}

الإقطاعية في ثوب جديد

عبد الله حنا 26 يونيو 2018
اجتماع الإقطاعية في ثوب جديد
قصر العظم بدمشق (صورة من فيسبوك)
            

    

             

                                        1           

                  التحوّل من ملكية الأرض "رقبتها للدولة"

               إلى ملكية فردية كسلعة لمالكها حق التصرف بها بعد 1858

قبل صدور قانون الأراضي العثماني عام 1858 مرت أراضي الميري (ملك الدولة) في العهد العثماني بثلاث مراحل من الاستثمار الإقطاعي اختلفت في شكلها وأساليب إدارتها، مع بقاء جوهر الاستغلال الإقطاعي للفلاحين واحدا لم يتغير إلا بصورة سطحية. وهذه المراحل الثلاث هي:

1 – مرحلة الإقطاعيات الحربية وهي المعروفة بنظام التيمار والزعامات، حيث خصصت أراضي الميري لإعالة الفرسان السباهية. وعندما أخذ الخراب يعم أراضي الميري نتيجة الخصومات بين فرسان السباهية سعت الدولة العثمانية في القرن السابع عشر إلى تشجيع نظام الالتزام المعروف سابقا والسائد في المناطق الجبلية.

2 – مرحلة نظام الالتزام، وطريقته معروفة وتقوم على بيع ضرائب منطقة معينة للمتنفذين. وقد أدى نظام الالتزام إلى تكوّن فئة اجتماعية اغتنت من وراء جمع الضرائب، وسعت لاستغلال الفلاحين وتحويل أراضي الميري إلى وقف ذري، أي تحويل الملكية العامة (الميري) إلى ملكية خاصة لذرية الملتزم. وبسبب جملة عوامل قامت الدولة بتطبيق نموذج جديد من الاستثمار هو:

3 – نظام المالكانة الذي ساد في أوائل القرن الثامن عشر واستمر حتى منتصف القرن التاسع عشر وتحديدا حتى صدور قانون الأراضي العثماني عام 1858. والواقع أن السلطة لجأت إلى أسلوبين:

الأول أسلوب جمع الضرائب مباشرة من الفلاحين. والثاني أسلوب المالكانة، أي نظام التزام الأرض مدى حياة الملتزم، أي أن أسلوب المالكانة اقترب كثيرا من نظام الملكية الشخصية بما في ذلك حق إرث المالكانة.

ولا بد من القول إن نظام المالكانة كان خطوة متقدمة إلى الأمام في مضمار تحول النظام الإقطاعي العثماني نحو الملكية الشخصية. ومع حلول القرن التاسع عشر، وبفضل عوامل داخلية وخارجية، أخذت أراضي الميري تتحول إلى ملكية خاصة كرّستها سلسلة من القوانين صدرت في الربع الثالث من القرن التاسع عشر. 

ويرجع نفوذ آل العظم في بلاد الشام في أواسط القرن الثامن عشر إلى حصولهم على أراضي وسط سورية على شكل مالكانة، مما مكنهم من جمع ثروات طائلة، ومن يملك الثروة يملك النفوذ والجاه والسلطة. وجاء قانون الأراضي لعام 1858 ليحرم الفلاحين الفقراء والمتوسطين من الأرض، وجعلها لقمة سائغة في صالح وجهاء الريف وأثرياء المدينة وزعمائها وكبار الموظفين والضباط، ممن سماهم محمد كرد علي "أرباب الوجاهة". وهذا التملك الجديد للأراضي وما تدره من أرباح وثروة أحدث خللاً في التوازنات الاجتماعية والسياسية والأسرية، وخلق قوى جديدة صعدت السلم الاجتماعي من الفئات الوسطى. ولكن أقدام الأسر القديمة ذات النفوذ الديني، أو التي كانت من أصحاب المالكانات كآل العظم حافظت على وضعها بل رسخت أقدامها اقتصاديا وسياسيا، ولعبت دورا هاما في الحياة السياسية حتى مجيء الإصلاحات الزراعية 1959- 1964، التي قضت تدريجيا على الطبقة الإقطاعية. 

                           **

ومع تحوّل شكل الملكية من "عامة" إلى خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تحوَّل شكل الاستغلال الإقطاعي. فإلى جانب الضريبة العشر، التي دفعها الفلاح للدولة، كان عليه أن يقدم فائض الإنتاج إلى كبار ملاك الأرض الغائبين عن الريف والمقيمين في المدن. وقد أولت هذه الدراسة اهتماماً كبيراً إلى هذه العملية، التي أدت إلى تكوّن طبقة إقطاعية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وأمست معالمها واضحة في الربع الأول من القرن العشرين.

وقد أدى احتكار ملكية الأرض وطرق استغلالها إلى تعمّق التناقضات الاجتماعية وإلى قيام انتفاضات فلاحية فردية أو جماعية تتبعها هذا المجلد، والذي يليه فيما أسميناه الحركات الفلاحية. فبعد أن رصد الكتاب كيفية تملّك المتنفذين للأرض واستغلالهم للفلاحين أولى الاهتمام لتحركات الفلاحين وانتفاضاتهم، التي ندر من أشار إليها من المؤرخين. 

 

 

 

                               2 

                       "أرباب الوجاهة"

 يستولون على الأرض ويتحولون إلى طبقة إقطاعية   

               "عثمنلية" معادية للتقدم [1]

 بدأت الطبقة الإقطاعية في بلاد الشام، وكذلك بلاد الرافدين بالتكوّن في منتصف القرن التاسع عشر مع صدور قانون الأراضي العثماني عام 1858 ورديفه قانون الطابو، واستمرت هذه الطبقة في الصعود ونهب الأراضي وتسجيلها بأسمائها، وحرمان الفلاحين العاملين عليها من خيراتها، حتى صدور قوانين الإصلاح الزراعي في أواخر خمسينات وستينيات القرن العشرين. تلك القوانين، التي جردت كبار الملاك من جزء من ملكيتهم الإقطاعية المنهوبة من ملكيات الفلاحين أو الدولة خلال قرن من الزمن.

لقد مهّد قانون الأراضي العثماني لعام 1858 الطريق لقيام الملكيات الإقطاعية وظهور طبقة ملاك الأرض الإقطاعيين.

فتسجيل (تطويب) الأراضي الزراعية بعد 1858، وصدور قانون الطابو عام 1275 هجرية، لم يتم في صالح الفلاحين المعدمين والفقراء والمتوسطين، بل تمّ في صالح أغنياء الريف في حدود ضيقة، وفي صالح أثرياء المدينة وزعمائها وكبار الموظفين والضباط، ممن سماهم محمد كرد علي "أرباب الوجاهة". وهذا التملك الجديد للأراضي وما تدره من أرباح وثروة أحدث خللاً في التوازنات الاجتماعية والسياسية والأسرية، وخلق قوى جديدة صعدت السلم الاجتماعي من الفئات الوسطى، مع ترسخ أقدام الأسر القديمة ذات النفوذ الديني، أو التي كانت من أصحاب المالكانات.

والمالكانة هي نظام التزام الأرض مدى حياة ملتزم الضريبة. ومعنى ذلك أن ملتزم الضريبة لم يعد ملتزما لها لمدة محددة من الزمن، كما في نظام الالتزام، بل أمسى ملتزما مدى الحياة، أي أن أسلوب المالكانة اقترب كثيرا من نظام الملكية الشخصية، بما في ذلك حق إرث المالكانة. وساد هذا النظام من أوائل القرن الثامن عشر واستمر حتى منتصف القرن التاسع عشر، تحديدا حتى صدور قانون الأراضي. ويلاحظ أن معظم أصحاب المالكانات حولوها  بعد 1858 إلى ملكيات شخصية مسجلة في الدفتر خانة، أي دفتر الطابو والمعروف اليوم بالسجل العقاري. ونظام الدفتر خانة (الطابو) صدر في أعقاب قانون الأراضي.

ويمكن تصنيف الأسر الثرية ذات النفوذ حسب جذورها التاريخية ونشاطاتها المهنية، والأعمال التي تمارسها سابقاً، ولاحقاً، وتحولها إلى طبقة إقطاعية في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين، إلى الأصناف التالية:

- الأسر المرتبطة بالمؤسسة الدينية المتوليّة للأوقاف والمحتكرة للنظامين القضائي والتربوي. فقد قام أفراد هذه الأسر بتحويل الأرض ذات الملكية العامة إلى ملكية خاصة بهم وتحوّلهم إلى فئة إقطاعية. والسمة المميزة لهذه العائلات هو انغلاقها على نفسها وعلى مؤسساتها الدينية وارتباطها الوثيق بالسلطة المركزية الإقطاعية العثمانية، والازورار - مع بعض الاستثناء - عن حركة النهضة والتيارات الداعية إلى الإصلاح والحكم الذاتي اللامركزي.

- الأسر ذات الجذور الانكشارية المحلية الممتهنة للأعمال شبه العسكرية (الأغوات). وقد ركزت هذه العائلات اهتمامها على العمل في تجارة الحبوب والمواشي وتعاملت مع المرابين وعملت في الربى. ومعظم أفراد هذه الأسر ربط مصالحه بمصالح العاصمة استنبول وكانوا بعيدين عن النهضة العربية وعلى خلاف مع الحركة الوطنية (الإصلاحية). وهؤلاء امتلكوا أيضا الأرض وحرموا الفلاحين منها.

- الأسر التجارية العريقة أو الحديثة العهد بالتجارة، وأهم ما يميز أفراد هذه العائلات ارتباطها بالتجارة الداخلية والإنتاج المحلي، فأمسوا بسبب ارتباطهم بالاقتصاد المحلي (الوطني) أكثر التصاقاً بالسوق الداخلية وتحسساً بمتطلبات هذه السوق ومصالح الإنتاج المحلي. ولذلك فإنهم كانوا على اتصال بالعامة وطوائف الحرف. وقد تزعم شباب هذه العائلات ذوو العقول الديناميكية المتنورة نسبياً حركات الإصلاح في المدن الشامية والعراقية ونادوا بالحكم اللامركزي. وهم الذين شكلوا مع الزمن، بذور البرجوازية الوطنية الناشئة. ولكن هذه البرجوازية التجارية الناشئة لم تكن برجوازية خالصة، بل كانت برجوازية تجارية، مالكة للأراضي الزراعية. ولهذا فإن طبيعتها كانت مزدوجة: فهي، من جهة، تحمل بذور الثورة والتحرر من القديم الإقطاعي، ومن جهة أخرى تتعاطف، بسبب ملكيتها للأرض، مع العلاقات الإقطاعية السائدة. وهذا الطابع المزدوج انعكس على سياستها المترددة وخطها المتعرج. وقد عبّرت جريدة المقتبس الدمشقية عن طموحات شباب هذه الأسر.

كبار الموظفين من مدنيين وعسكريين، الذين استخدموا مناصبهم للاستيلاء على الأرض وتحويلها من ملكية فلاحية أو عامة إلى ملكية خاصة إقطاعية. ويلفت النظر أن معظم العاملين في جمع الضرائب (العشر) وسوق العسكر (نظام القرعة والتلاعب به) إلى ساحات القتال تحوّل إلى فئة إقطاعية. ولا يخفى أن معظم هؤلاء تحدّر من الأسر السابقة الثلاث.

إن صعود الأسر في مدن بلاد الشام والعراق إلى قمة السلطة المحلية (في الولاية) والعثمانية (في استنبول) كشف بجلاء تفاعل عملية ديالكتيكية  تلقي الأضواء على ترابط الاقتصاد بالسياسة.. فالجاه والثروة والمنصب (الديني أو السياسي أو العسكري أو الوظيفي) والمقام الاجتماعي، هذه الأمور مجتمعة أو منفردة جلبت "الخير" والأرض المسجلة في دوائر الطابو. وتلك الأرض الواسعة الشاسعة تُغل الواردات والثروات الجديدة على الأسر الصاعدة، التي استخدمتها، أي الثروة، لرفاهها أو لزيادة ثروتها والمحافظة على مناصبها ورشوة السلطات العثمانية وشراء المناصب والعقارات ونهب أراضٍ جديدة وتجميع ثروات جديدة وهكذا دواليك.

تلك كانت فئة الخاصة، التي تكونت في عواصم الولايات العثمانية العربية ومدنها في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين، وشكلت ما عرف بـ "أرباب الوجاهة والنفوذ". وقد أيد يمين طبقة الخاصة (الأسر المرتبطة بالمؤسسة الدينية والأسر شبه العسكرية) الدولة العثمانية الإقطاعية ودعمها وكان جزءاً منها وقاوم الدعوة إلى التطور والانفتاح على الحضارة العالمية البرجوازية، وعرقل عملية الانطلاق والإبداع. أما يسار طبقة الخاصة (العائلات التجارية) فهو الذي بثّ الحياة في حركة النهضة العربية وحركة التنوير الديني وقاد حركة الإصلاح واللامركزية وتطلع بأبصاره إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية ودعا بحذر إلى التغيير. وكان مع الإبداع والمشجعين عليه. ولكن الحركة الإبداعية انبثقت من صفوف العامة وتحديداً من صفوف من فتحت أمامه أبواب مدارس الإرساليات أو البعثات إلى أوروبا. ومن صفوف هؤلاء برز معظم رواد النهضة ودعاة التطور والتغيير والنُخب المتوهجة من المصلحين الذين عاشوا في واحات محاطة ببوادي وصحارى الجهل والتخلف.

                        3

     التزام ضريبة العشر يُثبّت أقدام الإقطاعيين

كانت الدولة العثمانية تطرح ضريبة الأعشار في المزاد العلني، لكي تقبض ريعهـا من الملتزم سلفاً، وتطلق له العنان في تحصيلها من المكلفين. وكان ملتزمو الأعشار (المعشّرون)  من أرباب النفوذ الإقطاعيين المتعاونين مع الحكم على حساب الفلاح يتبعون طرقا خاصة في التخمين وفي ابتزاز المال منه بدلا من أخذ الضريبة عينا على المنتجات السريعة العطب، كالعنب والبطيخ.. الخ. أما المواد التي كانوا يأخذون عشرها عينا فهي الحبوب على الإطلاق، والزبيب واللوز والجوز.. الخ. كان في كل قرية بضعة أشخاص يسمون بالعوانية، اتخذوا تحصيل العشر مهنة لهم، فكان الملتزمون يستعينون بهم في التحصيل مقابل نصيب من الأرباح. وكثيراً ما خشي الفلاحون ظلم ملتزمي الأعشار فدفعوا لهم قرابة ضعف ما سيدفعونه إلى الحكومة. وإذا شعر الملتزمون أن ربحهم قليل طلبوا من السلطة المتواطئة معهم تعيين خبراء لتقدير المحصول بداعي أن الفلاحين أخفوا أو باعوا إنتاجهم، وفي هذه الحالة يخمن الخبراء المحصـول أكثر من الضعف. وهكذا لا يبقى للفلاح إلا ما يسد به الرمق أو أقل. وكثير من الملتزمين الجشعين استعانوا بالقضاء وزجوا الفلاحين في السجون وأجبروهم على بيع أراضيهم إلى الملتزمين وأنصارهم من ذوي النفوذ بأثمان بخسة حتى يخرجوا من السجن. والمتتبع لتاريخ التزام ضريبة العشر يلاحظ بوضوح أن معظم الملتزمين تحولوا بعد عدد مـن السنين، هم ومن حولهم، إلى مالكين للأراضي الواسعة، أي أمسوا إقطاعيين كبارا أو صغارا حسب نفوذهم وعلاقتهم مع السلطة أو قوتهم العشائرية أو الطائفيـة.   

ننقل برهانا على ذلك ما نشرته جريدة المقتبس الدمشقية بتاريخ 4 آب 1909 حول تصرف الإقطاعي وملتزم الأعشار وموقفه من ملتزم آخر أراد الزيادة في مبلغ الالتزام فماذا كانت النتيجة؟ جاء في المقتبس:

"في حماة قرية لخالد أفندي البرازي مبعوث حماة (أي عضو مجلس المبعوثان المعادل للبرلمان – المؤلف) بدلها السابق ثمانية آلاف قرش (أي أن ضريبة العشر في هذه القرية المملوكة من آل البرازي مبلغ 8000 قرش، وهو مبلغ زهيد كان يدفعه مالك الأرض والملتزم في آن واحد – المؤلف) ولما وضعت (القرية) في المزاد بلغ ما وصلت إليه خمسة وسبعين ألف قرش. ولما رأى ذلك أخوه باكير آغا لطم أحد الذين كانوا يزيدون على وجهه في دار الحكومة. واعتمد هو وغيره من المتنفذين على أن لا يدعوا أولئك (لا يسمحوا لملتزمين جدد في المزاودة كي تبقى ضريبة العشر زهيدة ويذهب الفرق إلى جيوب الإقطاعيين – المؤلف) الذين يقدمون على الالتزام للربح وتبقى الأرباح للمتنفذين".

 

ولم يكن الأمر مصادفة قيام ابن الطبقة الوسطى شكري العسلي بنشر دراسة من حلقتين في جريدة المقتبس في 2 و3 حزيران 1909عن ضريبة العشر، مميطا اللثام عن تعسف الملتزمين من كبار ملاك الأرض وجني الأموال من الفلاحين من جهة وحجب هذه الأموال عن خزينة الدولة لتصب في خزائنهم.

 

هذه هي الدورة التي تمّ فيها الانتقال من ملكية الأرض للفلاح إلى ملتزم الأعشار جرت وفق الخطوات التالية:

- فلاح يدفع ضريبة العشر.

- السلطة الإقطاعية وملتزمو الأعشار يتقاسمون حصيلة الضريبة بينهم.

- الضريبة، مع مجموع الضرائب الأخرى تنهك الفلاح وتفقره.

- ملتزم الأعشار، الذي جمع قبل مدة الأموال من الفلاحين وعصر جيوبهم، يقرض الفلاح المال بفوائد باهظة.

- الفلاح لا يستطيع إيفاء الدين.

- ملتزم الأعشار يشتري أرض الفلاح المُنهك بأسعار زهيدة.

- قوانين الدولة العثمانية الإقطاعية ودائرة الطابو جاهزة لخدمة صاحب النفوذ والسطوة والمال.. وبِخَطْ يد موظف الطابو تُسجّل الأرض باسم الملتزم "وفقا للقانون".

- الفلاح يتحول بعد (الطابو) من فلاح مالك "حر" إلى فلاح محاصص (مرابع) لدى جابي الضرائب.

هذه هي الحلقة الأولى التي انتقلت بواسطتها ملكية الأرض من الفلاحين إلى كبار الملاك الإقطاعيين وصغارهم.. وبعدها يبدأ ايديولوجيو "الملكية الخاصة الإقطاعية" بإقناع الفلاحين والشعب بأن "الملكية مقدسة" لا يجوز المساس بها، ومن يتجاسر على الشك بهذه "القدسية" فهو "كافر"، "ملحد"، "زنديق"، "مخرب"، "متمرد" على القوانين والدساتير والأعراف.. وأهم من ذلك أنه يخالف إرادة السلطان خليفة المسلمين. وعلى أية حال فالسجون مشرعة أبوابها لاستقبال المشككين والمتمردين، وعساكر الدولة العلية طوع بنان الإقطاعي لتدجّن الفلاحين المخالفين.

                            4

    مأمورو جمع العسكر يتحوّلون إلى إقطاعيين

الحلقة الثانية المتممة للحلقة الأولى (التزام الأعشار) للاستيلاء على أراضي الفلاحين وتسجيلها بأسماء ملتزمي الأعشار، وغيرهم من المتنفذين تمثلت في "الخدمة العسكرية" أو ما عرف بـ "القرعة". وهنا تتفرع الحلقة المؤدية إلى نزع ملكية الفلاح وتسجيل الملكية للمتنفذين إلى خطوتين:

الخطوة الأولى يتعهد المتنفذ بإعفاء شباب القرية من الذهاب إلى العسكرية لقاء تسجيل الأرض باسمه. ورأسمال المتنفذ هنا هو وجوده في أجهزة السلطة أو علاقته الحميمة أو المريبة مع رجالها.. فالسلطة تجلب الأرض والثروة للإقطاعي دون عناء أو تعب، فتقدم له أوراق "الطابو" على صحاف من ذهب عثماني مسكوك من دم الشعوب وعرقها.

 والخطوة الثانية يُساق رجال القرية إلى العسكرية وتقل الأيدي العاملة في القرية، ولكن "الدولة العليّة" لم تكن تريد أن تعلم أن إنتاج القرية من المحاصيل قد تراجع بسبب هذا الإجراء، الذي سموه "جهاداً"... وهنا يأتي ملتزم الأعشار أو المتنفذ أو التاجر ويتعهد بدفع الضريبة لقاء حصوله على الأرض عن طريق الشراء من أقرباء الفلاحين المرسلين إلى ساحات القتال.

 ومن خلال هذا العرض لعملية استيلاء الأعيان على الأراضي الزراعية وحرمان الفلاحين منها يمكن فهم ما كتبته المقتبس حول الأعيان والفلاحين، وتعاطف مثقفي الطبقة الوسطى المتنورين مع الفلاحين.

    

                                            5

                                   مراحل تملك الأرض

                         وظهور طبقة الإقطاعيين وزوالها

 

بدأت الطبقة الإقطاعية في بلاد الشام والعراق بالتكوّن في منتصف القرن التاسع عشر مع صدور قانون الأراضي العثماني عام 1858 ورديفه قانون الطابو، واستمرت هذه الطبقة في الصعود ونهب الأراضي وتسجيلها بأسمائها، وحرمان الفلاحين العاملين عليها من خيراتها، حتى صدور قوانين الإصلاح الزراعي في خمسينات القرن العشرين، التي جرّدتها من جزء من ملكيتها الإقطاعية المنهوبة من ملكيات الفلاحين أو الدولة خلال قرن من الزمن.

لقد عرف تاريخ ملكية الأرض بين صدور قانون الأراضي العثماني لعام 1858، الذي مهّد الطريق لقيام الملكيات الإقطاعية وظهور طبقة ملاك الأرض الإقطاعيين، مرورا بقانون الأراضي الصادر في عهد الانتداب الفرنسي لعام 1930، وصدور قانون الإصلاح الزراعي لعام 1958، ثلاث مراحل، امتدت مئة سنة، هي:

 

1 – المرحلة العثمانية الممتدة من صدور قانون الأراضي لعام 1858 وحتى انهيار الدولة العثمانية عام 1918

إن صعود الأسر في مدن الشام إلى قمة السلطة المحلية (في الولاية) والعثمانية (في استنبول) كشف بجلاء تفاعل عملية ديالكتيكية رائعة تلقي الأضواء على ترابط الاقتصاد بالسياسة.. فالجاه والثروة والمنصب (الديني أو السياسي أو العسكري أو الوظيفي) والمقام الاجتماعي، هذه الأمور مجتمعة أو منفردة جلبت "الخير" والأرض المسجلة في دوائر الطابو. وتلك الأرض الواسعة الشاسعة تغل الواردات والثروات الجديدة على الأسر الصاعدة، التي استخدمتها، أي الثروة، لرفاهها أو لزيادة ثروتها والمحافظة على مناصبها ورشوة السلطات العثمانية وشراء المناصب والعقارات ونهب أراضٍ جديدة وتجميع ثروات جديدة وهكذا دواليك.

تلك كانت فئة الخاصة، التي تكوّنت في عواصم الولايات العثمانية العربية ومدنها في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين. وقد أيد يمين طبقة الخاصة (الأسر المرتبطة بالمؤسسة الدينية والأسر شبه العسكرية) الدولة العثمانية الإقطاعية ودعمها وكان جزءاً منها، وقاوم الدعوة إلى التطور والانفتاح على الحضارة العالمية البرجوازية، وعرقل عملية الانطلاق والإبداع. أما يسار طبقة الخاصة (العائلات التجارية) فهو الذي بثّ الحياة في حركة النهضة العربية وحركة التنوير الديني، وقاد حركة الإصلاح واللامركزية وتطلع بأبصاره إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية، ودعا بحذر إلى التغيير، وكان مع الإبداع والمشجعين عليه. ولكن الحركة الإبداعية انبثقت من صفوف العامة وتحديداً من صفوف من فُتحت أمامه أبواب مدارس الإرساليات أو البعثات إلى أوروبا. ومن صفوف هؤلاء برز معظم رواد النهضة ودعاة التطور والتغيير والنُخب المتوهجة من المصلحين الذين عاشوا في واحات محاطة ببوادي وصحارى الجهل والتخلف.

 

2 - مرحلة الاحتلال الاستعماري الفرنسي (1920 – 1943)

تميّز عهد الانتداب الفرنسي بتوسّع أراضي الإقطاعيين السابقين من جهة وإضفاء هالة من "القدسية" على ملكيتهم وتثبيتها "قانونياً" من جهة ثانية. كما تميز أيضاً بظهور طبقة إقطاعية جديدة، من مشايخ العشائر البدوية والفلاحية، انضمت إلى الطبقة السابقة المتكوّنة أيام العهد العثماني.

 "قانون الأراضي الجديد" الصادر عن المفوض السامي للجمهورية الفرنسية بتاريخ 13 / 11 / 1930 ألغى قانون الأراضي العثماني لعام 1858 ورمى إلى إيجاد أسس تجعل الملكية التي حصل عليها أصحابها، نادرا بصورة شرعية، وغالبا بصورة غير شرعية، قانونية ثابتة، مستقرة الحدود، تُمَكِّنُ أصحابها من البيع، وتؤمن الشاري من المنازعات القضائية. وقد أوجد هذا القانون نظاما جديدا لتسجيل الأراضي وتسليف الأموال عليها ولتحسين حراثتها وزرعها.

 معنى ذلك أن أشكال الملكية الزراعية لم تتغير في عهد الانتداب تغيرا جوهريا عمّا كانت عليه في أواخر العهد العثماني.

3 -مرحلة الاستقلال الوطني (1943- 1958)

وهي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل عملية الاستيلاء على أراض جديدة وتكوّن وتبلور طبقة من كبار الملاك والمتوسطين، الذين يمكن أن نقول دون مبالغة إنهم كوّنوا طبقة إقطاعية واضحة المعالم، وهي التي شملتها قوانين الإصلاح الزراعي بين عامي 1958 و1963.

وفي هذه المرحلة نشأت إقطاعيات عن طريق اغتصاب أراضي أملاك الدولة، وبخاصة في الجزيرة.

 

                                 6

           قوانين الإصلاح الزراعي (1958 – 1964)

           تُسدد الضربات لملاك الأرض الإقطاعيين

حدّد قانون الإصلاح الزراعي رقم 161 لعام 1958 الصادر في الإقليم السوري أيام الجمهورية العربية المتحدة سقف الملكيات الزراعية. وبعد انفصال سورية عن مصر في 28 / 9 / 1961 ألغى المجلس النيابي، المؤلف من أكثرية إقطاعية وبورجوازية (حاقدة على التأميم )، عمليا القانون 161 لعام 1958 واستبدله بقانون يفرّغ الإصلاح الزراعي من محتواه لصالح كبار الملاك الإقطاعيين.

وبعد وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في 8 آذار 1963 صدر المرسوم التشريعي رقم 88 تاريخ 23 – 6 – 1963، الذي خفّض سقف الملكية، وتدل الإحصاءات الرسمية على أن عدد المشمولين بالإصلاح الزراعي بين عامي 1959 –1969 بلغ 4612 مالكا.

      بعد تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي دخلت الأرياف السورية في مرحلة جديدة ما يهمنا منها في بحثنا هو الأمور التالية:

- أرض الاحتفاظ، التي بقيت في يد الإقطاعيين، والتي أصبحت قيمتها الشرائية ونتاجها أفضل من السابق. علاقة الفلاحين العاملين في أرض الاحتفاظ مع الملاك في ظل قانون العلاقات الزراعية الجديد الصادر عام 1959. وما مصير ملاك الأرض الإقطاعيين سابقا، وما وضعهم السياسي والاجتماعي وكيفية تطورهم؟

- وضع الفلاحين المنتفعين من الإصلاح الزراعي أو من أراضي أملاك الدولة، وهل إنتاج الأرض الموزعة عليهم يكفيهم أم عليهم البحث عن عمل آخر؟ 

- وضع الفلاحين بصورة عامة بعد تطبيق الإصلاح الزراعي. وهل تجري عملية صعود نحو الأعلى بعد التطورات الجارية في ستينات القرن العشرين؟

- هل ظهرت فئات اجتماعية جديدة في الريف؟ وما تأثير الهجرة من الريف إلى المدينة؟ وما مدى نفوذ بعض فئات "أبناء الريف" بعد التغيرات الجارية في جسم الدولة منذ ستينات القرن العشرين؟

إن معرفة التطورات الجارية في الأرياف السورية بعد الإصلاحات الزراعية، وما نتج عنها يقود إلى فهم أحد الأسباب الداخلية للتحركات الشعبية المندلعة في آذار 2011 قبل انزلاقها إلى العسكرة وتدخّل القوى الإقليمية والدولية، مما أدى إلى خلط الصراعات وطمس وجهها الاجتماعي. كما أنّ صعود فئات طفيلية وبيروقراطية أكلت الأخضر واليابس أمست أشبه بـ "إقطاعية جديدة مخابراتية سلطانية"، كان العامل الاجتماعي الثاني لاندلاع التحركات المطالبة بالحرية والكرامة وضمنا العدالة الاجتماعية. وجاء تتابع الأحداث ليضع الجمهورية السورية في مهب الرياح. 

               

 

 

 



[1]   لعل بعضهم يستغرب أو يستهجن دور الخلفيات الطبقية للصراعات أو بالأصح المناوشات، التي قامت في دمشق في أعقاب ثورة الاتحاد والترقي وخلع السلطان عبد الحميد عن عرشه الإقطاعي. ومن يقرأ جريدة المقتبس التنويرية التي صدرت في دمشق بعد الانقلاب على عبد الحميد بأشهر يرى بالعين الثاقبة أن المناوشات بين أنصار الرجعة والعودة إلى الوراء، إلى عهد السلطان الإقطاعي المستبد، وأنصار الانطلاق والتحرر من الماضي السلطاني والسير في طريق التنوير والنهوض، له خلفيات طبقية بين مثقفي الطبقة الوسطى المتعاطفة مع الفلاحين وبين أعيان دمشق من بشاوات وأغوات وبكوات من ملاك الأرض الإقطاعيين.

 
*مؤرخ من سورية

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.