}

من سعيد إلى شيروود: الصهيونية حين تخاف من نفسها

إبراهيم قعدوني 8 أكتوبر 2017
هنا/الآن من سعيد إلى شيروود: الصهيونية حين تخاف من نفسها
سيغموند فرويد

قد لا يحتاج المرء إلى التذكير بأنَّ تعرية الفكرة الصهيونية وأساطيرها وتفكيك سرديّتها المُضلّلةِ كانت من مشاريع حياة مسيرة المفكر الفلسطيني - الأميركي الراحل إدوارد سعيد. فقد برع سعيد، على نحوٍ قلّما جاراه فيه أحد من قبل، في فضحِ الادّعاءات والمغالطات التاريخية التي روّجتها الحركة الصهيونية العالمية وظهيرها الإمبريالي على نطاقٍ عالمي. لم يكن خطاب سعيد بروباغانديًّا وهو المثقّف الحرّ الذي ضمن لنفسه استقلاليّتها برغم انخراطه في العمل الحركيّ الفلسطيني في إطار منظمة التحرير الفلسطينية.

 كان سعيد ناقدًا من الداخل، إذا ما صحّ القول، فقد أتاحت سيرته المعاشية والأكاديمية، وهو الذي أقام في أميركا، الاحتكاك الآني بديناميات الخطاب الصهيوني وبالمراكز الثقافية والسياسية والاجتماعية التي كانت بمثابة آلة إنتاج الدعاية الصهيونية وسرديتها التي هيمنت على المخيال السياسي والثقافي الغربي عامّةً والأميركي على وجه الخصوص. ناقش إدوارد سعيد بنحوٍ عميقٍ ومنهجيّ، الإنكار، بوصفِه واحدًا من بين أبرز المفاهيم التي تحكم المنظور الصهيوني إلى نفسه وإلى العالم من حوله، وباعتباره مدخلًا إلى "تزوير" السياق و"تشويهه" تمهيدًا إلى نزع الصفة الإنسانية عن الآخر - الفلسطيني وإشهار التهديد بمعاداة السامية ومناصرة الهولوكوست في وجه أيّ معترضٍ محتَمَل في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تصنع هولوكوستها الخاص بالفلسطينيين الذين تقتلهم وتهدم بيوتهم وتشرّدُهم وتصادر ممتلكاتهم.

الإبادة الثقافية في جوهر

السردية الصهيونية

لربما لا نأتي بجديدٍ إذا ما قلنا بأنّ سعيد نفسه كان أحد الأهداف الرئيسية والدائمة للهولوكوست الثقافي الصهيوني، فمن يقرأ سيرة الرجل وما أورده في نصوصه الكثيرة عن مكابداته الشخصية، وما تعرّض له من مضايقاتٍ من مراكز النفوذ والضغط الصهيونية في أميركا وفي العالم، يعرِف أيّ نوعٍ من الحروب القذرةِ كان عليه خوضها، كما يعلم أنَّ سياسة كمّ الأفواه كانت في صُلبِ الآليات التي انتهجتها الصهيونية العالمية التي كشف سعيد زيفَ ادعاءاتها الديمقراطية.

يذكر إدوارد سعيد في واحدة من مقولاته التي جُمِعَت لاحقًا في كتابٍ بعنوان "خيانة المثقفين: النصوص الأخيرة" أنّه كان قد تلقّى دعوة من مدير معهد ومتحف (فرويد) في فيينا سنة 2000، لإلقاء محاضرة (فرويد السنوية) باسم هيئة المعهد في السنة اللاحقة، وأنّه قبل فورًا نظرًا لإعجابه بفرويد الذي يوضح سعيد أنّه كان معاديًا للصهيونية في بداياته لكنه عدل عن رأيه في ما بعد حين جعلت المضايقات النازية ليهود أوروبا الدولة اليهودية "حلا ممكنا للعداء المنتشر والمميت للسامية، لكنّ موقفه من الصهيونية كان دائمًا غير واضح وغير ثابت".

اختار سعيد "فرويد وغير الأوروبيين" عنوانًا لمحاضرته المزمَعة، إذْ أراد، كما يقول في كتابه، أن يُثبت أنّ أعمال فرويد وبرغم أنها كانت عن أوروبا ومن أجلها، إلا أنّ اهتمامها بالحضارات الأخرى القديمة، مثل المصرية والفلسطينية والإغريقية والأفريقية، كانت إنسانية الطابع ودلّلت على شمولِ رؤيته، فضلًا عن أهميتها كنصوص معادية للنزعات الإقليمية على عكس معاصريه الذين شوّهوا سمعة الحضارات الأخرى غير الأوروبية ووصفوها بالحضارات الدونية.

 لكنّ سعيد فوجئ بعد أشهر برسالة أخرى تخبره بإلغاء محاضرته "بسبب الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط ونتائجها" ودون أي تفسير آخر، ليجيب على الرسالة بأخرى جاءت في سطرٍ واحد طلب فيه أن يوضح صاحب الدعوة له ما علاقة محاضرة عن فرويد في فيينا بالظرف السياسي في الشرق الأوسط! ولم يتلقّ ردًّا بالطبع.

لكن أقرباء فرويد، كما يوضح سعيد، قاموا بدعوته في أواخر آب/أغسطس من العام نفسه لمحاضرةٍ بديلة، إلا أنّ صاحب الدعوة السابقة، وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة "التايمز"، كان على درجةٍ من الوقاحة ليُدينَ الصورة التي التُقِطَت لإدوارد سعيد وهو يشارك في لحظة تذكارية ألقى فيها ناشطون الحصى من جنوب لبنان باتجاه شمال فلسطين المحتلة بعد تحرير الجنوب اللبناني، وليقول بأنها فضلًا عن نقدي للاحتلال الإسرائيلي كانت السبب في إلغاء محاضرتي!

بالطبع لم يذكُر صاحب الدعوة السبب الحقيقي لإلغاء المحاضرة وهو رضوخه لضغوطات مموّليه في الولايات المتحدة وإسرائيل الذين موّلوا إقامة معرضٍ في تل أبيب في وقتٍ لاحق.

آنذاك، قال إدوارد سعيد إنَّ فرويد طُرِدَ خارج فيينا من قِبَل النازيين وأغلبية الشعب النمساوي بسبب انتمائه، واليوم يسري الأمر عينه عندما يمنعون فلسطينيًّا من إلقاء محاضرة، أي نوعٍ بغيض وغريب من العار هذا الذي يخاف الدخول في حوار علنيّ وحقيقي يُعرّي أكاذيبها؟ يتساءل سعيد الذي يقول بأنّ هذا الاهتياج وتلك الكراهية لن يجلِبا سوى مزيد من العذاب والتخبّط للصهيونية.

ما أشبه اليوم بالبارحة

منذ أيّام، تحدّثت صحيفة "الغارديان" البريطانية عن قيامِ الجهات الرقابية في جامعة مانشستر بالتدّخل في اختيار عنوان كلمةٍ كان من المفترض أن تُلقيها المؤرخة المجريّة الأصل المقيمة في المملكة المتحدة ماريكا شيروود، ضمن نشاطات "أسبوع الأبارتهايد الإسرائيلي" الذي تنظّمُه لجنةُ "حملة المقاطعة والعقوبات وسحب الاستثمارات" والتي اختارت الترويج للكلمة بعنوانها الذي نصُّه: "إنكم تفعلون بالفلسطينيين ما فعله بي النازيّون". وحسب ما ذكرته الصحيفة، فإن قرار الجهات الرقابية في الجامعة وتدخّلِها لتغيير عنوان الكلمة جاء على خلفية تدخّل السفارة الإسرائيلية في المملكة المتحدة ممثلةً بالسفير الإسرائيلي وبملحقية الشؤون المدنية في السفارة التي أبلغ المُلحق المسؤول عنها إدارة الجامعة بأنَّ الكلمة "تنطوي على درجةٍ غير مقبولة من معاداة الساميّة"!

لعلّ المفارقة الأشدّ في الحادثة هي أنّ ماريكا شيروود واحدة من أولئك اليهود الذين نجوا من حملة التطهير التي تعرّض لها غيتو بودابست على أيدي القوات النازية تعتزم إلقاء كلمة في شهر آذار/ مارس القادم بعنوان "إنكم تفعلون بالفلسطينيين ما فعله بي النازيّون"، تنتقدُ فيه المعاملة غير الإنسانية التي يلقاها الفلسطينيون من الحكومة الإسرائيلية.

في نهاية المطاف قررت إدارة الجامعة إلزام القائمين على نشاط الأسبوع الثقافي بتغيير عنوان كلمةِ شيروود إذا ما أرادوا الحصول على الموافقة بإلقائها في الجامعة. أمّا الشرط الأهم فكان تغيير نصّ الإعلان عن المحاضرة والذي يقتبس عنوانها الأصلي ليحلّ محله نصّ جديد يقول "حكاية ناجِيةٍ من الهولوكوست مع وعدِ بلفور". وقد جرى ذلك بعد إقحام السفارة الإسرائيلية نفسها في الأمر، من خلال زيارةٍ قام بها مارك ريجيف، السفير الإسرائيلي في المملكة المتحدة، برفقة ملحق الشؤون المدنية في السفارة، الذي وصف الكلمة التي ستلقيها شيروود وبالأخص عنوانها بأنه "مفرِطٌ في الاستفزاز"! وبأنّه يتعارض مع مبادئ "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست" وتعريفه "لمعاداة السامية"، وذلك في رسالة وجّهها إلى إدارة الجامعة وكُشِفَ عنها مؤخرًا إلى جانب جميع المراسلات ذات الصلة بعد قرار صادر عن مكتب مفوّضِ الإعلام في الجامعة.

ما يثير السخرية والعجب أيضًا ما جاء في رسالة الملحق الإسرائيلي الذي قال "إننا نرحب بالمناظرة والنقاش ونراه جزءًا أساسيًا من الديمقراطية السليمة والمجتمع المنفتح. إلا أنّنا نشعر بأنَّ هدف هذين النشاطَين المقرّرين ليس النقد المشروع، بل هو تجاوزٌ للخط الأحمر في خطاب الكراهية"! 

أمّا ماريكا شيروود فقد رفضت تأويل عنوان محاضرتها على أنّه "مُعادٍ للسامية". وقالت: "أتحدّثُ عن تجربتي مع ما فعله النازيون تجاهي كطفلةٍ يهودية. لقد تعيّن عليّ مغادرة المكان الذي أعيش فيه لأنّه لم يُسمَح لليهود بالعيش هناك. لم أستطع الذهاب إلى المدرسة وكان مُقدّرًا لي أن أموت لولا أنَّ المسيحيين الذين عمَّدونا قدّموا لنا المساعدة بمنحنا أوراقًا رسميةً أنقذتنا من الموت المحتّم. ليس لي القول إنني فلسطينية، إلا أنّ ما خبرته كطفلة لا يختلف أبدًا عمّا يكابده الأطفال الفلسطينيون اليوم".  

اليوم، وبعد ما يقرُب من سبعة عقود من الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وبعد انقضاء سبعة عشر عامًا على إلغاء معهد فرويد لمحاضرة إدوارد سعيد، يبدو أنّ فكرة الصهيونية ما تزال أسيرَة خوفها من مواجهة نفسها، ذلك الخوف الذي يكبُرُ بمرور الوقت مثلما تقول القصة الإنكليزية الشهيرة عن الخوف. الكراهية ضعف، ذلك ما تردّد كثيرًا في نصوص سعيد، وذلك ما ينطبق انطباقًا حرفيًّا على الصهيونية. غيرَ أنّ السؤال الذي ربما يكون أكثر إلحاحًا ومرارةً والذي يراود المرء إذ ينتقل بين الحكايتين، هو كيفَ لهذهِ السردية التي تخاف من خيالها والتي قامت على تزوير السياق وتشويهه، كما اعتاد سعيد قوله، أن تواصل إلى اليوم هيمنتها على المخيّلة الثقافية العالمية، والأهم كيف تستمر في هزيمةِ سردية أصحاب الحق التي من المؤسف أنها تبدو اليوم غير معنيّةٍ بحقّها المُغتَصَب أكثر من أي وقتٍ مضى.

ربما تكتمل العِبرةُ من الحكايتين اللتين أوردناهما من خلال حكايةٍ ثالثة أوردها إدوارد سعيد عن الكاتب الفرنسي المشهور غاي دي موبسان، الذي بعد بناء برج إيفل بوقت قصير أواسط القرن التاسع عشر جابَ أرجاء المدينة متشكّيًا من كرهه الكبير لهذا الصرح المعماري، لكنّه مع ذلك واظب على الذهاب إلى مطعم البرج لتناول غدائه هناك يوميًا، وحين سُئلَ عن التناقض في سلوكه أجاب ببرود "أذهب هناك لكي أكون في داخله، فهو المكان الوحيد في باريس الذي لا أكون فيه مضطرًا للنظر إلى البرج أو حتى رؤيته". إلى متى تواصل إسرائيل الاختباء من نفسها؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.