}

تأملات في المدينة: النقصان

عبدالله البياري عبدالله البياري 24 أبريل 2018
اجتماع تأملات في المدينة: النقصان
لوحة للفنان الأردني أحمد نعواش

لا كتابة عن المدينة/المكان تُكتب لها النجاة من الكتابة عن الشخصي فينا/منّا في المدينة/المكان؛ فنحن نكتبنا حين نكتب (عن) مدننا، وتكتبنا مدننا إذ نكتبنا/نكتبها. بدت فداحة هذا القول كثيفةً وأنا أحاول أن أكتب عن القاهرة، التي عدت إليها بعد غيابٍ يقارب خمس سنوات؛ كانت فضاءات زمنيّة ومكانيّة من الألم والأمل والفقد والغياب. القاهرة التي قدمت - مع غيرها- نموذجًا أليمًا لموت المدينة العربية التي لم تسر بعد على درب المدينة. ولشدة ما يحمله هذا النموذج من الألم، بات أهل القاهرة وكأنهم/ن فقدوا/فقدن إحساسهم/ن بالألم، وتواطؤوا/تواطأن معه، بشكلٍ أو بآخر، فموت المدينة يحمل في طياته موت أهلها، وتواطؤهم/ن معه.

ولأن العلاقة مع المكان عمومًا، والمدن خصوصًا، هي دومًا علاقة موسومة بالنقصان، فمعرفتنا بأنفسنا في عصر الحداثة السائلة هذا، كما يصفه عالم الاجتماع الراحل زيغمونت باومان، تتضاءل، وبالذات في المدن التي أصبحت أماكن للغرباء، كلما اغتربنا عنها وعن أنفسنا، كلما انتمينا لها أكثر. لذا فنحن لا نخرج من المدينة/المكان كاملين أبدًا، ولا نأتي مدينةً/مكانًا ما كاملين أبدًا؛ ثمة نقصان تنبني عليه الذات والمدينة تجاه بعضهما بعضاً، وكلما زادت تلك الثنائيّة، كلما باتت أكثر، وأفدح نقصانًا.

العلاقة مع المدينة/المكان تتبدى وكأنها من طبيعة ناريّة؛ فالنار تتغذى على غيرها لتدوم، هكذا هي العلاقة مع المكان؛ ثمة توق واحتياج إلى "ما بعد"، لا يصل، لتدور الدائرة وتستمر. ولأنَّ لنا في المدينة/المكان ثمة "شخصيٌ" منّا، فالمدينة/المكان هي تراكم هذا الشخصي، فمن أين يأتي النقصان إذن، والتراكم عكسه؟! لعل مركزيّة المدينة (وليس المكان) في عصرنا، هو امتيازها ومقتلها، في آن، وهو مصدر هذا النقصان.

المدينة كيان مركزي لا يؤمن إلا بنفسه، أناني يتزيّن بكل ما تقع عليه يداه من خيالاتنا ليُعرف بها نفسه، لا مدينة إلا ولها أن تختال بحجمها. المدينة كيان متحرك فينا وحولنا، نُعرِّف به أنفسنا ككيان أكبر منّا، حتى وإن فتتناه، فاعل مؤثر يحدد خياراته على الدوام، ولو على حسابنا. أمّا القرية فتقع دومًا خارج عملية التخيُّل، ليست كالمدينة التي تسعى دومًا لابتلاع هذا الخيال وترويضه/ترويضنا. القرية كيان سلبي/غير فاعل في ذاته، يتحرك خارج حدود الذات/الأنا المتخيِلة والمُتخيَلة (معًا، ولو جاز الفصل)، ليس هو مكانها إلا بمعنى الانفصال عنها؛ فلطالما كان حلم "ابن/ة القرية" - في السرد- أن يخرج/تخرج منها وأن ينفصل/تنفصل عنها، بينما يسعى/تسعى ابن/ة المدينة إلى المزيد من "التمدن"، ومتى استعاد/ت قريته/ا، إنما يحدث ذلك بعد أن يتشبع/تتشبع من مدينته/ا، فتغدو القرية انتقامًا من المدينة، وثورة عليها، لا تحدث لذاتها، إنما كنتيجة لفرط التمدن، فيستعيد/تستعيد القروي/ة قريته/ا من خلال قالب من النوسطالجيا، يستلزم موتًا و/أو ثباتًا (ما) للقرية في الزمان والمكان.

الخيال في القرية دومًا سعي إلى الخروج عنها/عليها/منها (بدايةً و/أو استعادةً)، بينما الخيال والذات المتخيلة في المدينة سعي إلى احتوائها أو حوارها أو التماهي معها أو استعادة الحق فيها، وليس أيٌ من هؤلاء يقع في جسد القرية، في حين أنهم يبدأون ويستمرون في المدينة ومنها، ولا يخرجون عن طوعها.

المدينة كيانٌ ناري؛ يتغذى علينا، فإما هو وإما نحن!

يقول إيتالو كالفينو في "مدن الخيال":

"وهكذا يطوف النظر في الشوارع كأنها صفحات مكتوبة؛ إذ تقول المدينة كل ما عليك أن تفكر فيه، وتجعلك تكرر ما تقوله هي. وعلى حين تظن أنك زرت تمارا ]اسم المدينة: الكاتب[ ، فأنت لا تملك إلا تسجيل الأسماء التي تحدد المدينة ذاتها بها في كل أجزائها.

كيف تكون المدينة تحت هذا الغطاء الكثيف من الإشارات؟ ماذا تُظهر وماذا تُخفي؟ يخرج المرء من تمارا دون أن يعرفها".

وفي موضع آخر يصف "أنستازيا"، وهي مدينة أخرى من "مدن الخيال"، أيضًا:

"فوصف أنستازيا لا يستطيع إلا أن يوقظ فيك الرغبات واحدة بعد الأخرى، ويجبرك على لجمها. بينما تستيقظ الرغبات كلها معًا لدى ذاك الذي يجد نفسه ذات صباح في قلب أنستازيا. وتحاصرك هذه الرغبات من كل الجهات، وتتراءى لك المدينة ككيان كليّ، لا تكاد تضيع فيه أي رغبة، وتصبح أنت جزءًا منه. وبما أن المدينة ذاتها تتمتع بما لا تتمتع به أنت، فلا يتبقى لك إلا أن تستوطن هذه الغربة وتكون مسرورًا بها، تلك هي الهيمنة، التي يقول عنها بعضهم بأنها ملعونة، وآخرون بأنها مباركة (..) جهدك الذي يعطي شكلًا للرغبة، يأخذ من الرغبة شكلها، وتظن أنك امتلكت أنستازيا بكليّتها وما أنت إلا عبدٌ لها".  

لمَ هذا النقصان (الناريِّ الهوى)، الذي تتغذى عليه المدينة/المكان فينا وعلينا، وإلى أين يرنو؟!

في الأدب والفنون السرديّة ثمة تماهٍ واجب الحدوث ليرتبط/ترتبط المتلقي/ة بالنص، والتماهي هو شكلٌ من أشكال التشارك. وإذا جاز لنا أن نتعامل مع المدينة باعتبارها نصًّا - مكانيًا، على الأقل- يحكي حياة ساكنيه، صار لزامًا علينا لنرتبط بمدننا أن نتماهى معها (هل سُئلت مدننا يومًا إذا ما تماهت هي معنا أم لا، أو حتى اضطرت يومًا لذلك؟!)، أي أن نشاركها شيئًا ما، وكلما ازدادت تلك التشاركيّة، كلما تماهيّنا مع مدننا أكثر، لكن من يتماهى مع من؟! فـ"خلق المدينة ليس في بناء البيوت والشوارع، إنما في إتاحة الفرصة للإنسان المتحضر بأن يحتفظ بشخصيته مع الاستفادة من أهمية المجموع. فأساس المشكل هو إضافة العامل الشخصي إلى العامل المشترك، وهو التنسيق بين الشخصي والمشترك وإزالة الخلاف الأبدي بينهما، لأن شخصيّة الإنسان هي ثروته الكبرى".

وللتماهي مع المدينة/المكان/النصّ أشكال ونماذج عدة، ليس أولها الثورات العربيّة وميادينها، ولن يكون آخرها نماذج فنيّة وأدبيّة على غرار غيرنيكا بيكاسو، عن الحرب، أو "عالم بلا خرائط" عن عمورية جبرا ومنيف، وغير ذلك الكثير.

التماهي مع المدينة/المكان يستلزم شيئًا من الهدم والبناء، أي إعادة كتابة تجاربنا المدينيّة/المكانيّة، والنقصان شكل من أشكال الهدم، لكن هل ثمة بناء عليه، ومن البناء، في مدن عربيّة تمتدح الهدم؟.

يظل السؤال قائمًا؛ إلى أين يذهب (بنا) هذا النقصان؟!

لعل التماهي والتشارك - حتى لو كان ذلك بالنقصان- هو ما يخلق بيننا وبين مدننا ألفةً ما، تدفعنا إلى التهوي (من "هوية") بالمدن، لكن ثمة جانب آخر للأمر. فالمدينة الناريّة الهوى تتغذى على ما لنا فيها، وليس أدل من ذلك إلا ما آلت إليه مدننا التي طمست مشتركاتنا معها، لتصبح لها حصرًا، بكلماتٍ أخرى؛ تتجبر المدن على أهلها إذا ما قابلت تماهيهم معها بالنكران، وإذا ما ازداد طمعها فيما تركوه/تركنه فيها من "الشخصي" لتكتب هي نفسها بمعزلٍ عنهم/ن، فتفقد الأماكن والأشياء تاريخها الشخصي معنا، وتنتزع مدننا منّا الذاكرة كفعل ممارسة، حتى وإن كان لنا أن نتعرف على الشخصي منّا فيها، والسلطة هي فقط أول المتهمين في المدينة العربيّة.

يقول ريتشارد سينيت في كتابه "The Fall of Public Man" بأن المدينة هي تجمع للغرباء، الذين يعيدون إنتاج اغترابهم على الدوام تحت ما يسمى "السلوك الاجتماعي المتحضر"؛ وهو "نشاط يحمي الناس من بعضهم بعضًا، وفي نفس الوقت يمكنهم من الاستمتاع بصحبة كلٍ منهم الآخر. وارتداء القناع هو جوهر هذا السلوك؛ إذ يسمح بوجود سلوك اجتماعي متحضر خالص لا علاقة له بالأحاسيس والمشاعر. فالسلوك الاجتماعي المتحضر يعرف غايته جيدًا؛ إنه حماية الآخرين من الهم والغم، بألا يكون المرء ثقيلًا عليهم"، أي أنه سلوك يدفعنا إلى قبول نقصان الآخر، والتواطؤ مع هذا النقصان وشرعنته. ولكن النقصان ها هنا ليس محصورًا في العلاقة مع الآخر المديني كما يرى سينيت، لكن كذلك في العلاقة الهوياتيّة مع الذات في المدينة، التي هي أيضًا تمظهر مكاني للهوية القومية، أو شكل هوياتي للدولة التي يتحدث عنها بندكت أندرسن في كتابه "المُجتمعات المُتخيّلة" باعتبار "الأمّة" فضاءً مُتخيّلًا، وعبر المُمارسات اليوميّة - الفرديّة والجمعيّة- يُخلق تسلسل زمني/كرونولوجي يصوغ سرديّة المجتمع ويجعل منها حبكة متماسكة، يتحرك من خلالها أفراده. واستمراريّة تلك الممارسات تضفي على سرديّة المجتمع معنًى واضحًا، وذلك عَبْر مَوْضَعتها ضمن خطّ زمنيّ مستمر.

ويدّعي أندرسون أنّ هذا الخطّ الزمني يتمركز في صميم الخطاب القوميّ الحداثي للدولة. حيث الزمن الحداثي مُتجانس وخطّيّ يبدأ من الماضي، يمرّ في الحاضر، ووجهته نحو المستقبل، وأنّ أساس تَخيُل جميع الأمم ورسم حدودها المكانية، يسعى لإثبات هذا التسلسل والربط بين أزمنته وحقباته التاريخيّة، وبالتالي فالممارسات المدينيّة/المكانية هي نتاج لأداءات الفرد والجماعة في المكان والزمان.

وهنا يغدو التساؤل مشروعًا: إلى أين تسير مدننا العربيّة في الزمن؟ للخلف أم للأمام؟ هل نعلم بداياتها، لنتنبأ بنهاياتها؟ إذا كان للنقصان (نقصان الحق، نقصان المعنى، نقصان الهويّة [هل من هوية تامة!]) أن يرسم شكل علاقتنا بالمدينة/المكان، فأين تتحدد انتماءاتنا المدينيّة الناقصة؟ أو ليس النقصان هو أحد أجزائها الأساسيّة؟! ولأن "الهُويّة، كأيِّ ممارسة خطابيّة مبنيّة على التفاوض، والهدم، والتفكيك، والبناء"، هل محاولاتنا لكتابة المدينة هي - بشكلٍ ما أو بآخر- محاولة لهدمها، ولماذا لا تمثلنا جميعًا، مدننا حتى وهي تمر بأسوأ فترات الهدم؟!

يقول الراحل الجميل حسين البرغوثي، في "الفراغ الذي رأى التفاصيل": "في لحظات فقدان الإدراك أيها السادة، أشعر بطاقة روحية غامضة، قدرة على التحديق في الأشياء أو بالأحرى، في حضور الأشياء، وتبدو وكأنها بلا تاريخ، أو كأنني بلا ذاكرة، قابليّة، قابليّة لمحو أسماء الأشياء أو بالأحرى الإشارات أو اللغة، ويبدو وكأن الأشياء تتعرى من أسمائها ويبزغ ما يسميه لاوتسو بـ"اللامسمى"؛ إنه حضور شامل لشيء وراء اللغة، إطلالة للوجود أكثر مما هي للموجود، فأركز الانتباه كله على سطح الأشياء ناسيًا، أو لا أدري كيف أعبر عن هذا... مهمشًا الإشارات والأسماء، دافعًا بها إلى خلفيّة الذاكرة، شيء يشبه حضور العالم قبل أن نخترع له أسماءً وكلماتٍ نعلقها في رقبة كل شيءٍ كما يعلق الناس في بلادٍ أخرى قطعًا معدنيّة في رقبة كلبهم أو قطتهم، محفورًا عليها عنوان البيت واسم صاحب أو صاحبة هذا الشيء المألوف المسمى كلبًا أو قطة. أعني بأن التفسيرات التي نقدمها للكون نوعٌ من أنواع "التدجين"، وأنا أرى الشيء المتوحش خارج تفسيره وخارج تدجينه".

فما نعرفه من مدننا/أماكننا ينفصل بحدةٍ عما نراه منها، فنرى شيئًا لا نعرفه تمامًا، ونعرف شيئًا لا نراه تمامًا.

هذا الشكل من "التوحش" الناريِّ الهوى هو ما يجعل المدينة أكبر من قدرتنا على كتابتها ومعايشتها، ويخلق فضاءً من الغربة بيننا وبين الشخصي لنا فيها، حتى بعد محاولات الثورات العربيّة لترويضه وترويضها، باسم استعادة "حقنا" في مدننا، وذاكرتنا، وأماكننا، والشخصي لنا فيها، ذاك الذي بات حقًا منتزعًا لأشكال السلطة الواقعة على المدينة ومنها وفيها.

أتذكر يوم عدت إلى يافا (مدينتي كما هي القاهرة)، كان النقصان حاضرًا شديد الوطأة، يافا كانت ملونة في حين أن يافا التي أعرفها (وأُخرجت منها في حياة سابقة) كانت محكومة بلونين؛ الأبيض والأسود، ثمة هوية لونيّة كانت تتلبسني حينها، آلمني نقصانها؛ غيابها. في القاهرة حين عدت لم أجد بقية حكاياتي وذاكرتي، وليس فقط "الشخصي" مني، فقد التهمها النقصان، وأعاد إنتاج المدينة/المكان/النصّ من جديد بمعزلٍ عني، وإن كان ما هو شخصي مني فيها باديًا وواضحًا، لكن ثمة شيء ما ينقصه، لعلني أنا أنقصه، كنياشين وأوسمة على صدر جنرال مذبحة، ينقصها ضحاياها. حينها تفككت لحمة المكان من جديد، وفقدتُ القدرة على التسميّة، أمام فوهات تسمياتٍ أخرى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.