اللبنانية مع المهاجمين، خصوصاً أن هذه العملية كانت الأولى من نوعها حينذاك.

الإسرائيليون، بتوحشهم العسكري، لا يعنيهم من لبنان سوى كونه منطلقاً للعمليات العسكرية الفلسطينية، هشاشة تركيبته الاجتماعية والسلطوية، وانفراط عقده، أمور ذات فائدة لهم، لا تضيرهم البتة. لذا قامت مجموعة كوماندوس إسرائيلية جديدة باقتحام بيروت ليلا في 10 نيسان من العام نفسه، أي بعد شهرين من الكوماندوس الأول، واغتالت ثلاثة من القيادات الفلسطينية، هم أبو يوسف النجار وكمال عدوان عضوا اللجنة المركزية لحركة "فتح"، وكمال ناصر عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

هذا الاعتداء الاسرائيلي قصم ظهر العلاقة المترددة بين السلطة اللبنانية ومعارضيها، مواطنين وساسة. جاء الغضب عارماً وتحديداً في الشارع الإسلامي- العروبي في بيروت على وجه الخصوص. وسار في تظاهرة تشييع القادة الفلسطينيين في 12 نيسان مئات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين، وكانت الأكبر من بين التظاهرات التي شهدتها بيروت بعد تظاهرة التشييع الرمزي لجمال عبد الناصر.

ردَّد المشيعون شعارات تطالب بإسقاط الحكومة "المتخاذلة"، ورفعت الأحزاب شعارات تستهدف السلطات اللبنانية "المتواطئة" مع العدوان من قبيل: "لا لسلطة القمع والتخاذل والتواطؤ مع شبكات التخريب الإسرائيلية" و"الحرية للمقاومة الفلسطينية بالعمل وحماية نفسها". وانطلقت تظاهرات حاشدة في الجنوب والبقاع وطرابلس، وكلها كانت ترفع شعارات مضادة للحكومة وللحكام العرب والأنظمة "العميلة". وامتدت حالة الغضب تلك إلى نقابات واتحادات لم تكن حتى ذلك الحين تبدي رأياً واضحاً في الخلاف السياسي اللبناني حول المقاومة، كنقابة المحامين واتحاد الكتاب اللبنانيين.

وما زاد من حدة هذه التظاهرات أنها صادفت مرور أسابيع على انطلاق تظاهرات واعتصامات المعلمين المصروفين من وظائفهم بسبب إعلانهم إضرابا لتحسين أوضاعهم وأوضاع التعليم، فواكبهم في تحركهم طلاب الجامعة اللبنانية ومن بعدهم طلاب الثانويات وطلاب الجامعات الخاصة، بتظاهرات واعتصامات امتدت على أسابيع ولم تخل من عنف وقمع وسقوط قتلى وجرحى في المواجهات مع رجال الشرطة.

 

زيت على نار

 

كانت عملية الاغتيال بمثابة وقود رمي على نار التظاهرات الطالبية، فزاد اشتعالها اشتعالا، وتحوّلت التظاهرات عن المطالب الطالبية إلى المطالب السياسية. ودعا كمال جنبلاط إلى "ترك المقاومة تحمي نفسها بنفسها".

وتأجج الغضب الشعبي وانتفخت مشاعر الضغينة، فانطلقت أعمال التخريب، وقام مسلحون بتفجير عدد من خزانات الوقود في التابلاين –الزهراني مسببين كارثة اقتصادية وبيئية لم تكتمل فصولها لأن القوى الأمنية تمكنت من تفكيك 17 عبوة من أسفل الخزانات.

الغيوم السوداء الناتجة عن عملية تفجير خزانات النفط لم تطغ على العمليات التخريبية الصغيرة التي يقوم بها مسلحون من مختلف الأحزاب، ولا على المناوشات والمشاكسات التي كانت تقع بين القوى الأمنية والمقاومة الفلسطينية فوق سائر الأراضي اللبنانية، وعلى الأخص في بيروت مع المسلحين المنتشرين على حدود المخيمات، وعلى الحدود الجنوبية مع الفدائيين.

 



الانقسام الأفقي والعمودي

 

دعم أبو عمار التنظيمات اليسارية اللبنانية الصاعدة من رحم العمل الطلابي ونقابات العمال الناقمة على التركيبة الطائفية-الطبقية للنظام اللبناني، ومن محرومي الطائفة الشيعية في الجنوب وفي أحزمة البؤس التي سكنوا فيها حول بيروت. تسلّم كمال جنبلاط دفة هذه التنظيمات وقرّب في ما بينها وجمعها في إطار "القوى الوطنية والتقدمية"، مستقطباً الشباب اللبناني المتحمس للأفكار الجديدة وللمقاومة الفلسطينية والتوّاق إلى حمل السلاح.

انشدّت "العصبيات" اللبنانية إلى جهتين متقابلتين، الأولى مثّلها صعود أحزاب اليسار السريع، والثاني لدى الجيش اللبناني والشارع المسيحي الذي شعر أنه مقبل على فقدان سلطته السياسية أولا، و"لبنانه" ثانياً.

حتى عام 1973 كان هذا الافتراق بين الشارعين المسيحي والإسلامي يعبّر عنه بخلافات على مواضيع تفصيلية بسيطة لكنها ذات دلالات. على سبيل المثال، كان أركان الرابطة المارونية يطالبون بتعطيل الموظفين المسيحيين في أيام الصيام المسيحي ساعتين في النهار كما الحال مع أقرانهم الموظفين المسلمين في شهر رمضان، من منطلق مساواة موظفي الدولة اللبنانية في دوام العمل. وهذا المطلب هو رد على مطالب المسلمين بالتعطيل رسمياً يوم الجمعة كما يعطّل المسيحيون نهار الأحد.

كان التنافر  بين الفريقين اللبنانيين آخذاً بالتصاعد من دون أن ينفلت من عقاله سوى مرة واحدة في أيار من عام 1973. أي أثناء المعارك التي جرت بين الجيش اللبناني والمسلحين الفلسطينيين، هذه الحوادث التي ستكون بمثابة الديناميت الذي فجر السدّ، لو افترضنا أن المقاومة كانت النهر المضغوط خلف السد.

كان لبنان في خضم معارك كثيرة. معركة الداخل اللبناني- اللبناني السياسية، والمعركة المطلبية الداخلية، والسلاح الفلسطيني في لبنان والرد الإسرائيلي على هذا السلاح في لبنان ومن خلاله، والتحضير للمعركة الكبرى بين الدول العربية وإسرائيل في سبيل رد الاعتبار بعد هزيمة 1967.


الصعود الشيعي على ضفاف اليسار

 

أعطى الكوماندوس الإسرائيلي، والاشتباكات المتواترة بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية، التظاهرات المطلبية -الطالبية والنقابية- بعداً سياسياً كانت تطلبه وترجوه، لتتحوّل معركة "اليسار" اللبناني والشارع الإسلامي ومن خلفهما فصائل المقاومة الفلسطينية إلى معركة مع السلطة "المتخاذلة" والطائفية و"التقليدية". لكن هذا الغضب كان يترافق مع صعود "عصبية" شيعية أدار دفتها موسى الصدر، تحت راية رفع الحرمان عن الطائفة. وكانت تلك الحركة التي ستتصاعد وتتضخم ابتداء من ذاك العام، تتطور على طريقة "حضر الأصيل فبطل الوكيل"، فقد كان رجل الدين الخطيب والمعتدل وصاحب الكاريزما القيادية، يحاول إعادة الطائفة الشيعية -التي كانت الرافد الأساسي والأول لأحزاب اليسار "العلمانية"- إلى "رشدها"، بعدما كانت "العلمنة" و"الشيوعية" و"القومية السورية" و"البعثية" تفسد "شيعيتها" وتفتت عصبيتها كطائفة في مواجهة طوائف أخرى متكتلة بحسب هويتها الدينية. لكن عسكرة هذا المدّ الشيعي ستتأخر قليلا ريثما تنهك الحروب الأهلية اللبنانية القادمة أحزاب اليسار، قبل أن تتهاوى بعد الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982.

الاعتداءات الإسرائيلية اليومية وسوء الأوضاع المعيشية كانا دافعاً رئيسياً للنزوح الشيعي من الجنوب نحو أحزمة البؤس في بيروت في السنوات الأولى من عقد السبعينيات، ما أثقل كاهل السلطات اللبنانية بعبء جديد لتلبية حاجات عشرات الآلاف من سكان أحزمة البؤس التي راحت تتداخل مع المخيمات الفلسطينية الموزعة على أطراف بيروت في الدكوانة وجسر الباشا وفرن الشباك وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة والنبعة وبرج حمود.

ضاقت أحوال المزارعين الجنوبيين الذين راحوا يتكلفون على زراعة التبغ أكثر مما يجنون منها.

لكن مزارعي التبغ لم يبدأوا بالنزوح قبل محاولة تحصيل مطالبهم بواسطة التظاهرات، هذا قبل أن يستنكفوا عن التظاهر ليتحوّلوا إلى أبرز حاملي السلاح في المنظمات الفلسطينية وفي أحزاب "الحركة الوطنية" وفي "حركة امل" في ما بعد. وسيرة هؤلاء النازحين هي مشهد واحد من سيرة تهاوي السلطة التقليدية في المرحلة القادمة، تلك التي جاء الكوماندوس الإسرائيلي ليكشف الهوة الواسعة التي تفصلها عن مواطنيها وأهوائهم المستجدة.




مواقف الدولة والاحتجاجات

رغم كل التغييرات والتحوّلات التي تُوّجت في ذلك العام ظلّ الزعماء والسياسيون التقليديون، سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة، يتعاملون مع ما يجري وكأنه يحدث في بلد آخر. وسواء كان الساسة اللبنانيون يتقصدون التعامي عن المجريات المستجدة أو يتعامون عنها من غير قصد، فإن الدولة اللبنانية في ذاك الوقت كانت كبيتٍ مؤلف من طبقتين: طبقة علوية جدرانها كاتمة للصوت يعيش فيها معظم الساسة أصحاب السلطة ورؤساء الكتل النيابية المقررة في مصير البلاد. وطبقة أرضية يملؤها معظم الشعب اللبناني والمقاومة الفلسطينية ضجيجاً، قبل أن يحوّلا الطابقين إلى بيت واحد "بمنازل كثيرة" مشرّعة على كل شيء.

وكان لسكان "الطبقة العلوية" في البيت اللبناني امتيازات معيشية خاصة تظهر في نمط حياتهم الخاص. فالسلطة مغرية في لبنان في زمن كانت البلاد قبلة لا تهدأ للسياح الأجانب من كل الجنسيات ولأموال النفط القادمة من الخليج. لذا أرسى أصحاب "المجتمع المخملي" نمطاً للحياة يشبه ذلك الذي كان سائداً في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى أو في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، في البذخ والترف وإقامة الحفلات والسهرات في الملاهي والمطاعم والقصور الفخمة، بعدما تداخلت علاقات هؤلاء السياسيين بالتجار الكبار من اللبنانيين المستثمرين في الخليج العربي النامي وفي أفريقيا، وبالمصرفيين الكبار الذين كانوا يديرون القطاع المصرفي اللبناني المزدهر في ذلك الحين.

والواصلون إلى مركز ما في هرم السلطة اللبنانية من الوزارة إلى النيابة إلى مركز المدير العام كانت تنقل "اجتماعياتهم" على صفحات "الاجتماعيات" في الصحف اللبنانية، وهذه الموجة بدأت منذ سنوات الخمسينيات حين كان يتم تشبيه الرئيس كميل شمعون وزوجته زلفا بممثلي الأفلام الأجنبية. وسارعت وسائل الإعلام إلى تكريس هذه الصورة بتغطية المناسبات التي يحييها والسهرات التي يقيمها والضيوف الذين يشاركونه هذه السهرات، ثم تكرست هذه الصفحات في الصحف اللبنانية، فبدا السياسيون وزوجاتهم وأولادهم وأقاربهم وأصحابهم من الأثرياء إضافة إلى مجموعة الممثلين والفنانين والمغنيات والاستعراضيات اللواتي يدرن في فلك "الحياة الاجتماعية" للساسة وأصدقائهم رجال الأعمال والمصرفيين، بدوا كأنهم يدأبون على التباري في إقامة السهرات والاحتفالات ودعوة شخصيات مشهورة ومهمة إليها، وتنتقل المنافسة إلى نوعية الملابس وألوانها وكيفية تمشيط الشعر والمكان الذي يقام فيه الاحتفال. فتظهر في الصور أصوات الضحكات العالية وأصوات الكؤوس المطروقة ببعضها والضجيج الذي يعم مكان الاحتفال، فيبدو السياسي الذي في صورة الاحتفال في الصفحة العاشرة من الصحيفة هو غيره في الصفحة الثانية أو الثالثة حيث يدعو إلى العدالة الاجتماعية وإلى تأمين حقوق المناطق التي انتخب عنها.

 

الأجداد الغافلون والأحفاد المدججون

ترافقت حركة المعلمين والطلاب منذ مطلع العام، مع تحركات نقابات العمال ضد موجة الغلاء الآخذة بالتصاعد. وبرزت المطالب العامة لـ"القوى التقدمية" والتي كانت تتسع في مروحة لا حدود لها، فتدور حول المنازعات على الانتخابات النيابية، وطباعة الصحف المختلفة، وأنشطة الأحزاب والجماعات العلنية، وحرية العمل النقابي، وترخيص الجمعيات وبياناتها وحرية التظاهر، ومدارس التعليم الأهلية والخاصة، إلى العقود الجماعية والهيئات التحكيمية المستقلة، إلى الاقتراع في أمكنة العمل والإقامة، وزيادة الأجور وتعديل المناهج المدرسية، وإلغاء العلامة اللاغية، وتخفيض رسوم الإيجارات وإثبات علاقة أجنحة "الطبقة الحاكمة" كلها بالطبقة الرأسمالية والغمز من الرأسماليات العربية، والتظاهر تضامناً مع جبهة التحرير الوطني الفيتنامية...إلخ.

كان رد السلطة اللبنانية على هذه التظاهرات رادعاً وقاسياً وغالباً ما أدى إلى جرحى واعتقالات في صفوف الطلاب، ما ساهم في تحوّل مواضيع تلك التظاهرات إلى الدفاع عن الحريات والتعبير عن الرأي، قبل أن تتطور يوماً بعد يوم لتطاول المواضيع السياسية المتعلقة بالمقاومة وبتركيبة النظام السياسي، فكلما كان الطلاب يحصلون على مطلب من مطالبهم كانوا يجدون مطلبا آخر يرفعون لواءه.  

بدا الأمر وكأنه موجة تنفيس عن احتقان أبدي وقديم، تنتقل من الطلاب الجامعيين إلى الطلاب الثانويين إلى العمال في شبه حلقة بدأت في الأشهر السابقة على كوماندوس 10 نيسان ولم تنته بعده. لكن موجة الغضب الضخمة التي كان يصنعها الطلاب كان يرد عليها رئيس الجمهورية سليمان فرنجية بالقول "ما نريد تنفيذه من مطالب الطلاب، ننفذه، وما لا نريد تنفيذه لا ننفذه، بإضراب أو بلا إضراب". أما رئيس الحكومة صائب سلام فكان يرد:"للتظاهر أقول: كفى. وللتظاهر خارج القانون أقول: كفيان".

كان الرئيسان يردان على طلاب يتم تثقيفهم بشكل دؤوب على أفكار ماركسية وعروبية وقومية وثورية في المخيمات الفلسطينية والأحياء اللبنانية المجاورة لها، بنفس الطريقة التي يتبادلان فيها الكلام مع أحفادهما في المنزل.





كان رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ومعظم الوزراء والنواب طاعنين في السن، وينظرون إلى ما يجري في الشارع على أنه من أعمال "الأبناء الضالين" الذين سيعودون إلى صوابهم بالقمع، تماماً كما يقمع الأب ابنه الذي "لا يسمع الكلمة". لكن عاطفة الأجداد المتسلطين، منعتهم من رؤية زيت السلاح على أيدي أحفادهم الذين بدأوا بتنظيف السلاح في مخيمات التدريب المنتشرة في كل أنحاء لبنان، في انتظار أن يحين موعد استعماله.

 

 مقياس ريختر

كان الطلاب المسيسون مقياس "ريختر" لزلازل الحالة السياسية التي أخذت بالفوران في الشارع اللبناني، وتحديدا في الشارع الإسلامي- العروبي منه. وشارك الطلاب والعمال في النقاش الدائر بين اللبنانيين حول تبعات انطلاق عمليات الفصائل الفلسطينية من الأراضي اللبنانية وانتشار السلاح الفلسطيني في المخيمات وخارجها. وتأثروا بهذا النقاش وأثروا فيه.

لكن الطلاب اللبنانيين الذين كانوا ممثلين في "اتحاد الطلبة العام" بمختلف اتجاهاتهم، انقسموا حول هذه الشعارات السياسية، فتنافس على معركة اتحاد الطلبة في ذلك العام "الرابطة اللبنانية" القريبة من الأطراف المسيحية، وأحزاب اليسار على اختلافها والمقربة من الفصائل الفلسطينية. كما انقسم العمال الذين كانوا موحدين حول مطالبهم في النقابات العمالية، وكان سبب الخلاف الأول إعلان رئيس الاتحاد العمالي العام، المقرّب من الكتائب، إلغاء الاحتفال بعيد العمال في الأول من أيار في ذلك العام بسبب الأحداث التي جرت على أثر عملية الكوماندوس الإسرائيلية، فقررت عدة نقابات عمالية بقيادة الأحزاب اليسارية الاحتفال بشكل مستقل وإقامة مهرجان خطابي وتظاهرة عمالية في عيد العمال.

هذا الانقسام لم يبق في حدود المواجهات الكلامية بل تعداها إلى ظهور بوادر تدريب على استخدام السلاح. فراح الفريق القيادي المسيحي ومنذ عام 1972 يغذي وينمي قدرات عسكرية ولو على نحو غير منظّم (كانت التدريبات أقرب إلى المخيمات الكشفية)، وتمكّن من تأطير وجذب فئات مسيحية متسعة وممتدة على الأراضي اللبنانية. وفي المقلب الآخر كان الفلسطينيون قد أقاموا معسكرات تدريب للشبان اللبنانيين في المخيمات، وقد تخرج منها حتى عام 1973 مئات الشبان اللبنانيين المستعدين للقتال.

"بوسطة" عين الرمانة في نيسان عام 1975، كانت مجرد آلية تنتقل على أتوستراد كان قد زرع بالألغام قبل انطلاقها حتى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.