}

في مصر القديمة: النبيذ للرجال والـ "سرمت" للنساء

محمود خير الله 17 أغسطس 2018

 

 

"كانت البيرة هي المشروب القومي الشائع بين الأحياء والآلهة والموتى، كانوا يصنعونها بعمل عجينة من دقيق الشعير، تُسوَّى في النار كالخبز، ثم ينقع خبز الشعير هذا، وربما أضيف إليه البلح للتحلية، وبعد أن يختمر، يُصفَّى السائل في قدر، ويقول ديودوروس إن طعم ونكهة هذه البيرة، لا يقلان في الجودة عن طعم ونكهة النبيذ، وقد أيَّد هذا الرأي كتبةُ الدولة الحديثة، الذين كانوا، في وقت راحتهم من الدراسة، يحتسون النبيذَ والبيرةَ بمتعة مُتساوية"

"معجم الحضارة المصرية القديمة"

 

 

بعد مجموعة من الاكتشافات الأثرية المبهرة، التي عرفها العالم مؤخراً، عن الحضارة المصرية القديمة، خصوصاً اكتشاف "معمل لصناعة البيرة" داخل "معبد نفرتيتي" في الأقصر عام 1991، لم يعد الحديث عن نهم المصريين القدماء في شرب "الجعة" منذ فجر التاريخ، أمراً مُثيراً للدهشة، وبات من الضروري أن نحاول الإجابة على السؤال الأهم الآن، والذي لايزال يطرح نفسه: هل كان إقبال المصريين القدماء على شرب البيرة أمراً عفوياً جاء بمصادفة عابرة ـ أم أنه نتج عن تطور مجموعة كبيرة من الأفكار والأسباب المجتمعية والأسطورية والدينية، التي تشاركت ولعبت أدواراً متكاملة، جعلت من "الجعَّة" الفرعونية واحدة من أبرز هبات الفراعنة للعالم، وهي المشروب الذي صاحب بناء أول حكومة "مدنية" قوية ومنظمة على وجه الأرض، وكان شريكاً في بناء واحدة من عجائب الدنيا، هي "الأهرامات".

لقد شكَّلت البيرة الفرعونية مع شقيقها "الخبز"، ثنائياً مصرياً أكل منه العالم وشرب وتعالج، طوال عشرات القرون ـ وهو لا يزال يفعل إلى اليوم ـ الأمر الذي وقر فكرة شرب البيرة في الوجدان المصري منذ زمن سحيق، أي منذ استقرَّت أركان "الدولة المدنية" في فجر التاريخ، لأول مرة على ضفاف النيل، حيث أسست مصر أول مدنية عرفها الإنسان على الأرض، وأسست أيضاً ـ جنباً إلى جنب ـ صناعة البيرة في العالم القديم، وظلت صاحبة مكانة مركزية في صناعتها على طول التاريخ، الأمر الذي يجعلنا نظن أن وجود "الخمامير" أو "الخمارات" كمُتنفس قانوني لممارسة الاستمتاع بالحياة في مصر، موضوع بديهي، وجزء لا يتجزأ من الثقافة المصرية، في بعض المدن الكبرى وعلى رأسها "القاهرة"، طوال تاريخها الذي يمتد إلى أكثر من "ألف عام" حتى لو ادعى البعضُ غيرَ ذلك.

الحق أننا لن نستطيع أن نفهم البلد الذي أنتج أول مشروب بيرة قبل آلاف السنين، وحمل اسم "هاكت"، على أرض مصر، إلا إذا فهمنا القانون الذي كان يحكم هذا البلد، والذي كان يمكن اختصاره في اسم الإلهة "ماعت" وتعني "الحق والخير والعدل"، وتجسد الفكرة الأولى التي ظهرت في مواجهتها الفكرة النقيض لإله الفوضى والخراب والتدمير والشر واسمه "إسفت".

علينا أن نعترف أن العقل البشري قفز قفزة قوية إلى الأمام، بعد اكتشافه سحر البيرة، وعلينا أن نفهم أن العقلية التي شربت البيرة ـ لأول مرة ـ هي نفسها العقلية التي قدمت تصوراتٍ واضحة عن المساواة والعدل أمام القانون، لأول مرة أيضاً وهي ذاتها التي استطاعت أن تطبق ذلك القانون، مبكراً جداً وبنجاح نسبي طبعاً، وأن تعدِّل في ما توصلت إليه من نتائج، وهي عقلية اكتشفت لنفسها لغةً ورسمتها على الجدران والنقوش، بينما كان الأوربيون ـ مثلاً ـ يغرقون في عصور الظلام، لذلك هي العقلية التي تستحق أن تصل إلى اكتشاف فكرة "الضمير" الإنساني، قبل خمسة آلاف عام فقط، لذا فنحن بالنسبة للعالِم والأثري الأمريكي الراحل، جيمس هنري بريستد (1865 ـ 1935)، لانزال في أول الطريق نحو الفضيلة، وإن كنا الشعب الذي علم العالم "فكرة الضمير الإنساني"، من وجهة نظر بريستد طبعاً.

حتى قبل أن تولد الحضارة على الأرض المصرية بقرون طويلة، كانت الأسطورة المصرية القديمة، قد خلدت اسم الإلهة "حتحور"، بوصفها ربة الحب والجمال والسعادة والخصوبة والأمومة، من ناحية، وربة  السُكر والثمالة من ناحية ثانية، حيث عرف المصريون منذ فجر التاريخ، كيف ينتقون سلوكيات معبودة الحب عندهم، والتي كثيراً ما وجدناها في القصص الأسطورية، مُحاربة غاضبة، لا يمكن أن تهدأ ثورة غضبها، إلا بعدما تتناول بعض "الجعَّة" أو بعض النبيذ، على نحو ما سوف نقرأ بعد قليل.

وفي حين كان الإله "أوزوريس" يقوم بعصر العنب الذي شرب منه أول كأس وسن القوانين للبشر، و"بيَّن لهم كيف يتعبدون ويبجلون الآلهة"، اعتبرت "حتحور" ـ واحدة من أبرز "النساء الآلهة" ـ ربة الخصب والنماء والأمومة وربة للسكر والثمالة أيضاً، فهي أحياناً تعشق السكر، وأحياناً لا يمكن السيطرة على موجة غضب أصابتها من دون أن تشرب كمية مناسبة من الخمور، على نحو ما تروى لنا رئيس قسم المصريات في "متحف اللوفر" الفرنسي، كريستيان ديروش نوبلكور، في كتابها البديع "المرأة الفرعونية"، بشأن حكاية "هلاك البشرية"، وهي واحدة من الحكايات الأسطورية القديمة، التي تعتبرها كريستيان معادلاً مصرياً لقصة "الطوفان".

وتنقل لنا الكاتبة الفرنسية واحدة من أجمل التراتيل الموجهة إلى الإلهة "حتحور"، والتي تتعامل معها بوصفها ربة لكل ما هو جميل وممتع وباعث على البهجة والسعادة، وهي بدون جدال التراتيل الموجودة في المعبد الصغير المقام في الجزء الشرقي بجزيرة "فيلة"، وقد كُتبت هذه التراتيل بمناسبة عودة البعيدة إلى مصر، وفيما يلي بعض المقتطفات:

"ما أبهى محياكِ،

حينما تتألقين في مجدك

وأنت فرحة:

حتحور يا سيدة "سنمن" المبجلة،

إن أباك رع يتهلل فرحاً عندما تشرقين

ويمتدح أخوك شو جمال محياك

و"تحوت" القادر على أقوى المشروبات المُسكِرة يقول لك:

"يا لك من قادرة".

(.....)

والرجال والنساء يبتهلون إليك أن تغدقي عليهم الحب

ومن أجلك تقيم العذارى الاحتفالات ويعطينك أرواحهن

أنت سيدة الثناء وسيدة الرقص

ربة الحب وسيدة النساء والعذارى".

 

7000  جرة "جعَّة"

 

وفي الأساطير المصرية أمثلة عديدة للتجسدات المتعددة لـ "حتحور"، ومنها تجسدها بوصفها ربة الثمالة، فهي تأتي أحياناً على هيئة عين "رع" التي غادرت بعيداً، وأحياناً تتحول إلى لبؤة ضارية، تنفث اللهب من عينيها وفمها، فطلب رب الكون من "شو" و"تحوت"، اللذين تجسّدا في هيئة قردين، أن يذهبا لمقابلة تلك الغاضبة المُفترسة التي هددت المبعوث "تحوت" بالقتل، ولم يأل الأخير جهداً في محاولة تهدئة الإلهة الغاضبة، فحاول إقناعها بكل الوسائل بالعودة إلى وطنها، وكان من بينها بالطبع إغراؤها بما يتوفر في مصر من المناخ الرائع والمأكل اللذيذ، وطبعاً وقبل كل شيء "النبيذ الوفير" .

تقول كريستيان: "اتصفت "حتحور" بالقدرة على منح الآدميين الإحساس بالحب والعشق، حتى يستمر التناسل والإنجاب في الحياة الدنيا، ولذا فإننا نجد أن الاحتفال الذي كان يقام بمناسبة العام الجديد كان يتصف بالمهابة والإجلال، إذ كان يبدأ في مساء اليوم الأول من شهر "توت"، أول شهور العام، حيث كان يتجلى في هذا العيد تمثال الإلهة "حتحور"، المحفوظ في قدس أقداس المعبد، ليخرج للضياء الذي تمنحه الحياة لعام كامل، فيفيض بها من معبدها".

لقد مثلت "حتحور" في الفكر المصري القديم ربة للخير والحب والأمومة، مثلما اعتبرت ربة للسكر والثمالة بلا منازع، وامتد تأثيرها واسعاً في عالم الأحياء وفي عالم الأموات أيضاً، فهي التي تستقبل الموتى في العالم الآخر، وكان طبيعياً أن تنتشر عبادتها انتشاراً واسعاً بين ربوع مصر، وخارج أراضيها أيضاً، وقد شيد لها الإغريق والرومان معابد في منتهى الفخامة والروعة، مثل معبد "حتشبسوت".

ومن بين أطرف الأمثلة على دور الإلهة "حتحور"، تأتي حكاية "هلاك البشرية"، لتعكس درجة تقديس المصريين للبيرة، حيث أنقذ رب الأرباب "رع"، البشرية من الهلاك، باستخدام سبعة آلاف جرة مملوءة من "الجعَّة"، وضعها في طريق الإلهة الغاضبة "حتحور"، التي كانت تنتوي أن تقتل البشر جميعاً، وحينما شربت منها "حتحور" نست أمر قتل البشر، وراحت في حالة من الثمالة، لتصير ربة السكر والعربدة.

 

نبيذ الرجال و"سرمت" النساء

وبعدما حلقنا في سماء التفكير الأسطوري المصري القديم، الذي قدس الخمور، واعتبرها سبباً في انقاذ البشرية، من غضبة "حتحور" التي تحولت إلى "ربة الثمالة"، وقبل أن نطالع موقفهم من البيرة بعد الموت فيما يسمى "السكرة الشعائرية"، كان لابد أن نقرأ تأثير البيرة والخمور في مصر القديمة، من خلال ما نقشوه ودونوه في معابدهم ومقابرهم، أي من خلال قراءة نماذج من الواقع التاريخي والاجتماعي للمصريين في تلك الفترة، خصوصاً أن "معجم الحضارة المصرية القديمة" كتب واصفاً الخمر في مصر القديمة قائلاً "كانت الخمر تُراق كالأنهار إبان الأعياد السنوية، التي كانت تجذب الزائرين، من جميع أرجاء مصر إلى أي معبد"، وهي عبارة دالة وكاشفة وتستحق التأمل بخصوص أحوال المصريين في ظل العهد الإقطاعي القديم".

لقد دفعت تطورات الواقع المصري القديم، إلى تغيير تركيبة هذا الإنسان البسيط الذي ترك الصيد وبدأ يعمل في الزراعة، التي علمته قيم الاستقرار والبناء والبحث عن النظام، وهي القيم التي منحته بدورها مهاراتٍ جديدة، كان على رأسها اكتشاف فكرة "الضمير الأخلاقي"، يقول بريستد، كما كان من بينها التجريب في كل شيء، واختبار السلوك والأدوات والطعوم الجديدة، لقد ظلت البشرية نحو مليون سنة تطوِّر الأسلحة إلى أن وصلنا إلى مستوى متقدم جداً فيها، لكننا وصلنا إلى فكرة "الضمير الإنساني"، المحب للخير والحق والعدالة "ماعت"، كاره الشر والخبث والكذب والفوضى "إسفت"، متأخرين، يقول بريستد: "إن فجر الضمير والأخلاق الذي عرفه البشر كان على أيدي المصريين القدماء، أي قبل 4000 سنة من الآن".

شيء ما يمكننا أن نربط به ظهور البيرة في مصر القديمة، بفكرة "العدالة الاجتماعية"، شيء أشبه بالعلاقة النظرية، حيث كان شارب البيرة البسيط قد فهم قبل آلاف السنين معنى الاستقرار وضرورة العدل على ضفاف النيل، وحين بدأت الزراعة تفيضُ عليه من خيراتها، كان يبحث عن إجابات مناسبة على الأسئلة الأكثر عمقاً، بشأن الخير والشر، والإله الذي يستطيع أن يرزق الجميعَ، والموت الذي كان لابد أن يصادف الجميع أيضاً، وعن العدالة الاجتماعية، التي تتيح للفلاح الفصيح أن يصعد بشكواه إلى حاكم الإقليم، الذي يعجب بفصاحته فيتجنب الرد عليه، ليستمع إلى المزيد من الشكاوى البليغة للفلاح، لقد كانت الحاجة ملحة إلى مشروب مثل البيرة، في مجتمع كهذا، على ضفاف نهر خلاب، يزيد من قيمة التأمل ويسهم في إطلاق الأفكار.

كريستيان ديروش تكشف لنا جانباً مهماً من الحياة الوجدانية عند المصريين القدماء، وعلى الرغم من أننا لم نقرأ عن وجود أماكن مخصصة لاحتساء البيرة في مصر القديمة من قبل، إلا أن المدهش في كتاب ديروش حقاً هو ما ذكرته عن الحالة الأسرية في البيت الفرعوني، والدور الذي لعبته "الأبنية الملحقة" بأي منزل ريفي فاخر في مصر القديمة، مشيرة إلى أن هذه الأماكن الملحقة بالمنازل كانت تتضمن "زرائب" و "مرابط" و"مطابخ" و"مخابز"، بالإضافة إلى أمرين مهمين، هما: "معمل صناعة الجعَّة"، و"قبور الخمر"، لافتة إلى أنه كانت هناك أيضاً حديقة تحتوي على عنصرين أساسيين: أولاً كرمة العنب، وبجوارها تقام "المعصرة"، حيث يقوم صانعو الخمور بدهس العنب بأرجلهم، حيث يتم جمع العصير الناتج عن هذه العملية قبل تصفيته في جرار كبيرة: "حيث كان يتم التبخر من خلال سدادات مصنوعة من الطين".

تضيف المتخصصة الفرنسية في تاريخ مصر: "هذه الخمور النادرة المحفوظة داخل جرارها"، والتي حُدد اسم مصدرها" كانت تخرج من الأقبية في أيام الأعياد والاحتفالات، وتقدم للمدعوين، بدون أي حدود. وقبل أن يُسكب السائل في الأقداح كان يتم تصفيته. وأحياناً كان الخدم أنفسهم يشجعون هؤلاء الذين كانوا يبينون أنهم قد شبعوا واكتفوا:

"في صحَّتك، اشرب حتى الثمالة

ولتمض يوماً مُعيداً من أيام العيد

واستمع إلى ما تقوله صديقتك

لعلك لا تريد أن تتوقف عن احتساء الخمر".

 

وتورد لنا كريستيان ترجمة أخرى لما قالته عمة النبيل "باحري" الذي اعتكف بعد حروب التحرير، ولم تكن تخفي ميلها إلى الاغراق في تناول الخمور:

"أحضر لي ثمانية عشرة قدحاً من الخمر

انظر إنني أريد أن أنتشي،

إن داخل جسدي جاف مثل قشة".

تقول الباحثة الفرنسية التي تخصصت في نساء مصر القديمة، إن المصريات كن يفضلن النبيذ العذب الذي كان ناضجاً، وكن يقدمنه لضيوفهن بالإضافة إلى مشروب آخر يعرف باسم "سرمت" تقول عنه : "كان يجلب أساساً من ضياع الملكات، ولا شك أن هذا المشروب كان يتذوق في البلاط الملكي، لأن أطلال عاصمة الفرعون "أمنحتب الثالث" بالملقطة في غرب طيبة، لم تقدم ـ حتى يومنا هذا ـ أية إشارة إلى وجود أية جرة جعة، ولكن على العكس قدمت ما يزيد على 300 قطعة من بقايا البطاقات الخاصة بمشروب السرمت، ويتساءل البعض عما إذا كان التمر لم يدخل في تركيب هذا المشروب المنعش دون شك".

الباحثة تلفتنا أيضاً إلى وجود "أماكن مخصصة لاحتساء الجعة في مصر القديمة" ـ أي اللبنة الأولى للخمامير ـ فضلاً عن اقتناء المصريين القدماء، وسائل تساعدهم على صناعة الخمور منزلياً، تتحدث ديروش، بشأن أوضاع التجار في مصر القديمة، لافتة إلى أماكن كانت مخصصة لتقديم الجعة، في مصر القديمة، وأن هذه الأماكن كانت تعج بالفتيات، وتضيف: "كان التجار السوريون يقومون بتجارة مثمرة رابحة ويعتبرون بمثابة أكبر موردين لفتيات اللهو والمرح في منازل احتساء الجعة"، وهؤلاء الفتيان كن يدخلن البهجة والسعادة على نفوس الطلبة الشبان، الذين كانوا يُوبَّخون ويؤنبون بدون جدوى، من جانب كتبة التعاليم الوقورين".

وفي موضع آخر تضيف الكاتبة أن بيوت احتساء الجعة كانت منتشرة في أنحاء منطقة الشرق الأدنى، ففي قانون "حمورابي"، ذكر أن: "دخول بيت من بيوت احتساء الجعة ينطوي على سلوك غير أخلاقي وخليع من جانب المرأة. وتعلن علينا قصة حدثت مع المواطن "ون آمون"، والتي ترجع إلى الأسرة الحادية والعشرين، في "جبيل"، وعلى الأرجح أنها امرأة من اللاتي ينتمين إلى إحدى هذه المؤسسات، والتي عرضها أمير "جبيل" على "ون آمون"، لكي يساعده على تمضية الوقت، منتظراً أن يتمكن من دون أية معوقات من العودة ثانيا إلى مصر، ومن الملاحظ أنه كمثل ما كان يحدث بمصر، كانت المرأة "السهلة المنال" في جبيل، يمكن أن تحضر من منطقة ضفاف النيل، "لقد بعث إلي بسكرتيره الخاص"، الذي أحضر إليَّ إناءين من الخمر وخروفاً، وأمر أيضاً بأن تحضر إليّ "تنتماد"، وهي مغنية مصرية، كانت تعيش بجواره، بهذه المهمة: "غني من أجله، وأبعدي عنه الأفكار السوداء".

وقد بلغ نشاط تلك المواخير أقصاه خلال حكم رمسيس الثالث، إبان الأسرة العشرين، ومما يذكر أنه في الوقت الذي أجرى فيه التحقيق مع مقترفي مؤامرة الحريم، فقد اتهم أيضاً إثنان من القضاة المكلفين بنظر القضية، لأنهما كانا قد احتفلا احتفالاً ماجناً صاخباً مع بعض النساء المتهمات، و"بعض المجرمات الأخريات"، في بيت أحدهما، الذي كان مرحباً للغاية كمثل إحدى بيوت احتساء الجعة".

ونحن لا نستطيع أن نستبعد احتمال وجود أماكن مخصصة لاحتساء الجعة في مصر القديمة، خصوصاً ونحن نطالع تعريف كلمة "المجتمع المصري" في "معجم الحضارة المصرية القديمة"، لنكتشف أنه لم يكن يخرج عن المعنى العام لاعتزاز المصريين القدماء بالسكر، حيث كانوا يعتبرون البيرة والخبز ضرورة ملحة لأي مجتمع، وأنه كان مجتمعاً مولعاً بالحفلات والحياة المرحة، وأن المصريين كانوا أكثر انغماساً في الملذات، مشيراً إلى قصة متوارثة ذكرها هيرودوت تبين حنق الموظفين على الملك أحمس الثاني (أمازيس) لاحتسائه الخمر، وغضبهم عندما يرون عجزه عن تصريف أمور الدولة بعد سهرة حمراء".

يقول "معجم الحضارة المصرية القديمة" تحت عنوان "المجتمع المصري": "ومن واقع الحاضر، يمكننا أن نستشف لمحة عن الجانب الإنساني لهذا المجتمع. لم يكن عصراً حديدياً مبنياً على الرق، كما رأى البعض، ناسين أن قدماء المصريين لم يروا في "ماعت" النظام المستقر فحسب، بل والخبز والبيرة أيضاً، كحقٍ لكل فرد، عظيماً أو صغيراً، ورجالاً ونساء على حد سواء".

وتحت عنوان "المسكرات"، يذكرنا مؤلفو "معجم الحضارة المصرية القديمة"، بحكاية "رع"، الذي أراد أن ينقذ البشرية من غضب ابنته "حتحور"، فجلعها تشرب مشروباً قوياً، بلون الدم، أثر عليها في الحال، فراحت في سبات عميق، يقول المعجم:

"بسبب هذه الخدعة دبَّر البشر أمر حياتهم، وظلت حفلات الأعياد والرقص والموسيقى والشراب، تحت رعاية تلك الربة العظيمة. كانت الخمر تراق كالأنهار إبان الأعياد السنوية، التي كانت تجذب الزائرين، من جميع أرجاء مصر إلى أي معبد".

ويورد المعجم فقرة من أقوال هيرودوت تكشف ولع المصريين بالخمور، يقول: "في عيد بوباستس كان ما يشربه الناس من الخمر أكثر مما يشربونه طوال بقية السنة"، مشيراً إلى قصة عابد هذه الربة القديمة: "الذي بعد أن انتهى من حفل ليلي لاحتساء الخمر، توجَّس من أن يذهب إلى بيته، وجاءه الوحي أن يستمر في السهر عند قبر أوزيريس، المكرَّس للسكون الشامل".

يضيف المعجم بوضوح أن المدن الكبرى في مصر القديمة كان لها عربيدوها من الشبان: "الذين لا ينتظرون حتى تأتي الأعياد لكي يحتسوا الخمر حتى النشوة، بل كانوا يشربون النبيذ أو البيرة في جميع الأوقات، وإذ يأس شيوخ الكتبة وذعروا من سلوك تلاميذهم كانوا يشكون منهم قائلين: "سمعتُ أنك تهمل استذكار دروسك،

وتكرس نفسك تماماً للملذات،

فتنتقل من شارع إلى شارع، تفوحُ منك رائحة الجعَّة،

تسلبك الجعة جميع الوقار الإنساني،

وتؤثر على عقلك،

وهأنتذا أشبه ما تكون بالدفة المكسورة،

 لا تصلح لشيء".

وبالإضافة إلى ما اكتشفه الفراعنة من فوائد لشربها، جعلتها بالفعل مشروباً للصغار والكبار والأحياء والأموات في مصر القديمة، كما قدموها على ما يبدو "لعلاج بعض الاضطرابات النفسية"، كانت الجعة برفقة العمَّال الذين بنوا قبل آلاف السنين، واحدةً من عجائب الدنيا السبع، بل كانت من أهم أغذية "بُناة الأهرام"، خلال عملية البناء، حوالي 2480 - 2550 ق. م، حيث كانت مصر القديمة تعرف أربعة أنواع من النبيذ، وخمسة أنواع من البيرة، وبلغ اهتمام المصريين بها حداً، لا يمكن تصديقه، حيث استطاعوا تبريدَها بـ "هواء الأنهار"، قبل أن تصل البيرة إلى محطة "الطقس الديني" المتعلق بدفن الموتى في مصر القديمة، وصارت جزءاً لا يتجزأ مما سماه "جيمس هنري بريستد"، مطلع القرن العشرين، "تموين القبر"، وساعتها تحديداً بدأت البيرة الفرعونية رحلتها ـ هي الأخرى ـ مع الخلود.

ولعل القرآن الكريم، وتحديداً في الآية (36) من سورة "يوسف"، قد عكس جانباً لا يستهان به عن رواج صناعة الخمور وتجارتها واحتياج المصريين إليها، يقول النص القرآني: "ودَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ".

نحن نظن أن مهنة عاصر الخمر كانت شريفة ومطلوبة وموقرة في مصر القديمة، وأن القصص القرآني تعامل مع المسألة بنتهى البساطة والأريحية والتفهم، بل إن الذي كان يعصر الخمر هو الذي نجا ـ ويا للمفارقة ـ من الموت، وهو نفسه الذي ذكر اسم يوسف فيما بعد عند الملك، الذي داهمته الرؤيا ذات يوم وطلب لها المفسرين، بينما زميله الفتى الآخر "صانع الخبز"، هو الذي قُتل، وأكلت الطير من رأسه، على خلفية اتهامهما بالضلوع في مؤامرة لتسميم الملك، إلى آخر القصة المعروفة، تقول الآية (41) من سورة يوسف: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ۚ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ".

 

"السكرة" الشعائرية

 

في ظل هذه المتع التي تصنعها البيرة للأحياء، كان طبيعياً أن يقدسها المصريون القدماء، وأن تدخل شريكاً أساسياً في احتفالاتهم الدينية، في مصر القديمة، بما فيها الاحتفالات المتعلقة بالموتى وزيارة المقابر، وقد كان المصريون، ولا يزالون، يشعرون بعظيم السعادة في الاحتفالات الدينية تحديداً، وبنظرة واحدة إلى ما يحدث في "الموالد الكبرى في مصر" الآن، تستطيع أن تكتشف الأصل الفرعوني لكثير من عادات شرب الخمور وانتشار اللهو والرقص "والدعارة في فترات سابقة"، وهي حالة تقترب في قليل من الأحيان من فكرة "الانفلات الجماعي".

الأرجح، أن يكون المصري القديم رفض أن يتخلى بعد وفاته عن سعادته في هذه الاحتفالات الدينية، وأغلب الظن أنه أراد المشاركة في هذه الملذات الجميلة، حتى بعدما يكون قد فارق الحياة الدنيا، لقد كان المصري القديم يتوق إلى المشاركة في الاحتفالات الدينية، ولو بتمثال له يوضع في مقر المعبد الذي يشهد الاحتفالات، حيث كان المطلوب من الأهل "الصالحين" للمتوفى هو زيارة قبره في الأعياد، وتوزيع الخبز والأطعمة والجعة تذكاراً لروحه، وهي العادة التي تمارس في مصر إلى اليوم، مع حذف فقرة الجعة طبعاً.

وبريستد، صاحب الكتاب المؤسس "فجر الضمير"، من هؤلاء الذين يعتقدون أن المصادر التي وصلت إلى المؤرخين تدل على أن الوازع الخلقي قد شعر به المصريون الأقدمون قبل أن يوجد الشعور به في أي صقعٍ آخر من هذا العالم، مشدداً على أن أقدم بحث عُرف عن "الحق والباطل"، في تاريخ الإنسان عُثر عليه في ثنايا مسرحية "منفية"، تشيد بعظمة مدينة "منف" وسيادتها، ويرجع تاريخ هذه المسرحية إلى منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، حيث كان المصريون يظنون أنهم قادرون على مواجهة الموت بالقوى المادية، فقد كان الغرض الديني من وراء "تموين القبر"، المتمثل في الخبز والجعة، بحسب بريستد هو: "هذه المخصصات فضلاً عن كونها تقي المتوفى شر مخاوف الجوع والعطش والبرد في الحياة الآخرة، كان يقصد بها أكثر من أي شيء مساعدته على الاشتراك في إقامة أهم أعياد السنة، واحتفالاتها الدينية، فإن شأن المصري في ذلك شأن أي شرقي آخر يجد السرور العظيم في الاحتفالات الدينية فلم يرض أن يتخلى بعد ما فارق الحياة الدنيا عن الملذات الجميلة التي تتاح له كثيراً في مثل هذه الفرص. كما كان ينفق عليها بسخاء وكان يأمر تنفيذاً لذلك أن يشاد له تمثال في ردهة المعبد"، وربما كان ذلك لكي يحضر المتوفى بتمثاله كل الاحتفالات الدينية بعد وفاته، ويشعر وهو ميت بالاستمتاع نفسه الذي كان يشعر به بين الأحياء.

ونحن نشعر بالامتنان لرجل مثل بريستد، لأنه وصف لنا ـ معتمداً على وثائق واكتشافات معروفة ومعلنة لبعض النصوص الواردة في "متون الأهرام" أو "متون التوابيت" ـ سلوكيات المصريين القدماء في أهم أعيادهم، أول أيام السنة، فبدا وكأنه إدوارد وليم لين يصفهم منتصف القرن التاسع عشر، أو كأنه يصف مناطق نائية في مصر إلى اليوم، مع خلاف طفيف في بعض التفاصيل، يقول:

"اليوم الأول من السنة يعد أعظم أيام الأعياد في التقويم السنوي، وكان القوم يتبادلون فيه الهدايا فرحين، كما يتوافد أهل الضياع أيضاً يحملون الهدايا إلى سيد ضيعتهم، وفي الوقت الذي كان فيه الفلاحون ومستأجرو الإقطاعية يشاهدون مزدحمين عند الباب العظيم لبيت ذلك الشريف، حاملين هداياهم لسيدهم الحي، غير مفكرين في سيدهم الراحل، كان حراس الجبانة العشرة بقيادة رئيسهم يجتازون أطراف المدينة مرة أخرى سائرين نحو إحدى خزائن الضيعة لتسلم ما كان من حقهم أن يتزودوا به منها، ثم لا يلبثون أن يعودوا أدراجهم حاملين 550 فطيرة مستديرة، و55 رغيفاً من الخبز الأبيض و11 إناء مملوءة بالجعة".

وفي حين كان المصريون أول من اعتبروا البيرة مشروباً للمتعة، إلا أننا لا بد أن نعترف أنهم كانوا أول من أدخلها مرحلة التقديس، حين شاركت الجعة دائماً بنصيب وافر من تموين القبر، وعرفت البيرة بكونها إلهية الطابع، تحتوي ـ ولاشك ـ على روح أو إله، يقول بريستد إن السبب في اصطحاب البيرة إلى القبر يكمن في أن البيرة يمكنها مساعدة الميت في أن يصير روحاً "كا": "يقول الكاهن في إجراءات الدفن المصرية القديمة: قم لخبزك هذا الذي لا يمكن أن يجف، وجعَّتك التي لا يمكن أن تصير فاسدة إذ بها تصبح روحاً". فكأن هذا الطعام وهذه الجعَة يحتويان على القوة الخفية التي تحول المتوفى إلى روح، كما حدث أن حولت "عين حور" "أوزير" روحاً".

وقد اهتم كثير من علماء المصريات بـ "المأدبة الجنائزية"، التي تبين بعض المشاهد والزخارف ما كانت تعنيه هذه المآدب، حيث "كان على الأحياء أن يشتركوا فيها مع الجزء الذي لا يمس الجزء الخاص بالمتوفى، وكانت الموسيقى والرقص مناسبان تماماً، ويصاحبان هذا "الاتصال الجماعي"، وكان دورهما أن يدفعا المتوفى بواسطة "السكرة الشعائرية"، بالخمور المسكرة، لكي يتوجه نحو ذراعي "حتحور" المرحبة، الخفية، التي تستقبل أحضانه لكي تجعله يولد في حياته الجديدة". وكان طبيعياً لكي تتم عملية التحويل بمصاحبة هذه الأفعال أن توجه الأرملة كلامها للمتوفي، قائلة:

"خُذ لتشرب،

حتى تمضي يوماً سعيداً

في بيتك الأبدي،

من يد زوجتك (....)

في صحتك.. أنت المكرم المبجل".

ننهي هذه النقطة بخطاب ترجمه بريستد، موجهٍ إلى الأحياء على باب مقبرة "حَرخوف" الألفنتني الموطن، الذي توغل في السودان في القرن السادس والعشرين قبل الميلاد، ونحت قبره في الصخور الغربية المطلة على "أسوان" الحالية، يقول الخطاب بلغته البليغة والدالة على أهمية البيرة في حياة المصري القديم ومماته:

"وأنتم أيها الأحياء الذين على وجه الأرض والمارون بهذا القبر سواء كنتم نازلين مع النهر أم صاعدين فيه، قولوا: ألف رغيف وألف إناء جعَّة (تقدم) لصاحب هذه المقبرة، وإني في مقابل ذلك سأشفع لكم في العالم السفلي".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.