}

​الاستعراب الاسباني، ليس استشراقًا بل رغبة بالمعرفة

أحمد عبد اللطيف أحمد عبد اللطيف 30 يناير 2017
هنا/الآن ​الاستعراب الاسباني، ليس استشراقًا بل رغبة بالمعرفة
خارطة غرناطة في مخطوط من القرن السابع عشر (Getty)

إذا كان الاستعراب يعني "دراسة العالم العربي والإسلامي، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا، وفهم الأساس الفكري الذي قامت عليه الحضارة العربية قديمًا وتأثيرات القرآن المباشرة في تكوين مجتمع تولدت منه مذاهب وفرق"، وإذا كان أحد فروعه التبادل الثقافي ومن ضمنه التأثير اللغوي، فلا بد أن الاستعراب الإسباني كان موغلًا في القدم شأن الحضارة العربية في الأندلس، وأنه تطوّر بتطوراتها وانهياراتها على مدى ثمانية قرون. لقد شكّلت الأندلس منطقة لتبادل الثقافات، بين جنوب المتوسط وشماله، وكانت جسرًا لتناقل المعارف، حتى إن الاحتكاك اللغوي ترك أثره ليس فقط في كلمات عربية دخلت الإسبانية، بل في بنية الجملة الإسبانية الأقرب للجملة العربية منها للجملة الأوروبية. هذا التأثير ما لاحظه المستعرب الكبير ميننديث بيدال حين أشار في كتابه "كُتيب القواعد التاريخية الإسبانية"، إذ أشار إلى أن "اتباع هذه القوائم ليس إلا تلخيصاً للكثير الذي تدين به ثقافتنا للثقافة العربية" (1985، ص 23). لكن إذا كان الوجود العربي بالأندلس فرض على العالم الإسباني، كضرورة سياسية وجغرافية، التقارب الفكري، وتكوين منظورات مرتبطة بإسلام الفترة وطبيعته الإمبراطورية والتوسعية، وتفوق الحضارة المرتبطة به ثقافيًا ومعماريًا، فالأكيد أن الاستعراب الحديث، منذ القرن التاسع عشر، انطلق من منطلقات مختلفة، بعيدة عن أي احتقانات سياسية وأي ضغوط أيديولوجية، ليصير العالم العربي بالنسبة له مادة بحثية وليصير التاريخ المشترك، بعد قرون من انتهائه العملي، أساسًا لبناء تصورات جديدة أكثر حيادية، وإن مالت نحو اليمين قليلًا أو اليسار قليلًا. لذلك تحديدًا لم يمر الاستعراب الإسباني بمرحلة "الاستشراق" التي أشار إليها إدوارد سعيد في كتابه الشهير، إذ قصد الاستشراق الإنكليزي والفرنسي والأميركي، أي ما يعرفه عن قرب، وهو الاستشراق الذي لا يعرف العالم العربي، بل يتصوره وينمّطه وبناء على هذه الصورة يطلق أحكامه المتعسفة، والتي تنقصها الخبرة بالمجتمع الخاضع لدراسته. لذلك أشار سعيد في رده على تجاهله الاستعراب الإسباني بأنه حالة أخرى منفردة، وأشار لفضل خوان غويتيسولو في تعريفه بالمشهد الاستعرابي الحديث في إسبانيا، كما أكد على العلاقة القديمة بين إسبانيا والعالم العربي الإسلامي. سعيد كان مدركًا تمامًا للفارق بين الاستشراق الذي يصور تأخر الشرق وتقدم الغرب بأنه يرجع لطبيعة كل منهما، ما وصفه بمبدأ "الجوهرية"، وهو المبدأ الذي عمل على هدمه في كتابه، وبين الاستعراب بمعنى التقارب وبناء جسور حقيقية مع العالم العربي وفهم مكوناته الثقافية.

الاستعراب الإسباني، بداية من ميجيل أسين بلاثيوس وإميليو جارثيا جوميث (الذي تتلمذ على يد طه حسين) ومرورًا بـ بدرو مونتابيث ووصولًا لـ لوث جوميث وجونثالو بارييا وآنا بلانيت وميجيل لارّاميندي وفرنثيسكو سيّرا وباربارا أثاؤلا وماريبيل لثارو، وعشرات الأسماء الأخرى، انتقل من دراسة التراث العربي إلى دراسة الأندلس، ثم خطا منذ النصف الثاني للقرن الماضي نحو دراسة العالم العربي المعاصر، سياسيًا وأنثروبولوجيًا وثقافيًا، كما شرع في دراسة أحوال المهاجرين العرب في إسبانيا وقضاياهم، وحديثًا اتجهوا لدراسة الإسلاموفوبيا في المجتمعات الأوروبية، أسبابها ونتائجها وكيفية مواجهتها والسيطرة عليها. والحقيقة أنها دراسات صعبة لصعوبة العربية كلغة، ولاتساع رقعة العالم العربي من المحيط للخليج، لكن ما صعّب العملية أكثر تعقد الأوضاع العربية في السنوات الأخيرة منذ نشوب الربيع العربي، وربما منذ الحرب على العراق وما تبعه من ظهور داعش.

نحاول هنا أن نقترب من مطبخ الاستعراب الإسباني الآن، لنتعرف من خلال الأكاديميين المتخصصين في العالم العربي على ما يشغلهم والصعوبات التي يواجهونها في عملهم وكيف يخضعون علمهم ومعارفهم لخدمة مجتمعهم والتنوير على المنطقة العربية بدراسات جادة، كذلك التعرف على ما ينتظرونه من الأدب العربي في سنوات الاضطرابات التي نعيشها.

 

 

لوث جوميث

ردًا على سؤال "ما يشغل الاستعراب الإسباني الآن" تقول المستعربة الأكاديمية والمترجمة لوث جوميث: "بشكل عام، ينشغل المستعربون حاليًا بربط أبحاثهم ببقية المجالات الأكاديمية من ناحية، وبالمجتمع عمومًا من ناحية أخرى. ثمة اهتمام كبير بسحب الدراسات العربية من التخصص المغلق وانفتاحها على بقية العالم الجامعي واحتياجات المجتمع الإسباني. في الحالة الأولى، تتلاقى المنهجية والفرضيات النظرية مع السوسيولوجيا، اللغويات، الأنثروبولوجيا، التاريخ، الفلسفة، الأدب المقارن وفروع أخرى من المعارف الإنسانية والاجتماعية. بالإضافة، من المهم أن ينصب انشغال وتقدم أبحاث المستعربين في الوقت نفسه في هذه التخصصات الأخرى، بحيث تتغذى شبكة المعرفة المنسوجة في كلا الاتجاهين. مع الوقت تزداد رسائل الدكتوراه والمشاريع البحثية بين مجالين معرفيين، بذلك يتعاون المستعربون مع زملاء آخرين في موضوعات مثل تاريخ الأفكار، العلاقات الدولية، المعجميات والترجمة، كأمثلة متباينة وحالية.

في الحالة الثانية، أدت التغيرات السياسية والاجتماعية التي عاشتها إسبانيا في الثلاثين عامًا الأخيرة أيضًا لتغيرات جذرية في بنية المستعرب، وبالتالي علاقته بمحيطه. إسبانيا اللا مركزية، ذات حكومات الحكم الذاتي، ضاعفت عدد الجامعات التي تقدم دراسات للغة العربية وثقافتها. حين كنت طالبة، في سنوات الثمانينيات، لم يكن هناك إلا أربع جامعات بها تخصصات في اللغة العربية: اثنتان في مدريد (كومبلوتنسي وأوتونوما) وجامعة برشلونة وغرناطة. اليوم نتحدث عن عشر جامعات تمنح ليسانسات مختلفة (دراسات عربية وإسلامية، دراسات آسيا وأفريقيا، الترجمة والترجمة الفورية) وخمس عشرة أخرى تمنح بعض التخصصات، ما ساهم بالتالي في مضاعفة الاهتمام: أحيانًا اهتمام منصب على ما هو محلي، وأحيانًا الانطلاق مما هو محلي والتورط فيما هو عالمي. دراسة تاريخ الأندلس، مثلًا، انطلقت نحو أندلس أكثر إسبانية، أندلس أكثر عربية، ثم أندلس أكثر عالمية. لكن أيضًا ثمة رؤية إلى ما هو عربي بعيدًا عن الأندلس، رؤية بعيدة عن هذا الماضي الذي قتلته الأجيال السابقة بحثًا.

المستعربون الإسبان اليوم، دون تجاهل هذه الجزئية الخاصة بتاريخنا، يلتفتون لواقع العالم العربي المعاصر، لسياسته وإبداعه الفني، إن أردنا تحديد مجالين، وللعلاقة الجديدة بين ما هو عربي وإسلامي وبين إسبانيا من خلال الهجرة. في هذه النقطة الأخيرة تمثل مساهمتنا في دراسة العالم العربي ومعرفته أهمية خاصة، إذ تكسر الصورة النمطية وتقضي على الأحكام المسبقة التي تغذي المخاوف، مما يقرب من مليوني مواطن من أصول عربية يعيشون في إسبانيا، وكثير منهم ولد هنا، بل وحتى درسوا دراسات عربية وإسلامية في جامعاتنا". 

 

 


آنا بلانيت

 

عن المشاكل والعقبات التي يواجهها الاستعراب، تقول الأكاديمية والمستعربة آنا بلانيت: "أحد المشكلات الرئيسية التي نواجهها كمستعربين في تحليلاتنا للواقع العربي الراهن يكمن في "اتساع الرقعة المستهدف دراستها". أن تكون متخصصًا في بلد، أو في مجموعة من البلاد أو في جزء محدد من الواقع - اجتماعي، سياسي أو ثقافي - أمر محمود في الأكاديميا، لكن التخصص في جزئية محددة لا يكون، في أحيان، كافيًا للقيام بنشر المعلومات والتحليلات لجمهور متعطش لقراءات دقيقة.

وأضافت: "في أحيان كثيرة، يتلقى الصحافيون بامتعاض إجابة مثل "لست متأكدة، لست مختصة في هذا الشأن". وفي أحيان أخرى يضغطون حتى يحصلوا على إجابة بعيدة عن المعقول بهدف الوصول لإجابة بسيطة تفتح الأبواب لمعرفة مبسطة عن واقع في أقصى درجات التعقيد. ومن أجل فهم المسألة المعقدة من الضروري الجلوس لتسمع البراهين.

ثمة سؤال آخر أسأله لنفسي، إلى أي مدى لسنا إلا محض معيدين لإنتاج تحليلات أعدها آخرون، لمعلومات بعثها لنا آخرون. مقارباتنا اليوم تحددها، بالقوة، طبيعتنا كمتخصصين نقوم بالأساس بدور أكاديمي - أقصد من يعملون بالجامعة وليس من يعملون بالمراكز البحثية - وأننا، باستثناء الفترات المحددة التي تكونّا فيها علميًا أو تطورنا مهنيًا، قليلًا ما استطعنا أن نستمر لفترات طويلة في البلدان الخاضعة لدراستنا. وبالفعل نعتمد على وسائل بحثية كثيرة، لكن من أجل الحصول على معلومات أو تحليل القضايا الحالية - مثل الربيع العربي- لم نكن أكثر من مشاهدين أو قراء لنفس الصور والنصوص المتداولة بين الجميع. بعض الباحثين الأكثر حظًا استطاعوا تطوير أبحاث في مجال أرى أن صحافيي الخطوط الأولى ساهموا فيه بشكل كبير.

وبالنسبة للباحثين الذين يعملون في قضايا حول الإسلام، فعلوم الإسلام المعاصرة لا تنحصر فقط في تحليل النصوص بل في التحليل السوسيولوجي والأنثروبولوجي لأساليب الحياة وعلاقتها بالإسلام، وهي عملية بحثية ذات تعقيدات خاصة. لقد أدى وضع إطارات مفاهيمية خاطئة (مثل الخلط عن جهل بين الإسلام والإسلاموية، والإسلام كعقيدة والإسلام كممارسة، والراديكالية)، والتصنيف على أسس يصعب اعتبارها علمية (مثل وصف الإسلام السياسي بأنه جهادي، راديكالي، سلفي، أو تصنيف الإسلام بأنه إرهاب وتحويله إلى أيديولوجيا للكراهية والعنف) إلى وضع العراقيل أمام انتشار الأعمال البحثية. لتبسيط المسألة أقول إن الأبحاث التي نقوم بها محددة بتصنيفات معدة سلفًا (هل الإسلام عنيف؟ لماذا يتطرف الشباب؟) وفي القلب من هذه التصنيفات غير متاح إلا مساحة ضئيلة للتحليل والدراسة المتأنية".

 

فرنثيسكو رودريجيث سيّرا

 

في وسط كل هذا الحراك السياسي العربي، والمساحة الكبيرة التي تشغلها السياسة، كيف ينظر الاستعراب الإسباني للأدب العربي؟

يقول الأكاديمي والمترجم فرنثيسكو رودريجيث سيّرا: "عندما نتحدث عن الاستعراب الإسباني أو حتى الاستعراب بشكل عام داخل الأكاديميا الغربية ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن المصطلح يضم تخصصات مختلفة: التاريخ، السوسيولوجيا، اللغويات، الأدب..إلخ. و"المستعرب" إن كان مؤرخًا أو سوسيولوجيًا غير مضطر مبدئيًا أن يتابع الإنتاج الأدبي في العالم العربي، وإن كانت لديه معرفة عامة حول تاريخ الأدب العربي، وهذا ليس بقليل. نفس الشيء يمكن أن نقوله عن المستعرب اللغوي أو المتخصص في الأدب العربي عند حديثه عن تاريخ العالم العربي أو سوسيولوجيته.

والحال أن الاستعراب في إسبانيا يولي اهتمامًا بالتاريخ والسوسيولوجيا والسياسة العربية أكبر مما يوليه للأدب. مع ذلك أعتقد أنه استجابة لاهتمام المجتمع الإسباني نفسه. مفهوم بالطبع أن المواطن المتوسط يهتم بالقضايا الراهنة التي تنقلها وسائل الإعلام، وأنها تؤثر عليه بشكل مباشر، وبالتالي يحتاج الاقتراب من المجتمعات العربية من خلال معرفة سياستها وسوسيولوجيتها وأنثروبولوجيتها، أكثر من معرفتها عن طريق الأدب.

بالإضافة لذلك، في مجال دراسات الاستعراب الأدبية ثمة تخصص مركز في الأندلس، هكذا ينحصر الاهتمام بالأدب العربي الحديث في جزء محدود، ليس لقلة الاهتمام به أو تجاهله، بل لأن للمجتمع أولوياته والأكاديميا في النهاية مجرد مرآة لمجتمعها.

نتيجة ذلك، لأضرب مثالًا، يتمركز طلاب الجامعة الدارسون في أقسام الدراسات العربية في دراسة التاريخ والسوسيولوجيا، ودراسة اللغة العربية كأداة - وليس كمجال للتخصص -، وبشكل أقل يأتي الاهتمام بالأدب. من هنا فرسائل الدكتوراه في الأدب قليلة، ومع الوقت سيصير المتخصصون في الأدب العربي قلة قليلة".

هل يمكن قراءة المنطقة العربية من خلال أدبها؟

 يقول سيّرا: "الأدب في كل المجتمعات تعبير جمالي وإبداعي لأبناء هذا المجتمع. هذا المنتج يخضع للبنية التحتية الثقافية المتاحة (سوق النشر، عدد القراء، إلخ) وكذلك للسياق السياسي والسوسيولوجي والاقتصادي. وبالطبع كلها سياقات يؤثر بعضها في البعض الآخر، وإن كنا ندرسها منفصلة فذلك يرجع لضرورة أكاديمية. من المباح بالطبع دراسة النصوص كنصوص، لكن من الضروري أن نضع في اعتبارنا سياق العمل (مثلا، ما معنى عمل محدد في إنتاج المؤلف) كذلك مراعاة اللحظة التاريخية التي ظهر فيها. الأدب والفن مظهران من مظاهر المجتمع، وبالتالي فهما عنصران يمكن من خلالهما قراءة هذا المجتمع والتعرف عليه لفهمه. لكن لا ينبغي أن نتجاهل أن عالم اليوم المعولم تسيل فيه المعرفة في الكوكب بأسره وأن الاتصالات باتت أكثر سهولة، سواء سافر الفرد أو ظل في بيته، وهكذا فالإنتاج الأدبي أيًا كان بلده أو منطقته هو تعبير مكوّن من عناصر خاصة بهذا المجتمع كما هي عناصر عابرة ومعولمة، سواء شعرنا بأنها خاصة بنا أم لا".

وماذا ينتظر من الرواية العربية الآن؟

يقول سيّرا: "ستكون مجازفة أن أتوقع شيئًا محددًا. لكن إن أردت أن أكون متسقًا مع ما قلته الآن فمن المنطقي أن أنتظر روايات تعالج مشاعر التراجيديا والتروما الناتجة عن التدمير وتهجير اللاجئين والمنفى، إلخ. رواية عن الحرب في الشرق الأوسط، بالإضافة لمعالجة الصراع الأيديولوجي بين المحافظين والحداثيين. كل ذلك دون أن تلجأ لجماليات كتابة الالتزام الساذجة، والتي كانت من خصائص الأجيال السابقة وأعتقد أن الأدب العربي تجاوزها".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.