}

رحلت شادية.. لكن صوتها لا يزال في حناجر الميادين

هشام أصلان 29 نوفمبر 2017
هنا/الآن رحلت شادية.. لكن صوتها لا يزال في حناجر الميادين
لوحة لشادية من مجموعة الفنان المصري عادل السيوي

بالأمس رحلت شادية عن الدنيا. الخبر تأكد هذه المرة.

الفقدُ نفسيٌّ وليس فنيًا. حقيقة الأمر أن شادية جسديًا ليست موجودة بيننا منذ أكثر من ثلاثين عامًا، بينما لم يغادر صوتها لحظة. من هنا هي إحدى التجليات الكبيرة لمعنى أن الفنان لا يموت. حقيقة الأمر أنه لا خسارة فنية بهذا الرحيل. أغانيها تملؤنا في الفرح والحزن والذكريات ولحظات الحماس. مع ذلك، كان لطيفًا أن تبقى على قيد الحياة ولو كانت بعيدة. كان جيدًا أن نعرف مصدرًا حيًا للصوت الذي ملأ ميادين الثورة شجنًا، ضحكًا وبكاءً. مصر الآن تتلقى العزاء في قريبة كثيرٍ من أبناء الوطن. كانت، في مراحل حياتها الفنية المتتالية، تشبه الأخت وابنة العم والخالة الصغيرة، بينما اقتربت من حافة هويتها كامرأة مكتملة قبل سنوات قليلة من التواري.

رحلت شادية عن 86 عامًا، لكنها ستظل صديقة الشجن والثورة، وحبيبة لحظات الانتصار. كل انتصار. صوتها الحنون ودرجة عالية من الإحساس ساهما مع موسيقى الساحر بليغ حمدي، في إنقاذ "يا حبيبتي يا مصر" من أن تكون هتافًا، وصارت فنًا استعانت به المسيرات.

ربما أنه من الظلم البيّن اختصار شادية في هذه الأغنية على شهرتها، ولكن عذر أبناء هذا الجيل أنها الأغنية الألمع في أكثر لحظات حياته نورًا. ملأته نشوة وساعدته على الضحك والنسيان. حتى بعدما جاء وقت الانكسار، تتجلى كأغنية الشجن والمرارة. كانت تخرج من مكبرات الصوت أعلى المنصة الرئيسية في الميدان، فتذهب إلى خارج حدوده مارة بكل ألسنة القابعين والمارة والجالسين في المقاهي عند الشوارع الجانبية. يبتسم من يبتسم، ويبكي من يبكي. على ذلك، نعرف أن شادية أكثر اتساعًا من أغنية ثورتنا.

***

لشادية في ذاكرة أبناء جيلي أيضًا خانة أخرى بخلاف خانة الثورة وأيامها. ذلك أن العمل المسرحي الوحيد الذي قامت ببطولته، "ريا وسكينة"، هو أحد الأعمال التي تجلس مستريحة في وجدان الطفولة والمراهقة ومشارف الشباب. أغانيها المبهجة علامة أيام الأعياد. وقت كانت السعادة تأتي بأشياء سهلة التوفر. حفظناها بالأغنية والمشهد، وحفظنا ضحكات العائلة فردًا فرداً.

على ذلك أيضًا، هي أكثر رحابة بكثيرٍ بما فعلته في وجدان أجيال متتالية، وستتوالى حتى الأبد بأغاني صالحة لكل حالات السمع، وطاقة من خفة الظل اللافتة في عدد كبير من الأفلام المسليّة، وموهبة في الأداء الجاد بعدد آخر من الأفلام التي حملت أبعادًا سياسية ومجتمعية. هي من القليلات اللواتي جسدن المعنى الحرفي لوصف "الفنانة الشاملة" مُكمّلة إياه بنجاح التأثير الكبير في وجدان أمة ليس لديها فقرٌ في مناحي الفنون عمومًا والغناء خصوصًا.

البداية كانت دورًا صغيرًا في فيلم "أزهار وأشواك"، قبل أن يرشحها المخرج أحمد بدرخان لحلمي رفلة، لتقوم بدور البطولة في فيلم "العقل في إجازة" أمام محمد فوزي في أول عمل من إنتاجه. بعدها سيستعين بها فوزي في أفلام: "الروح والجسد، الزوجة السابعة، صاحبة الملاليم، وبنات حواء".

بعد فترة قصيرة، سيجد شباك التذاكر معها إيرادات عالية في عدد من الأعمال التي أنتجها أنور وجدي، مثل: "ليلة العيد، ليلة الحنة"، وسيتوالى النجاح في أدوارها الخفيفة، فيما يحكى، وفق مواقع إلكترونية، أن كمال الشناوي قال عمّا جلبته شادية من إيرادات لشركات الإنتاج: "إيرادات شيدت عمارات واشترت أراضي". غير أن مرحلة مهمة ستأتيها مع مشاركة صلاح ذو الفقار أفلام: "مراتي مدير عام"، "كرامة زوجتي"، "عفريت مراتي" و"أغلى من حياتي"، وصولًا إلى نوعية أخرى من الأعمال التي ذهبت فيها إلى تقديم نفسها كامرأة أكثر تركيبًا مع التناول السينمائي لروايات نجيب محفوظ: "اللص والكلاب، زقاق المدق، الطريق، وميرامار". فيما واتتها القدرة على صناعة مشهد رئيسي آخر لحياتها الفنية في فيلم "شيء من الخوف". تلك الأعمال، طبعًا، على سبيل المثال لا الحصر.

***

"إذا بدك تصير أسطورة لازم تعرف إمتى تزيح من الصورة"، تبدو عبارة منصور رحباني سهلة. الكلام دائمًا سهل.

في عمر الخمسين، قررت شادية الاعتزال، بذلك الوعي، وتلك القدرة وحدهما قالت في حوار مجهول المصدر: "لأنني في عز مجدي أفكر في الاعتزال، لا أريد أن أنتظر حتى تهجرني الأضواء بعد أن تنحسر عني رويدًا رويدًا.. لا أحب أن أقوم بدور الأمهات العجائز في الأفلام بعد أن تعوَّد الناس أن يروني في دور البطلة الشابة، لا أحب أن يرى الناس التجاعيد في وجهي ويقارنوا بين صورة الشابة التي عرفوها والعجوز التي سوف يشاهدونها، أريد أن يظل الناس محتفظين بأجمل صورة لي عندهم ولهذا فلن أنتظر حتى تعتزلني الأضواء وإنما سوف أهجرها في الوقت المناسب قبل أن تهتز صورتي في خيال الناس".

كثيرون وعوا لمعنى الانسحاب في وقت الألق، ولكن قليلين جدًا استطاعوا مقاومة شهوة التواجد، واتسموا بتلك القدرة. ثمنٌ فادح دافعه الخوف على وهج التلقي من الخفوت، خصوصًا لو كانوا من الذين ينيرون قلب الصورة، وليسوا العابرين على هامشها. ثمن فادح لكن المقابل يستحق. المقابل خلودًا نوعيًا.


بطاقة شخصية وفنية:

شادية، اسمها الأصلي فاطمة أحمد كمال، ممثلة ومغنية مصرية. ولدت في حي عابدين في القاهرة، عام 1931،  وترجع أصولها إلى محافظة الشرقية، شرقي القاهرة، قدمت خلال أربعين عاماً حوالى 500 أغنية، 112 فيلمًا و10 مسلسلات إذاعية ومسرحية واحدة، وهي من  أبرز نجمات السينما المصرية وأكثرهن تمثيلاً في الأفلام العربية، يعتبرها  العديد من النقاد أهم فنانة شاملة ظهرت في تاريخ الدراما العربية. قد تكون شادية الفنانة العربية الوحيدة التي مشى مشوارها الفني في مسارين متقاطعين: التمثيل والغناء بحيث لم تتخل عن الغناء لصالح التمثيل، أو العكس. وهي من أكثر من قدم الأغاني الوطنية التي ارتبطت بتطورات الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية، بحيث تحول صوتها إلى نشيد ميدان التحرير أثناء ثورة يناير عام 2011، وبدت اكتشافاً لثوار الميادين الذين لم يعرفوها على هذا النحو من قبل.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.