}

رحيل مكاوي سعيد: القاهرة "الجديدة" كتغريدة بجعة وحيدة

أحمد عبد اللطيف 3 ديسمبر 2017
هنا/الآن رحيل مكاوي سعيد: القاهرة "الجديدة" كتغريدة بجعة وحيدة
مكاوي سعيد

 يمثل الروائي المصري الراحل، مكاوي سعيد، حالة خاصة في الرواية المصرية، إذ لا تنتمي جمالياته إلى جيل التسعينيات الأقرب له سنًا والأكثر انتصارًا للفرد، ولا إلى جيلَي الستينيات والسبعينيات المشغولَين، في الإجمال، بالأسئلة الكبرى والجمعية. إنها حالة تجمع ما بين الفردي والجمعي، منتصرة بالأساس للحكي كفن، حكي حكايات أفراد عاديين. لا هم مهمشون في الحياة ولا هم أبطال خارقون. هؤلاء الأشخاص الذين يبدون في ظاهرهم غير جذابين فنيًا، ولا يحملون وراءهم حكاية تُحكى، كانوا هم المادة الخام لأعمال سعيد، الذي استخلص منهم ما يلفت الانتباه، من دون انشغال كبير باللغة، المستخدمة كوسيلة توصيل بينه وبين القارئ، ومن دون تعقيدات تكنيكية قد تلفت القارئ او تشغله بعيدًا عن البطل العادي وجوهر المضمون. لذلك، فاختيارات صاحب "تغريدة البجعة" الجمالية كانت في البحث عن أبسط الطرق الممكنة لتسريب خطابه السردي عبر قصة تبدو في ظاهرها مسلية وبسيطة، فيما تحمل في عمقها أسئلة مؤرقة حول الحياة والموت، حول الفردي والجمعي، حول السياسي بكل ما فيه من قسوة وصعوبة وأثره، غير المباشر، على حياة الأبطال. هذه الرؤية االفنية تتجلى في رواية "فئران السفينة" وتبلغ نضجها في "تغريدة البجعة"، ثم تتجلى مرة أخرى في "أن تحبك جيهان" في انحياز تام لحكاية الأفراد والمكان. انشغال لا يغيب عن كتابه "مقتنيات وسط البلد" حيث تكتسب الأمكنة حياة في سرد مكاني فائق الرقة والجودة، و"بياعين الفرح" الذي اختار له عنوانًا جانبيًا "حكايات وتأملات". الفواصل الفنية بين هذه الروايات وكتبه النثرية فواصل واهنة، إذ يبدو الكتابان الآخران كتابة عبر النوعية، يحتل فيها السردي مساحة أكبر من التوثيق والتأمل، غير أنهما لم يصنفا كقصص. هذا هاجس آخر، على ما يبدو، من هواجس مكاوي سعيد، التردد أمام تصنيف "رواية" أو "كتاب قصصي" على كتاب كل ما يتطلع إليه هو الحكي من دون شروط مسبقة من أنواع أدبية. هذه التفصيلة العابرة قد تكون معبرة عن هذا التصور الفني، وهو ما يميزه أيضًا كـ "كاتب" أو "حكّاء"، لندرة الكتب النثرية المكتوبة بالعربية. وهو في هذا النثر يقترب من تأريخ للأمكنة، وسط البلد تحديدًا، كما يؤرخ لشخصياتها كأثر بارز. هذه المعرفة بالمكان ربما كانت أحد منطلقات كتبه، السردية والنثرية، إذ المكان هو رحم الشخصيات، والشخصيات بدورها أم لهذه الأماكن، شديدة الالتصاق بها.

 

الواقع باعتباره رواية   

 في كتاب "6 نزهات في غابة السرد"، يتساءل الروائي والسيميولوجي الإيطالي أمبرتو إيكو:"إذا كانت العوالم السردية تمنحنا راحة كبرى، فلمَ لا نحاول قراءة العالم الواقعي باعتباره رواية؟ وإذا كانت عوالم التخييل السردي بالغة الضيق وتمدنا براحة وهمية، فلم لا نحاول بناء عوالم سردية بالغة التعقيد ومتناقضة ومستفزة شبيهة في ذلك بالعالم الواقعي؟". في السؤال الأول يدفعنا إيكو لتحليل الواقع وقراءته باعتباره رواية، بهذه الطريقة يمكن فهم تعقيداته وربط علائقه ببعضها. وفي السؤال الثاني يقترح عالمًا سرديًا يحاكي الواقع، أو متولدًا منه، أو واقعًا موازيًا غير أن له خصائصه الفنية. ربما يتماس هذا المقترح مع سردية مكاوي سعيد في "تغريدة البجعة"، روايته الأنضج، إذ تتميز باستخلاصات للواقع، واقع القاهرة الآن بشخصيات الشوارع والمقاهي، واقع لا يلامسه الخيال أو البعد عن الأرض، إنما كلما تقدمت الرواية غرست أقدامنا في عالم يبدو طبيعيًا، وأحداثًا لا تفارق حقيقة المدينة. هذا التوغل في أرض سردية واقعية، حد أنها تبدو سيرية، يبدأ من الصفحة الأولى، حيث البطل جالس على مقهى في وقت متأخر، وحيث الجرسون يتأفف لأن موعد الإغلاق قد حان، والبرد القارس يشتد، والحماية من الوحدة، أكثر من طلب الحماية من البرد، يتصدر المشهد. هكذا ينطلق مكاوي رأسًا إلى بطل مهزوم ومطرود، ينتظر من لا يأتي ويسير إلى حيث لا يعرف. هذا المعنى الأولى الذي سرده في الصفحات الأولى في مشاهد سريعة، سيكون الإطار الأصلي للرواية، وبداخله ستتغير الصور من دون أن تخالف إطارها أو تتعارض معه. داخل الإطار سيتعاقب الأبطال: مصطفى: البطل/الراوي، زينب: المغتربة من قريتها للقاهرة، كريم: طفل الشارع، مارشا: الأجنبية التي تفتح له أفقًا للعمل ويتعاون معها في مشروعها عن أطفال الشوارع، وعصام: صديقه المقرب. شخصيات يجمعها الاغتراب والطموح، والهزيمة النهائية. وباستثناء مارشا الأجنبية، يمضي كل واحد فيهم إلى نهايته المحتومة، ليغرد كل منهم منفردًا تغريدة البجعة. وعبر هذا التلاحم بين الشخصيات، وهمزة الوصل بينها البطل ذاته، وتطور حيواتهم على هامش الواقع السياسي القاسي والأزمة الاجتماعية التي تخلّف وراءها أطفال شوارع بؤساء ومجرمين، يتشكّل الواقع، الذي يشير إليه أمبرتو إيكو، بداخل الرواية، كما تتشكّل رواية ما للواقع المصري تحت حكم مبارك، إذ السياق السياسي، رغم أنه لا يشغل السؤال الأكبر في العمل، هو المكوّن لكل أزمات الأبطالِ الذين وجدوا أنفسهم على هامش الحياة أبطالاً/ليسوا أبطالاً، رغم أنهم مجرد أشخاص عاديين، أو ربما لأنهم أشخاص عاديون. هذا الرصد الذي اختار المؤلف أن يتبعه عبر تفاصيل الحياة الصغيرة، ومن خلال الأحداث العابرة التي تمنح للمتلقي شعورًا بالإحباط العام، يقتفي أثر العوالم التحتية ويفتش تحت قشرة المجتمع الأخلاقي والمثالي عن مفارقات وثنائيات، تديُّن أصولي وعاهرات، أطفال شوارع وأثرياء، ومركز له واجهة متآكلة ومزيفة يحيط به هامش متماسك في هشاشته. وداخل تطور حبكة الرواية، يتطور فيلم يتعرض لإحدى أكبر أزمات القاهرة: أطفال الشوارع. هنا تبدو الرواية نفسها فيلمًا بداخله فيلم آخر، وكأن كلًا منهما مرآة للآخر. أثناء ذلك، يتجلى البطل الذي ينتظر، البطل الذي يسير إلى وجهة لا يعرفها. كل الأبطال ينتظرون من لا يأتي، وكلهم يسيرون إلى وجهات لا تلبث أن تتحول إلى سراب. هذا المعنى لا يمكن فصله عن عام نشر الرواية، 2006، حيث تأكد الصعود الكبير للسلفية والتراجع الثقافي المذهل، في إطار من انتخابات رئاسية كارتونية وأحزاب وهمية لتحسين صورة النظام السياسي، ووعود مزيفة بالحرية يوازيها "نظام ريعي" يدعي الليبرالية الاقتصادية. لقد أدى التوسع العمراني وخلق مجتمعات عشوائية، بحسب الناقد صبري حافظ، إلى خلق هذا البطل الفرد التائه والمهزوم، وإذا كان في روايات أخرى قد اضطر إلى الهجرة أو الانكماش على ذاته، ففي رواية "تغريدة البجعة" لم يجد البطل طريقًا للنجاة إلا الموت، الموت المتكرر، الموت المحتوم.

تمثّل "تغريدة البجعة" بذلك القاهرة الجديدة، قاهرة الألفية، وإذا كان مكان الأحداث هو وسط البلد، فاختيار المكان له دلالته الملفتة، إذ وصلت تلك الأزمات للمركز فلم يعرف النجاة، حتى لو توهمنا أن الأزمة في الهامش، في الضواحي والجنوب. رواية لا تدور في القاع، وإن كانت تذهب إليه لتكشف واقعه التحتي، إنما في الطبقة الوسطى، وتُعرض من خلال راوٍ ينتمي لهذه الطبقة. نحن، إذن، أمام رواية ترسم خريطة لفترة تاريخية فارقة في المجتمع المصري، وتعبيراً حاداً عن جيل آخر مهزوم يشبه جيل 67، غير أن الفارق الواحد أن الستينيين جاءتهم الهزيمة من الخارج، فيما جاءت هزيمة الجيل الجديد من الداخل، وبعد سنوات طويلة من الاستقلال. من هنا تأتي أهمية رواية مكاوي سعيد، أنها استطاعت أن تعبّر عن الفرد وسط الخراب، من دون أن تقع في المباشرة أو الاستجداء، ومن دون أن تصدر الحدث الكبير، بل بانطلاقها من أرضية الفرد الذي يسير وسط الخرائب، وفي سيره يتكشف لنا كيف تكوّنت الأطلال وكيف سار العالم بعدها.

 هذا الانشغال بالواقع المصري وتجسيده، والذي تبدى جليًا في "تغريدة البجعة" كما تبدى في "فئران السفينة" و"أن تحبك جيهان"، و"مقتنيات وسط البلد" و"ليكن في علم الجميع سأظل هكذا" و"اللامرئيون" و"كراسة التحرير"(والكتابان الآخران عن ثورة يناير وحكايات شخصياتها)، هذا الانشغال بالواقع والقدرة على رسمه بدقة والغوص في قاعه، ما جعل لكتابات مكاوي سعيد بصمة فارقة، بصمة لن تزول. فمن خلال هذه الأعمال، نتعرف على قاهرة أخرى جديرة بالسخرية منها أكثر من النقم عليها وانتقادها، كما فعل مكاوي ببراعة.        

  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.