}

المتحف المصري في سان خوسيه.. فسحة للهدوء والتأمل

أسامة إسبر أسامة إسبر 21 يناير 2020
أمكنة المتحف المصري في سان خوسيه.. فسحة للهدوء والتأمل
واجهة المتحف المصري في سان خوسيه في الولايات المتحدة
لم يُبْن المتحف المصري في سان خوسيه، في ولاية كاليفورنيا الأميركية، ضمن اتفاقية تبادل ثقافي بين الولايات المتحدة ومصر، أو في إطار انفتاح حضاري على الآخر، والتعرف على ثقافته وتاريخه، بل جاء تلبية لحاجة معرفية ذات طابع ديني صوفي، تتعلق بمعتقدات أعضاء جماعة باطنية تُدْعى أخوية الصليب الوردي، أو النظام الصوفي للصليب الوردي. ويرى أعضاء هذه الجماعة أن هنالك تراثاً مشتركاً يجمعهم مع الفراعنة، وجوهر هذا التراث هو الفكرة القائلة بالتواصل مع العالم الماورائي، حتى أن اسم المتحف مرتبط باسم هذه الأخوية العالمية التي يسافر أعضاؤها أحياناً للحج إلى الهرم الأكبر، ويرتدون على صدورهم وردة حمراء، ويرتلون أناشيد أخناتون.
رمز الأخوية الذي استمدت منه اسمها هو وردة على صليب، وتعاليمها مزيج من علم الغيب، ومعتقدات وممارسات دينية أخرى، مثل الهرمسية، والصوفية اليهودية، والغنوصية المسيحية، وبعض المعتقدات الفرعونية. وترى الأخوية أن أعضاءها يمتلكون حكمة سرية نُقلت إليهم من الأزمنة القديمة، وأن جذورهم تمتد إلى فلسفة وأساطير وأسرار مصر الفرعونية. وتروي مصادر هذه الأخوية أنه منذ آلاف الأعوام شُكِّلتْ هيئات مختارة، أو مدارس في مصر القديمة لاستقصاء ألغاز الحياة، وتعلم أسرار هذه الحكمة الخفية. وتم اختيار طلاب مخلصين فقط لخوض هذه التجربة. ويقال إن الفرعون، تحتمس الثالث، أنشأ أول مدرسة باطنية قائمة على المبادئ والتعاليم التي يؤمن بها أصحاب أخوية الصليب الوردي. وفي ما بعد، انضم إلى المدرسة أمنحوتب الرابع، الذي اعتبر أول توحيدي في العالم أسس ديناً عُرف باسم الآتون، دعا فيه إِلى عبادة إِله واحد هو آتون، ومثّله بقرص الشمس المجنّح، واعتبر القرص الرمز الأوحد للإله، وأساس الحياة نفسها، ورمز الضوء والحقيقة والمتعة، كما أنه لا حياة  من دونه، فضلاً عن أن قدراته وبركاته لا تقتصر على مصر، بل تتعداها إلى العالم كله، ذلك أن آتون
حين يشرق ينفخ الحياة في الموجودات، وحين تخبو هذه الروح يخمد العالم. ويجب التنويه أن تحتمس غيّر اسمه إلى أخناتون للتعبير عن خط الأفكار الجديدة، واستخدم الفنون التشكيلية لتعبر عن رؤيته الدينية الجديدة، وقد شهدت حقبته اهتماماً كبيراً بالفنانين والفنون التشكيلية. وبعد قرون، سافر فلاسفة يونانيون، مثل طاليس، وفيثاغورث، والفيلسوف الروماني بلوتينوس، إلى مصر، واطلعوا على هذه المدارس، ثم أحضروا علمهم المتقدم وحكمتهم إلى العالم الغربي، وصارت هذه الأفكار المحرك للنظام الصوفي للصليب الوردي، وانتقلت إلى الولايات المتحدة في أواخر القرن السابع عشر. ويقال إن شخصيات أميركية بارزة، مثل توماس جيفرسون، وتوماس بين، وبنجامين فرانكلين، كانوا على صلة بهذه الأخوية.

أمام مدخل المتحف المصري في سان خوسيه 

وهذا التقاطع في معتقدات الجماعة الدينية والصوفية والفكرية مع معتقدات الفراعنة القدماء دفع أتباع الأخوية إلى تأسيس المتحف المصري في مدينة سان خوسيه الأميركية في ولاية كاليفورنيا. وتقع مدينة سان خوسيه على نهر غوادالوبة، وكان يسكنها الهنود الحمر قبل مجيء الإسبان. وبعد أن دخلها الإسبان حولوها إلى موقع تمويني لتزويد حامياتهم العسكرية في مونتيري، وسان فرانسيسكو، بالطعام. تأسست مدينة سان خوسيه في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1777، كأول مدينة في كاليفورنيا، ثم صارت جزءاً من المكسيك في 1821، بعد حروب الاستقلال المكسيكية، إلا أن الحرب المكسيكية الأميركية انتهت بضم سان خوسيه إلى أميركا في 1848، وصارت في ما بعد أول عاصمة للولاية. أما في الحقبة الحديثة فقد مزجت المدينة بين الاهتمامات الزراعية والصناعية، وصار اقتصادها أكثر اعتماداً على التكنولوجيا، وخاصة كل ما يتعلق بالبرمجة والكمبيوتر، وأصبحت سان خوسيه المركز الثقافي والسياسي والاقتصادي لوادي السيليكون المشهور.
في قلب سان خوسيه، وفي مبنى مقابل يقع مدرسة ثانوية، تلفت نظرك أعمدة قديمة، فيخطر في ذهنك على الفور أن هنالك شيئاً ما ينتمي إلى العالم القديم. وبالفعل، ما إن تقطع الشارع حتى تشاهد المدخل الجميل للمتحف المصري، الذي صممه المهندس المعماري واضعاً أعمدة عالية توحي بالعراقة على مدخله. وفي الممر إلى الباب الرئيسي، تنتصب تماثيل لأبي الهول برؤوس أكباش. وما إن تطأ قدمك أرض المتحف المصري حتى تجد نفسك في جو مختلف، وتصلك رسائل ثقافية من عالم آخر، وسط جرار وتماثيل ومومياءات وأشكال مستنسخة تثير تأملات وأسئلة حول الجسد ومآلاته، ورؤى الغيب.

مومياء في المتحف المصري في سان خوسيه 

تتنوع مقتنيات المعرض من الآنية الفخارية، إلى التماثيل الكاملة، ورؤوس التماثيل، والمومياءات، والأدوات الطبية، وقطع الحلي المتنوعة، كالعقود، والأساور، التي صنعها صاغة قدماء يمتلكون ذوقاً جمالياً رفيعاً. وحين تتابع نحو الداخل تشاهد المومياءات، وتفوح رائحة الموت، ويومض حلم الخلود والعالم الماورائي.
يُرْوى أن مؤسس أخوية الصليب الوردي، هارفي سبنسر لويس، كان يحب اقتناء القطع الأثرية
ذات الدلالة الرمزية الصوفية، وكان التمثال المصري الأول الذي اقتناه هو تمثال للإلهة سخمت. وفي 1921، موّل عمليات تنقيب أثرية في تل عمارة في مصر قامت بها جمعية تنقيب أثري من بوسطن، فتبرعت في المقابل بعدد من القطع الأثرية الفرعونية للأخوية. ثم تواصل نمو مجموعة القطع الأثرية، وتطورت فكرة المتحف. وجُمعت مقتنيات المتحف بين 1915 و1927، فيما تأسس المتحف سنة 1928، وتم تصميم بناء متأثر بالعمارة المصرية كي يأوي المجموعة في 1966. وبدأ المتحف بتمثال صغير للإلهة سخمت، التي تُصور كسيدة برأس لبؤة جالسة على العرش، أو واقفة. وبحسب المصادر كان مركز عبادتها في منف، وتُعدُّ زوجة بتاح، ووالدة نفرتوم، إله اللوتس، وهي تُصور جالسة على العرش، وفي يدها اليسرى رمز الحياة، أو واقفة تمسك صولجاناً من البردي، ويزين رأسها قرص الشمس، وحية الأورايوس. وداخل المتحف، يتوضع تمثال سخمت على مكتب السيد هارفي سبنسر لويس. ويحتوي المتحف اليوم على أكثر من أربعة آلاف قطعة أثرية، منها ما ينتمي إلى العصر الإسلامي الأول. ويستضيف المتحف أكثر من مئة ألف زائر سنوياً، بمن فيهم أعداد منتظمة من طلاب المدارس، الذين يأتون من أجل دروس إضافية عن التاريخ، وخاصة في ما يدعى بحديقة السيمياء التابعة للمتحف.
يحتوي المتحف أيضاً على قبة سماوية، ومكتبة أبحاث، وهو مصمم كمتحف للتدريس، ويحتوي على معلومات عن تاريخ مصر. بعض القطع الموجودة في المتحف إعادة إنتاج لمجموعات موجودة في أمكنة أخرى، كما يحتوي على أربعة مومياءات بشرية، ومومياءات للقطط، وأسماك القرش، والبابون، أو السعدان الأفريقي، ومومياء فتاة عمرها أربع سنوات، وهذا نادر جداً، لأن الأطفال لم يُحنَّطوا في مصر بسبب الكلفة، كما هو مذكور في الشرح المرفق مع القطعة.
ومن أجل جعل هدف المجموعة تربوياً، أنتج المشرفون على المتحف نسخة من تابوت الملك عنخ آمون الذهبي، ونسخة من حجر الرشيد، الذي ضم مفاتيح اللغة المصرية القديمة. وثمة
مجسم لمقبرة هي نسخة مركبة من عدة مقابر في مصر. وتروي المديرة التنفيذية للمتحف، جولي سكوت، في لقاء صحفي أنه في عام 1966 سافر فريق من الباحثين من منظمة الصليب الوردي إلى مصر، واستكشفوا عدداً من المقابر في منطقة بني حسن، وأضافوا قبر نيانخنم، وخنامحوتب، الذي يعده بعض الآثاريين أول توثيق لحبيبين مثليين في تاريخ البشرية، رغم أن آخرين انتقدوا هذه الفكرة، وقيل إن القبر هو لأخوين.
ورغم الأسباب الكامنة خلف بنائه، والطبيعة الخاصة لمعتقدات مؤسسيه، يشكل المتحف محطة ثقافية مهمة في عالم السرعة والضجيج، ذلك أنه يقدم مدخلاً إلى خصوصية ثقافية فريدة، ويفتح نوافذ لمرتاديه على اكتشاف ثقافات أخرى خارج حدودهم القومية، فقد شجع المتحف كثيراً من الأميركيين على السفر إلى مصر لاستكشاف عوالم فريدة توحي بالعراقة والقدم، وتوسيع فسحة الانتماء الحضاري والثقافي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.