}

بالمعطيات الجـافّة: النهضة الثقافية في فلسطين قبل النكبة

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 23 مايو 2018
اجتماع بالمعطيات الجـافّة: النهضة الثقافية في فلسطين قبل النكبة
حي المنشية في يافا قبل النكبة

عادة ما تُثار، لا سيما في ذكرى إحياء النكبة الفلسطينية، نقاشات شتى بشأن بداية النهضة الأدبية في فلسطين، وماهية المُنجزات التي حققتها حتى 1948، عام النكبة، التي نحيي ذكراها السبعين هذه الأيام.

ولعلّ أحد آخر تجليات تلك النقاشات، عندنا هنا في الداخل الفلسطينيّ، تمثّل في سجال أثاره ولا يزال يثيره كتاب للأكاديمي والناقد سليمان جبران بعنوان "نظرة جديدة على الشعر الفلسطيني في عهد الانتداب" منذ صدوره قبل أكثر من عشرة أعوام (2006)، وقد جادل فيه بأن الشعر الفلسطيني، بمعناه الوطنيّ الدقيق، لم يُكتَب قبل مطلع القرن العشرين، أمّا شعر القرن التاسع عشر فهو، وإن كتبه شعراء من فلسطين، لا يعكس مجتمعا فلسطينيّا وانتماء فلسطينيّا، وإنما هو شعر إسلاميّ في معظمه، لم يُجدّد في مفاهيم الشعر أو مضامينه أو أساليبه شيئًا. ويعارض جبران رأي كل من الدكتور عبد الرحمن ياغي، والدكتور ناصر الدين الأسد، والدكتور كامل السوافيري، بصفتهم أبرز من أرّخوا لتلك المسألة، الذين سبق لهم أن رأوا أنّ بداية النهضة الأدبية في فلسطين كانت منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر، ويتساءل عن السبب الذي جعل مؤرّخي الأدب العربي الفلسطيني يُصرّون على منتصف القرن التاسع عشر بدايةً لمرحلته الأولى.

وسرعان ما خالفه الرأي أكاديمي وناقد آخر هو نبيه القاسم، آخذًا عليه اعتباره الشعر مظهر النهضة الأدبية الواحد والوحيد في فلسطين. وأعرب القاسم عن اعتقاده بأنّ النهضة بدأت في فلسطين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر مُتَمثلة ليس في الشعر حصرًا، وإنما بالأساس في المدارس والإرساليات والمطابع والصحف والجمعيات والنوادي والحركات السياسية والمؤلفات العديدة في مختلف المواضيع شعرًا ونثرًا، حتى ولو كانت عامّة في طروحاتها، ولا تعكس هموم المجتمع الفلسطيني الذي لم يكن قد تبلور بعد. أمّا أنّ الأدب، شعرًا كان أم نثرًا، المُعَبّر عن الهمّ الفلسطيني العامّ والعاكس للقضية الفلسطينية والصراع مع الصهيونية الكولونيالية، قد تبلور وتطوّر في القرن العشرين فهو حُكم صائب، وكان طبيعيًا أن يكون كذلك بعد تبلور الوطن الفلسطيني، وفي خضم الصراع الآخذ بالتصاعد على هذا الوطن ومستقبله.

وفيما يتجاوز هذا السجال، الذي من المُقدّر له أن يستمر، تطرّق جبران إلى ما حقّقه المجتمع الفلسطيني من إنجازات مهمّة، سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة، في ظل فترة الانتداب البريطاني، وجزم بأنّ الشعب الفلسطيني لم يكن، في أواخر أربعينات القرن العشرين، بعيدًا عن النُضج الحضاري السياسي الضروريّ لتحرّره وإقامة دولته المستقلة.

وممّا كتبه بهذا الشأن أن مدينة يافا بالذات، بماضيها الزاهر في الأربعينات وواقعها المُزري بعد نكبة 1948، تُمثّل خير تمثيل الكوارث التي حلّت بالشعب الفلسطيني عامّة، وبالبقية الباقية منه تحت حكم دولة الاحتلال بوجه خاصّ. فقد كان في يافا، قبل عام 1948، نحو مئة ألف عربي فلسطيني، وكانت المدينة تحفل بالمؤسسات الاقتصادية والصحية والثقافية، من مدارس ونوادٍ ومطابع وصحف، ولم يبق من ذلك كله سوى بضعة آلاف من العرب، بعضهم وفد إليها من القرى المجاورة، لا يملكون من المؤسسات المذكورة شيئًا، بل إن بعضهم لا يملك حتى البيت الذي يسكن فيه. وفي عام 1991 صدر كتاب توثيقي مُهم سجّل فيه اللاجئون اليافاويون في الشتات ذكرياتهم عن فردوسهم المفقود: عن الميناء العامر، عن البيارات الخضراء، عن المستشفيات، ودور السينما، والجمعيات، والنوادي، والصحف، إلى غيرها من المظاهر الحضارية التي كانت في المدينة. ومن يقرأ هذا الكتاب لا يملك إلا أن يُدهش، ويسأل نفسه مرّة بعد أخرى: كيف زالت معالم الحضارة هذه كلها فلم يبق منها شيء؟. واقتبس الكاتب عن المفكّر هشام شرابي، ابن يافا، قوله في وصف الحياة الثقافية التي كانت في هذه المدينة: "لا شكّ أن الحياة الاجتماعية والثقافية في يافا كانت أكثر تقدُمًا منها في معظم المدن الفلسطينية الأخرى. كان هناك عدد من النوادي الرياضية [...] كانت النوادي تقيم المحاضرات والندوات، وبعضها يقدّم الروايات التمثيلية، وبخاصة النادي الأرثوذكسي، كما كان هناك عدد من المدارس الخاصة الممتازة مثل: مدرسة الفرير، ومدرسة الروم، والمدرسة الأسكتلندية للبنات (مس بين)، بالإضافة إلى المدارس الحكومية، وأهمها مدرسة العامرية. وكانت يافا مركز الصحافة في فلسطين، وفيها كانت تصدر الصحيفتان الرئيسيتان "فلسطين" و"الدفاع". وكان فيها عدد من المستشفيات الحكومية والعيادات الطبية التي كانت في تزايد مستمر" [هشام شرابي (تحرير): "يافا عطر مدينة"، دار الفتى العربي، بيروت، 1991، ص 16؛ وانظر أيضًا: ذكريات رجا العيسى، د. أكرم الدجاني، لطفي غاوي، المصدر نفسه، ص 103، 152، 213 بالترتيب].

وتابع أن كلّ مظاهر الحضارة في يافا وحيفا وعكا وغيرها من المدن الفلسطينية التي بقيت تحت حكم إسرائيل، ضاعت أو مُحقت في نكبة 1948، وهكذا بقي الفلسطينيون في مناطق 1948 مُجتمعًا قرويًا فقير الموارد والثقافة، دونما قيادة أو مؤسسات مدنية. وسجلّ ما يلي: "ما قرأت مرّة كلّ ما نزل بالفلسطينيين في هذه البلاد عام 1948، من نكبات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وإنسانيّة، إلا ورأيت بعين خيالي شجرة طيبّة تُجتثّ من جذعها فلا يبقى منها إلا جذور ثابتة في الأرض، تصارع الصخر والعطش والعواصف العاتية، لترتفع فوق الأرض من جديد، فتورق وتزهر وتعطي أُكلها".

كما يشير جبران إلى التحوّل الكبير الذي شهدته فلسطين نتيجة لتبلور الوطن الفلسطيني المتوحد المعروفة حدوده وهويّة مواطنيه لأول مرّة في التاريخ، وما عاشته في عهد الانتداب البريطاني، برغم الاضطرابات المستمرة فيما بين الحربين العالميتين، من انتقال البلاد، كما يقول الدكتور عبد الرحمن ياغي، "إلى أوضاع حضاريّة جديدة، حيث دخلت في حياة الناس: الكهرباء والسينما ومسارح التمثيل ومجالس اللهو والغناء، وملاعب الرياضة والمدارس الحديثة وطرق المواصلات العامّة والإذاعة والصحافة، مع ما تحمله هذه كلها من عوامل تجميع".  كما أن الصراع على البقاء والاستقلال مع سلطة الانتداب والحركة الصهيونيّة أدّى إلى زيادة الوعي السياسي والاجتماعي ونشوء الأحزاب وعقد المؤتمرات وإقامة الجمعيات وصدور الصحف التي وصل عددها إلى 22 مجلة و57 جريدة، وإلى اتّساع نطاق التعليم وانتشار المدارس الرسمية والأهلية وارتفاع الوعي الثقافي والفكري، كما يقول الدكتور كامل السوافيري.  

وجاء تبلور الشعر الفلسطينيّ، المُعَبّر عن الهمّ الفلسطيني والقضية الفلسطينية وعن الصراع مع الصهيونية الكولونيالية، في مطلع القرن العشرين، استجابة لتحديّات أحداث كبرى أبرزها المشروع الصهيوني الكولونيالي الذي أخذ يبرز للعيان أكثر فأكثر، ثم الدستور العثماني (1908)، ونشوب الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، والثورة العربية الكبرى (1916)، ثم وعد بلفور (1917) حتى بداية الانتداب البريطاني (1922). وكانت جميعها أحداث هزَّت المجتمع الفلسطيني من الأعماق، وشكَّلت عوامل حاسمة في بلورة الانتماء الفلسطيني بمنأى عن الانتماء الإسلامي العثماني، ومتميزًا عن الانتماء القومي العربي.

وبرأي جبران فإن قصيدة "يا فتاة الحيّ"، التي كتبها الأديب محمد إسعاف النشاشيبي عام 1910، قد تكون من أول الشعر الفلسطيني الذي كُتب في ذلك الوقت. وقال فيها:

يا فتاةَ الحيّ جُودي بالدماءْ          بدلَ الدمعِ إذا رُمتِ البكاءْ  
فلقد ولّت فلسطينُ ولم               يبقَ يا أختَ العلا غيرُ ذِماء
نكبتْ أقدامَها سُبْلُ الهدى            فشَرَتْها للعدا شرَّ شراء 
سوف تشكين وتبكين دمًا            يومَ لا يُجدي ولا يُغني البكاء 
فدعوا شحناءكم يا هؤلاءِ            وانبذوا البغضاءَ نبذًا والعداء 
إن الاستعمار قد جاز المدى         دون أن يعْدوه عن سيرٍ عداء 
إن هذا الداء قد أمسى عياءً         فتلافوه سريعًا بالدواء 
إنها أوطانكم فاستيقظوا             لا تبيعوها لقومٍ دخلاء 
فاعلموا يا قومُ إن لم تعلموا        أن عُقباكم هلاكٌ وفناء
اذكروا إنْ غرّكم مالُهمُ              عزّةَ الأنفسِ دومًا والإباء

وضع جديد ومعقّد

يجدر ملاحظة أن أول هذا الشعر الفلسطينيّ تزامن مع نشوء "وضع سياسي جديد ومعقّد شعر الأدباء الفلسطينيون أنه لا فُكاك لهم منه"، على حدّ ما تؤكد الأكاديميّة والناقدة سلمى الخضراء الجيّوسي، ما جعل الشعر في فلسطين، قبل عقد الخمسينات، يميل إلى الاستجابة العفوية للأحداث، فخضع لمتطلّبات المعنى في القصيدة، واكتفى بالتعبير عن الرسالة الخاصة التي بدا أنها هي الأهم ولها الأولوية المطلقة (مقدمة "موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1997).

وبرأي الجيّوسي لم يستطع أيّ شاعر سياسي قبل عقد الخمسينات، باستثناء إبراهيم طوقان (1905- 1941)، أن يقدّم شيئًا فيه ما يكفي من الجدّة بحيث يخلق نهجًا جديدًا. وهي تشمل ضمن هذا الحُكم النقديّ، بالإضافة إلى طوقان، كلًا من مطلق عبد الخالق (1010- 1937) وعبد الرحيم محمود (1913- 1948) وعبد الكريم الكرمي- أبو سلمى (1911- 1984). ويجدر بالذكر هنا أن معظم هؤلاء الشعراء رحلوا قبل عقد الخمسينات، أما أبو سلمى، الذي ظلّ يكتب حتّى أواخر عقد السبعينات، كما ظلّ محتفظًا بشعبيته، فإنه لم يُضف شيئًا يُذكر إلى فنّية الشعر الفلسطيني وقيمته الجمالية بعد ذلك العقد.

ولدى الانتقال إلى الفن القصصي الفلسطيني تسجل الجيّوسي أن هذا الفن استوحى، في مراحله المبكّرة، القصة الغربية المترجمة إلى اللغة العربية، في المقام الأول، وكانت هذه حالة في البلدان العربية بأسرها، حيث أخذت أولى قواعد هذا الفن مباشرة من الأمثلة الحديثة الأولى لفنّي القصة القصيرة والرواية في الأدب الغربي الحديث. ولم يبدأ باستلهام أنواع القصص التي يزخر بها الأدب العربي إلاّ بعد ذلك، أي في حوالي منتصف القرن العشرين.

وجاء أوّل جهد مُركّز لشدّ انتباه الكتاب الفلسطينيين من ذوي الطموح الأدبي إلى الفنّ القصصي وإلى قدرته على تلبية حاجات جمهور القرّاء المتنامي، من جانب كتّاب مثل خليل بيدس (1875 - 1949) وأحمد شاكر الكرمي (1894- 1927) وجميل البحري (الذي توفى في ريعان الشباب عام 1930).

وبرز تأثير هؤلاء بطرق متعددة: أولًا، أسّس كلّ منهم مجلّة أدبية خاصة به وأشرف على تحريرها بنفسه، وغدت تلك المجلات منابر مبكّرة لنشر القصص التي كان أغلبها مُترجمًا عن اللغات الأوروبية؛ ثانيًا، عمل ثلاثتهم في مجال الترجمة الأدبية، إذ ترجم بيدس، الذي درس في المدرسة الأرثوذكسية الروسية في الناصرة، مباشرة عن الأدب الروسي، أو عن ترجمات روسيّة لكتّاب أوروبيين آخرين مثل ماري كوريلّي وفكتور هوغو. وكان الكرمي يجيد الإنجليزية، فترجم أعمالًا لأوسكار وايلد ومارك توين، كما ترجم عن ترجمات إنجليزية لأعمال كتّاب أوروبيين مثل جي دو موباسان، وبريناردان دي سان بيير، وتولستوي، وتشيخوف. أما البحري فقد حوّل العديد من النصوص القصصية إلى نصوص مسرحية، وكان مُولعًا بشكل خاص بترجمة القصص البوليسية؛ ثالثًا، كتب هؤلاء الكتّاب في الحقل النظريّ، فأكدوا على أهمية الفن القصصي لمجتمعهم الفلسطيني المعاصر. فمثلًا، كان بيدس يرى أن القصة ركن من أهم أركان الحضارة وأسهلها انتشارًا وأقدرها على التأثير على قلوب الناس وأرواحهم وعلى أخلاقهم وعاداتهم. وعلى كاتب القصة، في رأيه، أن يكتب للعامة وليس للخاصة، ولذا فإن عليه أن يختلط بعامة الناس ويتعرّف على حياتهم ومشاكلهم، فالكاتب في نظره نبيّ ما لا يراه الآخرون. والكاتب الحقيقي هو ذلك الذي يعيش للفنّ ويكتب للفنّ. والعمل القصصي الكامل هو ذلك الذي يطمح إلى أهداف عليا، فيُعلي من شأن الفضيلة ويذمّ الرذيلة سعيًا للارتقاء بشخصية القارئ وتنوير عقله. كذلك فإن أحمد شاكر الكرمي يرى أن على الفن القصصي أن يسعى للفائدة الأخلاقية ولتقديم نقد بنّاء للمظاهر البالية في المجتمع الفلسطيني في أيامه. ونجد هذا الموقف الأخلاقي كذلك عند جميل البحري، الذي لم يتوان عن تحرير النصوص التي عمل على مسرحتها، مُستبعدًا ما كان يحسبه عديم الفائدة من المشاهد الغرامية التي لا تناسب أعين الشباب وأسماعهم، في رأيه.

ويُعزى لخليل بيدس فضل كتابة أوّل رواية فلسطينية معروفة هي رواية "الوارث"، التي ظهرت في القدس عام 1920. وكتب بيدس أيضًا قصصًا قصيرة ونشر أوّل مجموعة منها بعنوان "آفاق الفكر" في القاهرة عام 1924 (مع المقدّمة التي اقتُبست منها أقواله أعلاه).

والرواية المهمة الثانية من تأليف كاتب فلسطيني هي "مذكرات دجاجة" (1943) لإسحاق موسى الحسيني (المتوفى عام 1990). وقد حازت الرواية، بمقدمتها التي كتبها لها طه حسين، عميد الأدب العربي آنذاك، على شهرة آنية في العالم العربي وأعيد طبعها عدة مرات. وبقراءة الجيّوسي لربما كانت هذه الرواية أول عمل قصصي معاصر يستفيد استفادة مباشرة من التراث الأدبي العربي، فهي قصة ترميزية على غرار "كليلة ودمنة" لابن المقفّع، حيث تروي الأحداث على لسان الحيوانات، والحيوان في المذكّرات دجاجة تُظهر قدرًا كبيرًا من الحكمة والميل لعمل الخير والقدرة على الحكم الصائب بشأن القضايا الأخلاقية والوجودية.

النقد الأدبيّ

قدّم المبدعون الفلسطينيون قبل النكبة مساهمات في مضامير ثقافية أخرى عدا الشعر والنثر، مثل النشاط الموسيقيّ، والأدب الإذاعيّ، والأدب المسرحيّ، وأدب الرحلات.

ومثلت بواكير الصحف، التي صدرت في فلسطين عقب إعلان دستور عام 1908، حجر الأساس في بنيان الصحافة الفلسطينية ومرتكز انطلاقتها. ووفقًا لدراسات عدة، كانت الصحف في الوقت عينه بمنزلة إطار النشأة الفعلية للحركة الأدبية، وجذر تاريخ هويتها الوطنية، حيث استقطبت كبار الشعراء والأدباء والمثقفين، وأدّت دورًا حيويًا بارزًا في تنشيط الحركة الأدبية. وقد نهضت كذلك بطرق الكتابة وطوّرت أساليبها، وبذلك كانت من أهم الوسائل التي ساعدت على بلورة الهوية الفلسطينية الوطنية والثقافية معًا.

كما شهدت حركة النقد الأدبي في فلسطين قفزة بظهور كتاب روحي الخالدي "تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو" في مطلع القرن العشرين.

وبموجب ما يرد في ثنايا الموسوعة الفلسطينية، فإن الرقعة الزمنية التي امتدت قرابة أربعة عقود، وانتهت بنكبة فلسطين عام 1948، تكاد تكون أشدَ فترات الحياة الفلسطينية النقدية حرارة وامتلاء بالعافية، التي لا تقل في مستواها عمَا في الحياة النقدية والأدبية والفكرية في بعض البلدان العربية المتقدمة، مع الفارق في الحجم والكم فقط. وهذه العقود الأربعة تكاد تكون الرقعة الزمنية المهمة التي تركت أبرز السمات في شخصية فلسطين الثقافية والسياسية والاجتماعية.

وارتاد النقد الأدبي الفلسطيني، بعد كتاب الخالدي، آفاقًا واسعة تضاهي آفاق النقد الأدبي في البلاد العربية الأخرى المتقدمة، فقد برز نشاط خليل بيدس في مجلته "النفائس العصرية" منذ عام 1908. وظهرت بوادر النقد الأدبي الفلسطيني في هذه المرحلة في الصحف أكثر من ظهورها في كتب نقدية.

وتحت وطأة الوضع السياسيّ الجديد والمعقّد، المُشار إليه أعلاه، تجنّب النقد الأدبي الفلسطينيّ في تلك المرحلة الإعلاء من ظاهرة المدرسة الرمزية، التي تستعمل الإيعاز والتلميح في التعبير عن الحالات النفسية، بدلًا من الأسلوب التقريري المباشر، وتحلّ الخيال محل الواقع والحقيقة، وناهض هذا النقد الفكرة الجمالية "الفن للفن". وربما كان لهذا كله أثر في توجيه حركة النقد الأدبي الفلسطيني في هذه المرحلة الزمنية نحو تيارين بارزين، هما تيار المدرسة الرومانسية، وتيار المدرسة الواقعية الجديدة.

وظهرت وجوه غير قليلة في مضمار النقد الأدبي في هذه الفترة، فكتب في النقد، الذي يمكن أن ينضوي تحت لواء المدرسة الرومانسية، خليل بيدس، وتوفيق زيبق، ومحمد إسعاف النشاشيبي، وخليل السكاكيني، وأحمد شاكر الكرمي، وإسحاق موسى الحسيني، وعادل جبر، وداود حمدان، ويوسف سلوم، وعلي كمال، وعبد الكريم الكرمي، ومحمد العدناني، ورائدة جار الله، وإبراهيم عبد الستار، وخيري حماد وغيرهم. وكتب في النقد، الذي يمكن أن ينضوي تحت لواء المدرسة الواقعية الجديدة، أو ما يقرب منها، مغلبًا عوامل الجماعة على العوامل الفردية، عبد الله مخلص، ونجاتي صدقي، وعارف العزوني، ورجا الحوراني، وعبد الله بندك، ومخلص عمرو، ومحمود سيف الدين الإيراني، ويوسف خوري.

وتناولت المدرسة الرومانسية قضايا أدبية مهمة، كان أبرزها أهمية الروايات (القصص الروائي) في بناء الحضارة والثقافة. وتناول محمد إسعاف النشاشيبي قضية اللغة وصلتها بأهلها وبعمرانهم وحضارتهم، وقضية اللفظ والمعنى، وقضية التجديد والتقليد وغيرها. وكان خليل السكاكيني من الشخصيات النقدية التي أثارت قضايا نقدية مثل تحديد طبيعة الأديب، والكاتب، والشاعر، وقضية الشعر وأنواعه، والكلام وأنواعه، والأسلوب، والصلة بين المذهب في الكتابة والفئة الاجتماعية، والتطور في الأساليب، وكذلك قضية القديم والجديد.

وأسهم أحمد شاكر الكرمي في الحركة النقدية، فنقد كتاب "الشاعر" أو "سيرانو دي برجراك" لمؤلفه الشاعر الفرنسي إدمون روستان، وهو تمثيلية شعرية في الأصل نقلها مصطفى لطفي المنفلوطي إلى قصة عربية. وأثار قضايا نقدية، مثل قضية "الشخصية في الأدب"، ورأى أن النقد الموضوعي أوسع مجالًا من النقد الذاتي، وقسم النقد إلى نقد بياني يقتصر على الألفاظ، ونقد تحليلي يتناول الآراء والأفكار. ومن آراء الكرمي النقدية قوله: "لا جدال في أن اللغة هي مادة الأدب، ولكن امتلاك تلك المادة وحدها من غير إلمام بفنون التصرف فيها لا يصيّر المرء كاتبًا ولا شاعرًا، كما أن امتلاك الذهب مثلًا، وهو المادة التي تصنع منها الحلي، لا يصيّر مالكه صائغًا".

أما الواقعية الجديدة فقد عالجها أدباء منهم عبد الله مخلص، الذي كتب حول طبيعة المجتمعات، وحلّل بصورة خاصة تركيبها الاقتصادي، وسخر من نظريتين: الأولى "الفن للفن"، والثانية أن الفن موهبة فطرية لا تُكتسب بالمران والاجتهاد ولا يمكن للمرء أن يتعلمها أو يتلقاها.

ومن كتاب الواقعية الجديدة نجاتي صدقي، الذي سلط الأضواء على فلسفة ابن خلدون وقربها الشديد من فلسفة هيغل في الجانب الجدلي منها، ومن فلسفة كارل ماركس من الناحية المادية وصراع الطبقات فيها. كذلك سلّط الأضواء على منهج داروين ومنهج ديكارت، وحاول تفسير هذين المنهجين وغيرهما بطريقة النشاط الفكري والثقافي، وبنتاج الفن المتصل بالتركيب الاجتماعي المتأثر بعلاقات الإنتاج والأوضاع الاقتصادية.

*****

لم أفارق في جلّ ما تقدّم أعلاه جانب عرض بعض المعطيات الجافّـة، التي تثبت معالم الأوضاع الحضاريّة المتبلورة في فلسطين قبل عام 1948. وهذه المعالم كلها زالت ولم يبق منها شيء، نتيجة استهدافها خلال النكبة بشكل مُخطّط، وبالأساس من طريق تدمير المُدن الفلسطينية. وهو ما قدّمت قرائن بشأنه دراسات عدّة تستحقّ وقفة خاصة لاحقًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.