}

مصر الجديدة.. حين كتموا أفواه المباني وقتلوا الشجر

هشام أصلان 24 يناير 2020
أمكنة مصر الجديدة.. حين كتموا أفواه المباني وقتلوا الشجر
الترميم حوَّل قصر البارون إمبان إلى فيللا عادية(18/8/2019/فرانس برس)

يا قاتلي: إني صفحتُ عنكْ
في اللَّحظةِ التي استرحتَ بعدَها منِّي
استرحتُ منكْ
لكنني أوصيكَ، إن تشأ شنقَ الجميع
أن ترحمَ الشجرْ

(أمل دنقل، من "كلمات سبارتاكوس الأخيرة")

قبل ستة عشر عاماً، أنشأت وزارة الثقافة المصرية ما أسمته "الجهاز القومي للتنسيق الحضاري"، وكان من المشاريع التي بدأت نبيلةً في هذا البلد، وكان الكاتب والناقد الفني المعروف، سمير غريب، أول رئيس له، وهو من أسس هيكله الفني والإداري، قبل مجهود كبير في التعريف به، ونشر فكرته، ومحاولات الخروج بقوانين عمله. دور الجهاز هو الاعتناء بكل ما يخص الفراغ العمراني المصري، عبر لجان فنية تتكون من خبراء حقيقيين في فنون العمارة، بكل أنواعها. الهدف الكبير كان استعانة المسؤولين في كل الأحياء والمدن بهؤلاء الخبراء، في أي عملية تجميل، أو ترميم، أو تطوير، أو إنشاء، تخص العمران المصري، ليحدث ذلك من دون الإخلال بالبُعد الجمالي من ناحية، ومن دون تشويه المباني والمساحات التاريخية وذات القيمة المعمارية المتميزة من ناحية أخرى، فضلاً عن مراعاة العلاقة بين المبنى، وطبيعة المكان بشكل علمي.
"شدّة الغربال" في البدايات، ومهارة سمير غريب في العلاقات العامة، وكتاباته الصحافية في هذا الشأن، كانت سبباً في التواصل مع مسؤولي المدن، والاستعانة بالجهاز في تطوير بعض الميادين العامة. الحكاية كانت تسير بالمحبة، وعندما تم إصدار قانون "التنسيق الحضاري"، المُلزم للمسؤولين باستشارة الجهاز في تخصصاته، لم يتم الالتزام به. مرت سنوات على إنشاء الجهاز، وتحول من مشروع قومي يشبه الحلم إلى هيئة متربة شأن مثيلاتها من الهيئات الحكومية.
تذكرت حكاية جهاز التنسيق الحضاري مع متابعة ما يحدث هذه الأيام، وبدأ منذ فترة قصيرة،

في تبعات ما تسميه الحكومة بالتطوير لحي مصر الجديدة العريق والتاريخي، الذي له، بالكامل، طابع عمراني واحد معروف ومميز، ويعبر عن ثقافة مرحلة تاريخية مهمة مرت على مدينة القاهرة، تمتد رائحتها بين سكان الحي الكبير حتى راهن اللحظة، في تجل لدلالة أثر المكان على من يسكنونه، وكيف تأخذ أرواحهم من طبيعته، وإن أتى الزمن على أحوالهم.
والصدمة في ما يحدث لحي مصر الجديدة بدأت منذ فترة، مع انتشار صور ترميم أشهر قصوره، القصر الخاص بمؤسس الحي، البارون إمبان، ذلك المبنى الذي منذ وعينا على الدنيا لا يوجد من المارة بالسيارات في شارع صلاح سالم، أكبر وأشهر شوارع المدينة، من لا يهدئ السرعة للفرجة عليه من الخارج، فضلاً عن القصص الأسطورية التي راجت عنه. وكنا فوجئنا قبل أسابيع بصور لمراحل تطويره لا تحتاج إلى خبير معماري ليقدّر تحوله إلى مبنى يشبه فيللا عادية لأحد الأثرياء، قبل أن يتحول الموضوع، بقدرة قادر، إلى معركة كلامية بين مؤيدي السلطة ومعارضيها. وحتى كتابة هذه السطور، يجتهد المؤيدون في التقاط صور فوتوغرافية تدعمها زوايا التصوير والإضاءة، في محاولات إثبات أن المستائين كانوا على خطأ، بينما المسألة لا تحتاج غير المرور في أشهر شوارع القاهرة لرؤية ما صار عليه القصر. وقد تجد النتيجة النهائية لتطوير وترميم المبنى رواجاً لدى ذائقة البعض، لكن الفيصل الحقيقي في الموضوع ليس الذوق الشخصي، ولكن لهذه المسائل أُسس علمية فاصلة يعرفها الخبراء الذين لا نفتقر إليهم في بلادنا.
لم يفق المهتمون من جدل قصر البارون إمبان، حتى فوجئوا بالأوناش والحفارات والمعدات

الثقيلة تأتي على تراث مساحات كبيرة من الحي، واقتلاع أعداد مهولة من الأشجار لتوسعة الطرق، وبناء شبكة من الكباري والمحاور المرورية التي اجتاحت معالم المكان، وجاءت على طابعه العمراني والتاريخي، وكتمت الكُتل الإسمنتية الصماء أنفاس البنايات التاريخية الجميلة التي كان لكل منها حكاية تحكيها.
والذي يعرف القاهرة يعرف أنها لا تتسم بطابع عمراني واحد. المدينة التي مر عليها كثير من الجمال، وكثير من القبح، يتكون جسدها الضخم من هويات عمرانية مختلفة، تشير كل منها إلى فترة زمنية بعينها، هكذا يتألق جزء بتألق الفترة الزمنية التي ينتمي إليها، وينطفئ جزء آخر بظلامية فترته. المسألة لا تقف عند حدود النوستالجيا الشخصية لمجموعة من الناس أصابهم الحزن على ذكريات طفولتهم ومراهقتهم، ويعبرون عنها في سيل من الصور للحي قبل وبعد اجتياح الأوناش. المسألة أن عمليات التطوير تلك، إن صح التعبير، ببساطة، وليس من باب الشعارات، عندما تأتي على ملامح المكان إلى هذه الدرجة فهي تأتي، في الوقت نفسه، على قطع من التاريخ الإنساني للمكان، حيث العمارة هي الشاهد الحي على هذا التاريخ.
ولا أعرف سبباً منطقياً لعدم الاستعانة، في مثل هذه الأمور، بخبراء التنسيق الحضاري. كان ممكناً ألا يصل ثمن أعمال التطوير والتوسعة إلى فداحة اقتلاع روح المكان ودلالاته وتحويل الجمال إلى قبح. مدهشة تلك البساطة التي يتعامل بها المسؤول مع أشياء من هذا القبيل. مدهشة تلك الثقة في سلامة القرار، خصوصاً تلك القرارات التي ما إن يتم تنفيذها حتى يموت الأمل في تصليح تبعاتها. مدهشة تلك القدرة على سد الآذان.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.