}

عبد الله العروي: في "معيار" الحداثة وتلازم الفلكلور والتخلّف التاريخي(1/2)

يحيى بن الوليد 1 أبريل 2018
اجتماع عبد الله العروي:
في "معيار" الحداثة وتلازم الفلكلور والتخلّف التاريخي(1/2)
عبد الله العروي
 

عبد الله العروي علامة على توجّه فكري، بين تيارات الفكر العربي، من خلال كتبه "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" (1967) و"العرب والفكر التاريخي" (1973) و"ثقافتنا في ضوء التاريخ" (1983) و"مفهوم العقل" (1996)... التي تجاوزت تواريخ نشرها لتظل مراجع أساسية في سياقات التعاطي لجملة من المواضيع المحدّدة والحارقة التي تمسّ أبنية الفكر العربي المعاصر وفي مقدّمتها "أولوية الثقافة" ضمن مطلب الحداثة. ومن هذه الناحية فهو مرجع أساس، ومن هذه الناحية أيضا فمحاورته تفيد على مستوى توسيع دوائر الفكر العربي المعاصر في "ثابته ومتحوّله".

وفي هذا المنظور، وفي إطار من موضوع "الثقافة الشعبية" الذي نعنى به في هذا المقال، لا يبدو غريبا أن يتمّ استحضار اسم عبد الله العروي في الملف الهام واللافت الذي خصّصته مجلة "فصول" (القاهرية) (المختصّة في النقد الأدبي) (العدد: 60/ صيف ــ خريف 2002) لموضوع الثقافة الشعبية تحت عنوان "الثقافة الشعبية والحداثة". وحصل ذلك من منطلق ــ وتبعا لورقة التمهيد ــ كون "الحداثة مشروعا غير مكتمل" وبما للثقافة الشعبية من أدوار على مستوى الإسهام في المشروع... خاصة وأن هذه الثقافة عادة ما "تطرح نقيضا للحداثة وبديلا لها أحيانا" و"باعتبارها مستودعا أثريا لكم هائل من المعتقدات والموروثات والأشكال المادية والخبرات المختزلة، على نحو يجعلها مكونا ثابتا للجماعة وإطارا لها، مجردا عن فعل التاريخ ومفارقا لتغيراته". إضافة إلى أن الحداثة عادة ما تطرح باعتبارها "عملا نخبويا". ومن منظور التمهيد دائما، فالعلاقة بين الحداثة والثقافة الشعبية واردة وقائمة؛ ومن ثمّ "التساؤل" حول "كيف صيغت في التجربة العربية، والممارسة العملية، العلاقة بين الحداثة والثقافة الشعبية؟". 

وفي هذا السياق، الذي هو سياق ثقافة النخبة و"الأقلّية المبدعة"، تمّت الإشارة وفي أكثر من موضع، وبخاصة من قبل معدّة الملف الناقدة هدى وصفي، إلى "ما أثاره العروي حول الثقافة الشعبية وكيف أنها الطبق الميت الذي يقدّم للغرب" (ص139). إضافة إلى التلميح إلى ما يستخلص من "شبه تحقير" من قبل العروي لهذه الثقافة.

وكان من المفهوم أن تتمّ الإحالة على العروي بالنظر لارتكازه ــ الحدّي ــ على الحداثة في مقابل "التقليدانية" (Traditionalisme) (تبعا للمصطلح الجامع الذي يعتمده)، ما نجم عنه من إقصاء ــ ملحوظ ــ للأنثروبولوجيا الثقافية. فلا مجال لجميع الأسئلة ذات الصلة بما هو شعبي وإثني وشفوي... والقبيلة والمعتقدات والصور والتمثلات الرمزية... إلخ. ولقد بدا موقفه الرافض للأنثروبولوجيا بدءا من مقدمة كتابه (الإشكالي وغير المسبوق في الفكر العربي المعاصر) "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" (1967) الذي كرّس اسمه في العالم العربي. وهو الكتاب الذي صاغ فيه، وضمن ما صاغه من أفكار وتصوّرات، موقفه (الجرّيء) من الفلكلور. فالمقاربة الاثنوغرافية مقاربة "خارجية" ولا تقارن بالمقاربة التاريخية التي تقول بالتقدّم والتطوّر وتنتصر للمكتوب وتنادي بوعي نقدي وتضع نصب عينيها بناء مستقبل. فهذه الأخيرة هي الأنسب لدراسة مجتمع خرج من الاستعمار... أو هكذا لخص بعض الباحثين موقف العروي. 

ويلفت العروي الانتباه إلى أن الباحثين الفرنسيين ــ كما في حال المغرب ــ درسوا (والتوصيف له) "بإسهاب الثقافة الشعبية [الفلكلور]"، لكن بهدف محدّد يلخصه في ادعائهم بأنها "وحدها تمثّل ثقافة الشعب الأمّي وما سواها فهو دخيل لا جذور له في المجتمع" في إشارة إلى "الثقافة العربية المكتوبة". والمفارق كما يواصل: "ما أكثر الدراسات الاثنوغرافية التي لم يكن لها داع سوى تضخيم عوامل التناثر والتشتّت" (عبد الله العروي يسائل نفسه/ مجلة "زمان": العدد: 26 دجنبر 2015، ص47).

وفي الفصل الرابع "العرب والتعبير عن الذات" من "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" صاغ العروي موقفه التحليلي والصارم من الفلكلور بعد أن ربطه بثقل الخصوصية أو الثقافة المحلية، وفي المنظور ذاته الذي ينأى بالثقافة الأخيرة عن التطلّع صوب مكاسب "العقل الكوني" ومنطق "الثقافة الكونية". ومن ثمّ التخلّف (التاريخي) الذي يعمل هذا الفلكلور على تكريسه في بنيان المجتمع. يقول في "الإيديولوجيا العربية المعاصرة": "كل عمل فلكلوري، أكان موسيقيا أو تشكيليا أو أدبيا، إنما يرث عن المجتمع الذي يظهر فيه صفة التخلف، بل يمكن القول إنه يستمد منها ما يلصق به من قيمه" (ص208).

ومن وجهة نظر تاريخية فعبد الله العروي لا يميّز بين ما هو "فلكلوري" وما هو "تعبيري" (الإيديولوجيا؟) فقط، وإنما يجعل الفلكلور خارج "قارة التاريخ" أيضا. وإذا ما لم نعدم من صلة للفلكلور بالتاريخ، فهي صلة بـ"ما تحت التاريخ" وليس بـ"مفهوم التاريخ" الذي كرّس له عبد الله العروي كتابا هاما صدر تحت العنوان نفسه (في جزأين) العام 1992. و"مفهوم التاريخ"، من منظوره، لا علاقة له بـ"ما فوق التاريخ" و"ما تحت التاريخ". وكما أن المؤرخ "يقطع" بصرامة مع ما نعته العروي (ساخرا)، في مصنفه "مجمل تاريخ المغرب"، بـ"المستودع البشري" الذي ينكبّ على دراسته الأنثروبولوجي (ص592).

وربما توجّبت الإشارة إلى أن أغلب الأفكار السابقة تعنى بالمغرب أكثر وسواء في الفضاء المغاربي أو العالم العربي بصفة عامة. وكما أن كتاب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" ــ ورغم عنوانه العربي ــ مكتوب من زاوية نظر مغربية فحسب، وليس من منظور عربي عام، لكن تمّ تلقيه باعتباره نقدا للإيديولوجيا العربية السائدة التي أدّت إلى الحرب العربية ــ الإسرائيلية التي صدر الكتاب قبلها بأسبوعين كما قال عبد الله العروي نفسه في نص الحوار الذي أجرته معه الباحثة المؤرّخة نانسي جلاجير (Nancy Gallagher) تحت عنوان "حياة عبد الله العروي وأزمنته" (مجلة "يتفكرون": العدد السابع 2015) (ترجمة: الحسين سحبان).

ومن منظور اختصاصه ــ المتين ــ في البحث التاريخي خصّ عبد الله العروي بلده المغرب بكتاب تحليلي نقدي (بالفرنسية أيضا) موسوم بـ"الجذور الاجتماعية والثقافية للحركة الوطنية بالمغرب (1830 ــ 1912)" (1977). وأهمية الكتاب، وعلاوة على منهجه الموضوعي والمغاير في كتابة التاريخ وبخاصة مقارنة مع أعمال المستشرقين والسوسوسيولوجيا الكولونيالية، نابعةٌ من تشديده على الطابع الاجتماعي والثقافي للحركة الوطنية. ومعنى ذلك أن الحركة الوطنية هي حركة اجتماعية وثقافية أيضا حتى لا يتمّ حصرها في طابع سياسي إصلاحي فقط. يقول العروي في "هكذا تكلم العروي": "إن هدفي كان هو فهم المجتمع المغربي عن طريق تحليل مظهر من مظاهره إنتاجه الإيديولوجي الذي هو الحركة الوطنية"(ص7). والطابع السوسيولوجي، هنا، مهم ومفيد. وربما في هذا السياق فهمنا قوله في كتابه "مفهوم التاريخ": "نمت الاجتماعيات [السوسيولوجيا] في أحضان علوم التاريخ ثم استقلت عنها ثم عادت لتؤثّر فيها" (ص21).

ومفهوم "النسق" من المفاهيم التي حرّكت آلة عبد الله العروي التاريخية التحليلية في كتابه المذكور، وذلك من خلال ما أسماه بـ"النسق المغربي" الذي يتأكّـد من خلال اللباس والتغذية ونمط السكن واللغة والتواصل والتبادل والهجرات... إلخ. فهو يحذّر من أي تعريف مجرّد للحركة الوطنية، وقبل ذلك فأيّ تعريف من هذا النوع "لا يفيد كثيرا لفهم حالة خاصّة كالوطنية المغربية" (مجلة "زمان"، ص48).

والنسق، أو الأنساق (بصيغة الجمع)، مفهوم قاعدي في النقد الثقافي، لكن دون أن يفيد ذلك إقحام العروي في هذا النقد المحكوم بمقولات وتصوّرات مغايرة. وكما أن النسق مفهوم "تشييدي" ولا داعي للنقد بدليل أنه مفهوم تأويلي خصوصا وأن العروي شديد التركيز على التأويل (التاريخي). يقول في كتابه Esquisses historiques: "ما يجمع بين المؤرّخين هو القراءة؛  وما يفرّق بينهم هو التأويل"(ص15).

والمسألة، في النظر الأخير، وعلى طريق التركيز على الثقافة بغية فك شيفرات الهيمنة التي تمارسها على المجموعات أو داخل المجتمعات، هي مسألة "نسق". وما يهمّ تيار النقد الثقافي، الذي أفاد من تنظيرات مدرسة فرانكفورت بصفة خاصة، هو الكشف عن الطريقة التي يهيمن بها النسق: أي الطريقة التي يجبر فيها النسق الناس ويستغلهم ويخدعهم من أجل ضمان تجدّده واستمراره. وهو ما يتبدى في أكثر من مجال من المجالات وضمنها مجال الأسلوب الذي يوفّر للثقافة الشعبية دمج الناس بالنظام... كما يشرح إيَان كريب (Ian Craib) في كتابه "النظرية الاجتماعية" (ص315).  

المسألة مسألة نسق أو مسألة تصوّر نسقي، ولذلك وجدنا العروي يحافظ على الموقف النقدي ذاته في التعامل مع الفلكلور في مجالات أخرى. فهو لا يحصره في مجال التعبير فقط، وإنما يربطه بمجالات السلوك الاجتماعي والتواصل السياسي. وهو ما يمكن الاطلاع عليه من خلال مؤلفه "المغرب والحسن الثاني" (2005) الذي يعرض فيه لتقبيل اليد والبيعة والولاء والطاعة والكسكس واللباس المخزني... وهي أشكال ورموز وطقوس تمّت "مأسستها" منذ بداية الستينيات من القرن المنصرم وفي دلالة على مغرب قائم بذاته هو "المغرب الفلكلوري" كما ينعته العروي. وهو المغرب الذي اعتمده الراحل الحسن الثاني في هندسة وتثبيت وتكريس حكمه. 

ولا يبدو غريبا أن يسهم السياق المجتمعي في التقليد الذي بموجبه بدا المغرب أكثر تقليدانية مقارنه مع الأعوام الأولى من الاستقلال، والأهم معرفة مجمل الشروط التي ارتقت بالتقليد إلى مستوى "المنعطف التقليدي". يقول العروي  في حوار معه معنون بـ"نظرة مؤرخ للمغرب في عهد الحسن الثاني": "الذي يجب معرفته هو كيف يبنى التقليد. يتم تعريف التقليد، عامة، على أساس أفكار، لكن الجوهري، هو المعيش، الموقف اليومي. الجميع يساهم في التقليد في مجتمع مثل المغرب" (جريدة "الاتحاد الاشتراكي": الأربعاء 13 أكتوبر 2009). ومن أبجديات "حفريات المعرفة"، لكي يحصل تغيير لا بد من شروط. والشرط كامن في نوع محدّد من الثقافة وفي إطار من خطاطة "الثقافة والمجتمع" أو خطاطة "التمييز بين التقليد كبنية والتقليد كإيديولوجيا" على نحو ما يستخلصها الباحث المؤرخ عبد الأحد السبتي ــ في سياق مناقشته للعروي ــ في كتابه "الذاكرة والتاريخ ــ أوراش في تاريخ المغرب" (ص80).

وقد عاد العروي لمناقشة الموضوع نفسه من خلال كتابه "الحركة الوطنية" (Le Nationalisme marocain) (2016). وفكرته أن الحركة الوطنية لم تتوقّف مع خروج الاستعمار، بل ظلت مرتبطة بالماضي والمستقبل في آن واحد؛ ما جعلها تفرض ذاتها منذ الأعوام الأولى من الاستقلال. وكان أكبر تحوّل عرفته، وغيّر مجراها التاريخي العام، عندما خلف الملك الحسن الثاني والده في الحكم في فبراير 1961. وكانت الملكية، إلى حدود هذا التاريخ، هدفا لتيارين إيديولوجيين لا يخفيان "عداءهما" للملكية وللملك. التيار الأوّل هو تيار الوحدة العربية، والتيار الثاني هو تيار معاداة الإمبريالية. ولكي يفشلهما الملك الشاب نادى على قوّتين كانتا تظهران في المرحلة غير ممتلكتين للسرعة المطلوبة من أجل مجاراة الأحداث والمرحلة ككل. وكانت القوة الأولى ذات صلة بالخصوصية الأمازيغية، وأما القوة الثانية فذات صلة بالإسلام الشعبي. ومن ثمّ كانت "فرملة الحركة الوطنية".

ومن الجلي، هنا، أن الثقافة الشعبية، وبدلا من أن تسهم في "المقاومة النسقية"، تحوّلت إلى "حزب جديد" داعم لـ"القبضة الفولاذية" للدولة المخزنية والذكورية... على المجتمع. وهو ما يعيد أفكار أنطونيو غرامشي حول "الهيمنة الثقافية" أو "الهيجيمونيا" (في ترجمة البعض) بدافع تحقيق الإخضاع وفرض الإجماع وتعطيل الثورات الاجتماعية.

في هذا السياق أمكننا فهم موقف العروي الصارم من الفلكلور بالنظر لأدواره على مستوى إحداث تحويل في مجرى التاريخ. وذلك كلّه في المنظور الذي أفضى به إلى الحديث عن "الفلكلور الممقوت" تبعا للتوصيف الذي استخدمه في كتابه "استبانة" (بالعربية) الذي صدر في العام نفسه الذي صدر فيه الكتاب السابق.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.