}

أهل الثقافة والصحافة في اليمن: الإقامة بين جحيمين

"ومن نَكَدِ الدّنْيا على الحُرّ أنْ يَرَى عَدُوًّا لَهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُّ"

قد ينطبق هذا البيت للمتنبي على أحوال كثير من أهل الثقافة والصحافة في اليمن شمالًا وجنوبًا، أي الذين يقيمون اليوم تحت سيطرة جماعة الحوثي في الشمال أو تحت سلطة القوّات الإماراتية والسعودية في الجنوب.

كل هذه الأطراف صارت تطلب من أهل الثقافة والصحافة، أولئك الذين رفضوا ترك اليمن، أن يشكروها على بقائهم سالمين دون أذيّة أو اعتقال أو أن عليهم أن يسكتوا وألا يكتبوا شيئًا حتى على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي. لقد صارت هذه الصفحات والمواقع تهمة أو شبهة على أقل تقدير.

لكن هناك من غادر، كثر غادروا، لم يحتملوا الوضع فغادروا تاركين كل شيء وراء ظهورهم. فالحياة أهم من كل شيء، وأي شيء.

لقد كان عليهم أن يُغادروا البلد أو البقاء بين نارين. كُتّاب وصحافيو اليمن، شمالًا وجنوبًا، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين لا سقف آمناً يحفظ حياتهم. هم المستقلون ممن سعوا وراء حياد الكلمة التي يكتبونها من دون الانحياز لطرف ما مِن كافة الأطراف المتقاتلة. 

الأدباء والصحافيون على حد سواء. وبما أن فضاء ومساحات مواقع التواصل الاجتماعي قد صارت تجمع أصحاب الجهات الكتابية في جهة واحدة، فإن قول كلمة تشير إلى مساحة تخصهم وسط الخراب الحاصل.

وهذه الجماعة لم يكن، بمنطق الحرب، أن تأخذ ولو جزءًا قليلًا من الترحيب، من أي طرف؛ بمنطق الحرب نفسها حيث لا أحد يحمي سوى القلم الذي كتب مادحًا فيه ومدافعًا عن أفعاله.

على هذا كان الروائي والشاعر والصحافي علي المقري أول المُغادرين من أرض اليمن. إلى باريس ذهب وأقام هناك طالبًا اللجوء بعد أن استغل فرصة تكريم روايته "حُرمة" بواحدة من جوائز معهد العالم العربي للرواية العربية في باريس (وقد أتى تاليًا للفائز بالجائزة الأولى الروائي الكندي السعودي محمّد حسن علوان عن روايته "قندس").


لكن الرواية الأصدق أن صديقة فرنسية لبنانية راحلة اسمها هدى أيوب هي من طلبت من المقري أن يبقى في باريس إلى حين تثبيت طلب اللجوء ومن بعدها السماح بطلب "لمّ الشمل" وحقه في طلب أسرته. لقد وافق المقري على هذا الطلب وهو من الناس الذين يؤمنون بحق الحياة وإن كان قلبه معلقًا بما يحصل في اليمن.

كما وهناك حالة الشاعر والصحافي نبيل سبيع. لقد تعرّض صاحب ديوان "هيليكوبتر في غرفة" لحالة اعتداء في قلب صنعاء في بداية الهجوم الحوثي على صنعاء. (وقتها توزعت الاتهامات حول الجهة التي قامت بالاعتداء، جماعة صالح أم الحوثي)، لكن في أوقات الحروب لا يجد الواحد من يلقي التهمة عليه، يتفرق دم الضحية على القبائل. وكانت رصاصات اخترقت ركبته ولم يشعر بها إلا في المشفى. هو اليوم يقيم في القاهرة ولا يقدر على رؤية طفليه وزوجته في صنعاء. يقول لنا "لولا نعمة التواصل الصوتية عبر الهواتف الذكية لكان ابني الأصغر قد نسيني". وقد كان سبيع الذي افتتح حياته كشاعر قصيدة نثر يمنية خاصة قد ختمها بشغل صحافي ضد نظام التوريث الذي تبناه صالح وأشعل ضده ما سُمي بثورة الربيع العربي، وبسبب كتاباته تلك ذهب إلى المحاكم لمرات عدّة.

وحين حكينا معه في صنعاء، وقتها، بعد وقت قليل من الاعتداء، وقد صار في المشفى قال لنا "أتى المحقق ليسألني: مين تتهم! فأجابه: أتهم فريق ريال مدريد". كأنه يرد على السائل بسؤال واستغراب وكأن الأول لا يعلم هويّة الفاعل. لقد كانت عادته في السخرية.

وإلى كل هؤلاء هناك الصحافي والباحث سامي غالب، رئيس جريدة "النداء" الموقوفة. لقد حاول هذا الناصري القديم خلق صحافة مُستقلّة بعد استقالته من عضوية التنظيم الناصري، لكنه فشل. كان لا بدّ لجريدته من أن تنتمي لجهة كي تمده بالمال لكنه رفض. حاكمه علي عبد الله صالح ورفضه الإخوان وتبرأ منه التنظيم الناصري فبدا وحيدًا في الطريق، وبعدها اضطر للبقاء في القاهرة حيث يحميه "الاتحاد الدولي للصحافيين".

أمّا في الجنوب، في عدن، فهناك محاولات لمن يُقال عنهم عناصر وكيانات مستندة على التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات وهي تحاول لأكثر من مرة الاستيلاء على مقر اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، في منطقة "خور مكسر"؛ هذا المكان الذي مرّ عليه شعراء عرب وفرنسيون كثر في تتبع لمسيرة شاعر "المركب السكران" آرثور رامبو. لقد تعرّض هذا المقر بوصفه رمزًا لوحدة اليمن، حتى من قبل إعلان الوحدة اليمنية نفسها، لمحاولات سطو كثيرة بما في هذا السطو على أرضية المكان وتعرّض أعضاء الاتحاد للأذية وتعرّضت حياتهم للخطر.

ولا أحد يعرف من يحمي تلك العناصر التي تحاول الاستيلاء على مساحة اتحاد الأدباء ولا من أين أتوا. وقد صارت المسألة الآن في يد النيابة العامة في عدن حيث لا قضاء اليوم في هذه المدينة. وكل القضاء قد صار في يد من يحكم المدينة اليوم، وقد أتوا من بعيد ليقولوا كلمتهم وسيطرتهم.


* كاتب وصحافي، اليمن

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.