يتذكر الناس الذين ولدوا في بداية ستينيات القرن المنصرم كيف كانت شرطة الآداب تطلي سيقان الصبايا بأصباغ البوية وتقص شعور الشبان الطويلة في الشوارع العامة في حملة همجية نفذها حرامي بغداد في نهاية السبعينيات أصابت المجتمع العراقي بصدمة ما زالت آثارها حتى الآن، حيث أعادت المجتمع المدني الناشئ إلى فترة الثلاثينيات.

من هنا بدأ المجتمع العراقي ينطوي على نفسه ويخسر كل فرصة للتقدم والرفاهية، وبمجيء الدكتاتور تمت عسكرته تماما.
خراب مدينة بغداد بدأ مع حروب الدكتاتور صدام حسين. اقتصاديا خسر العراق أكثر من ألف مليار دولار خلال فترة قصيرة لم تتجاوز الأربعة عشر عاما وهو مطلوب إلى البنك الدولي ما قيمته مئة وعشرين مليارا كديون بعد أن حل سرطان داعش على المدن العراقية وهدم البنى التحتية فيها.
هذه الخسائر المتتالية والانهيارات المجتمعية وتدهور المنظومة الأخلاقية والانهيار الاقتصادي وتزايد عدد الفقراء والأمية نتيجة منطقية لما يحصل اليوم في بغداد التي تحولت إلى قرية كبيرة رثة ومهدمة يعبث بها أناس جاؤوا من الأرياف البعيدة ولم يكن فيهم أحد يحلم أن يقضي ليلة في نواديها العريقة التي نشأت فيها نواة المجتمع المتحضر والمتطلع إلى القيم الفكرية والفنية الحديثة. ونظرة سريعة لهذه النوادي ستكشف كيف كان المجتمع المدني يسير إلى الحداثة، ونظرة أسرع إلى نوادي اليوم تكشف كيف أصبحت بغداد أسوأ مكان للعيش في العالم. 
كان نادي العلوية الذي تأسس عام 1924 من أرقى وأفضل أماكن بغداد وعلى الطريقة البريطانية لأنه تأسس على يد المس بيل التي لعبت دورا كبيرا في صياغة الحياة العصرية في العراق. كان يضم صفوة العوائل والمسؤولين وكانت الخدمات فيه على أعلى مستوى وبقي على هذه الحالة طوال فترة ما قبل السقوط. كانت إدارة النادي في ذلك الوقت متشددة جدا بشأن دخول الضيوف إلى مرافق النادي ولكن بعد أحداث غزو العراق عام 2003 تغير أسلوب الإدارة في النادي وأصبح القبول في النادي أمرا سهلا. فقد انسحبت أعداد كبيرة من الأعضاء المميزين وهاجروا خارج العراق بالإضافة إلى إلغاء السهرات والحفلات التي كانت تبقى طوال الليل وأصبح النادي يغلق أبوابه في الساعة السابعة مساء وعبثا تحاول الإدارة الجديدة إعادته إلى ما كان عليه بعد أن تحول إلى حظيرة.

كان نادي العلوية الذي تأسس عام 1924 من أرقى وأفضل أماكن بغداد وعلى الطريقة البريطانية

نادي المشرق الذي تأسس في العام 1944 في إحدى المناطق الشعبية في بغداد لم يكن للعوائل الثرية ولكنه لم يكن يختلف كثيرا عن نادي العلوية من جهة رواده وأعضائه الذين ينتمون إلى كل الفئات الاجتماعية التي تتميز بالرقي والتهذيب والأناقة الأوروبية. هذا النادي تحول اليوم إلى مرتع لكل من هب ودب بعد أن تحول هذا المكان النظيف إلى صالة للقمار ولعبة الدمبلة. ويرمي رواد هذا النادي اليوم كل قذاراتهم على الأرض مع وجود سلة للمهملات تحت كل طاولة، وهي إشارة واضحة إلى تدهور الصحة النفسية لهذا المجتمع المريض. لا يختلف الأمر مع نادي الهندية الذي تحول هو الآخر إلى ناد للعبة الدمبلة حيث يدخله رواد لا يقيمون للمكان أدنى تقدير، ويبدو هذا واضحا من ملابسهم وتصرفاتهم الغريبة.

أما نادي الصيد الذي تأسس في العام 1969 ويمتد على مساحة خمسة وعشرين دونما في مدينة المنصور فيضم أربع ساحات للعبة التنس ومسابح شتوية وصيفية وملاعب لكرة السلة والكرة الطائرة وأماكن لهو للأطفال، لكنه تحول اليوم إلى مكان للدعايات الانتخابية البائسة. تعزف الفرقة السمفونية العراقية على مسرح النادي قطعا موسيقية كلاسيكية لموزارت وباخ وبتهوفن بينما النواب يستخدمون هواتفهم النقالة بصوت عال وهم يجلسون في المقدمة دون أدنى شعور بالخزي. أما الرواد فيتحدثون فيما بينهم وكأنهم يجلسون في مقهى على الرصيف وليس في مسرح يقدم موسيقى كلاسيكية مذهلة.