}

الهوية والموقع الاستكشافي: رحلة أندري شوفريون إلى المغرب

محمد العناز 1 مارس 2018
أمكنة الهوية والموقع الاستكشافي: رحلة أندري شوفريون إلى المغرب
لوحة للفنان المغربي فريد بلكاهية

آثرت في مدخل هذه الدراسة أن يكون متصلا بالهوية المطابقة التي يحددها بول ريكور في الخصائص التي تخص الشخص في أثناء موضع حديثنا ولا تعني أحدا آخر؛ بحيث يصير الآخر مقصيا مقابل الذات المطابقة لنفسها والمحددة لها من خلال صفات ثابتة لا تتغير مع الزمن بوصفها مرجعية تستند إليها هوية الشخص؛ بحيث تظل الإجابة عن سؤال "من هو؟" ولا تتغير؛ وتعني الشخص نفسه في كل لحظة، وفي كل زمن. إنه الشخص أو الفرد نفسه بسماته الثابتة وذاته المتحققة ماديا في الوجود، لذا اقترح ريكور "تعيين الهوية" بوصفها تفريدا يحيل إلى الفرد ولا يعني الفرد؛ بل يعني السمات المحددة للفرد وعزله من بين أفراد آخرين بوصفه كيانا حقيقيا وواقعيا ونسخة لا تتكرر، نسخة تطابق نفسها وليس غيرها، فهو الفرد عينه الذي يشار إليه بالمحددات عينها في كل الظروف وفي كل الأزمنة، حيث تلعب المحددات أو الأدوات المرجعية المحددة للهوية دورا أساسا في تعيين هوية الفرد وتثبيتها؛ ومن أبرزها أسماء العلم، فتسمية الشخص بوصفه "خاصا أساسيا" يمتلك وعيا وجسدا مستقلا يجسد وجوده في العالم ويميز بينه وبين الشيء، تمنحه اسما يطبعه بطابع هوياتي لا يفارقه، ويميزه عن بقية الخواص الأخرى من نمطه، وانطلاقا من الاسم يتحدد الفاعل الممارس للأفعال وللخطاب إن كان أنا أو أنت أو هو باعتبارها ضمائر منفصلة تشير إلى الفاعل بخصائصه الجسدية والنفسية اللصيقة به داخل إطار فضائي- زماني محدد، وهنا تلعب أزمنة الفعل وظروف المكان والزمان دورها في تحديد الإطار الفضائي- الزماني،  لكن الاسم لا يكفي لتعيين الفرد من ضمن أفراد آخرين مادام نفس الاسم قد يحمله أكثر من شخص، وتبعا لذلك يضاف إلى الاسم محددات أخرى تكون أكثر دقة في تعيين الهوية كمكان وتاريخ الولادة، عنوان الإقامة، الانتماء العائلي والعرقي، ومنح صفات تعريفية يتصف بها الفرد،  قد تتعلق بصفات جسده مثل فصيلته الدموية، لون بشرته، أو صفات تبرز مهاراته وقدراته العقلية والجسدية وأفعاله الخاصة به التي تميزه عن غيره أو ما سماه ريكور "بالوصف المعرف". 
بهذا المعنى يتم تحديد الهوية العينية أو الهوية المتطابقة للذات استنادا إلى أدوات مرجعية ثابتة في الزمن، ومادمنا نحدد هوية الذات فنحن أمام كيان ينمو ويؤسس نفسه ويربط علاقات مع كيانات أخرى، من هذا المنظور المتحرك والمتحول للذات في الزمن كيف تحدد الهوية الذاتية المتحولة بوصفها مقابلا للهوية العينية الثابتة؟

وتتحدد هذه الهوية المطابقة كذلك في أنماط السرد العريق، والتي قد تتجاوزها إلى بعض الأجناس الخطابية كالرحلة من خلال علاقتها بالموقع الاستكشافي؛ حيث تكون العلاقة بالحقيقة التي يقدمها السرد مؤسسة على التعرف إلى الآخر، فمن جهة تعمل الهوية المطابقة على الانطلاق في فهم العالم من الحقيقة المتعالية التي تبنيها الجماعة حول نفسها، وحول العالم. ومن جهة أخرى يستكشف السرد حقيقة الآخر في الرحلة انطلاقا من تحصن السارد داخل موقع مؤسس بتلك الحقيقة المتعالية. وهكذا تكون هذه الحقيقة مؤسسة على ثنائية الأنا والغير، والتي تنقسم إلى ثنائيات فرعية مثل: المتحضر البربري الأليف الغريب والأعلى والأسفل السامي المنحط المقدس المدنس، وفي القسم التطبيقي سأعمل على اختبار هذا الفرش النظري ومعرفة مدى ملاءمته للنص أم لا.

1ـــ الرحلة وإشكال الهوية.

هل يمكن أن تكون الهوية في جنس الرحلة الأدبي مختلفة عنها في الأنواع السردية الأدبية الأخرى؟ وكيف تنقل عبر الموقع الاستكشافي؟ يتطلب هذا السؤال تحديد المفاهيم التي سنشتغل عليها في هذه الدراسة، وهي ثلاثة: الرحلة، والهوية، والموقع الاستكشافي. ولن نفصل في هذه الدراسة بين المفهوم والبحث عن تجلياته في النص الرحلوي لأندري شوفريون الذي قام بترجمته فريد الزاهي.

تنبني هذه الرحلة على الحكاية البسيطة التي لا تتضمن تحولا، وعلى بداية لها شكل الافتتاح، والتي تتميز بمغادرة مكان معين والاتجاه نحو مكان آخر؛ فالرحالة أندري شوفريون ينتقل من أوربا، وإن كان هذا المكان لا يذكر بالاسم مباشرة، فهو يستنتج من المتن، ومن ركوب البحر على متن سفينة (ص5)، ويتجه إلى طنجة. كما تتميز الحبكة البسيطة بوسط يتصف بكونه مُكُوثًا في المكان المُنْتَقَلِ إليه وهو بلاد المغرب. ويتمثل هذا المكوث المشكل لوسط الحبكة في الانتقال عبر أمكنة مختلفة (العرائش-القصر الكبير- مكناس- فاس)، وتنتهي الحبكة البسيطة بنهاية تعبر عن انتهاء الرحلة بذكر العودة إلى جبل طارق، والمقارنة بين حضارتين مختلفتين إحداهما صاخبة وأخرى ميتة صامتة "أفكر أني بعد ستة أيام سأكون بجبل طارق [..] يا له من مختصر للإنسانية بكاملها خارج طبيعة أوربا! ويا لها من عودة للحلم الشيطاني الذي صنعناه لأنفسنا، والذي يثير هلوستنا، ويمسك بنا من العنق، ويحركنا بشكل جنوني، هذا الحلم بحضارة مغايرة، غير أنها من الطبيعة نفسها التي يصدر عنها جمود حضارة الإسلام وصمتها! وحينها، وغالبا فيما بعد، في حمأة مدننا وصخبها، تعودني ذكرى الراعي المتكئ على الصخرة ينطلق بالغناء من جراء جمال الأطلال والأصيل" (ص177). إن هذا الاستشهاد يعتبر دالا على انتهاء الحبكة، غير أنه يدل أكثر على الهوية السردية؛ وهذه الأخيرة لا تنفصل عن الحبكة التي تميز الرحلة؛ ذلك أنها ليست سوى ترجمة للمقارنة بين ذات الرحالة (الأنا) والغير الذي يمثله الإنسان المغربي؛ فالحكبة تسرد حركة في المكان، والزمان، والثقافة، وبالتالي تسرد الانطباعات التي يكونها السارد خلال انتقاله عبر الأمكنة انطلاقا من منظور سابق حول الغير (المغربي)، ورغبة غير صريحة في اختبار هذا المنظور. هكذا تكون الهوية نتيجة حبكة وحركة في المكان، وتكاد تكون بمثابة تنظيم زماني للحظات تكون انطباعات الأنا حول ما تشاهده وتسمعه في مكان الرحلة؛ فبول ريكور يميز الحبكة على مستوى صياغة الهوية انطلاقا من عبارات دينامية تجعل الأنا "تنافس بين مطلب توافق، والتسليم بوجود تنافرات تعرض الهوية للخطر، وذلك حتى نهاية القصة"؛ ومن ثمة يمكن عد الهوية بمثابة صيرورة متحركة، لكنها لا تكون كذلك إلا قياسا إلى نقطة استناد يرجع إليها في تعرف الذات إلى نفسها، وتسمح لها بأن تكون هي، هي" كما يذهب إلى ذلك الباحث عبد الرحيم جيران.

ويقصد بالتنافر تقلبات الزمان والحظ بما يجعل الحبكة تتغير بشكل مضبوط انطلاقا من وضع أولي وصولا إلى وضع نهائي"، ومن خصائص الهوية أيضا-وهي تنشأ عن الحبكة- أنها تقوم على المقارنة المستمرة التي لا تنفصل عن أحكام القيمة التي تؤثث ثقافة الرحالة" بل إن الناس هنا يجهلون عدد سكان فاس: هل يبلغون مائة ألف نسمة أم ثلاث مائة ألف؟ لقد صُرِّح لي بالرقمين، إذ لا وجود لإحصاء أو كنانيش للحالة المدنية. "لا ندري" هكذا يجيب المخزن عن هذه القضايا التي تعتبر اليوم جوهرية له. يولد الناس ويموتون في أزقة المدينة القديمة من غير أن توليهم السلطات أي اهتمام يذكر، ومن غير أن يعرف المجتمع بوثيقة محرّرة رسميا دخول أحدهم لمدينة أو رحيله عنها. وبالشكل نفسه، لا وجود ثمة لسجل المحافظة العقارية، ولا لسجل تقويم الضرائب؛ فالضريبة تجبى من قِبل فلاحين ينهبون من كل حي ما استطاعوا مرة كثيرا ومرة قليلا. أما صرف المياه فيوجد هكذا من غير خطة وتبعا للحاجة الملحة وبمساعدة الكلاب ونظام الميازيب والبالوعات يعود لتأسيس المدينة، ومن غير أن يعرف أحد كيف يشتغل على وجه التقريب" (ص98). يتضح من هذا المقطع السردي اشتغال مفهوم الهوية انطلاقا من آلية المقارنة، وإذ كانت هذه الآلية مضمرة تستشف من خلال النص. وتقوم هذه الآلية في إظهارها للهوية السردية على التضاد بين هويتين: هوية ذات الرحالة (الأنا)، وهوية الغير (المغربي)، وتتأسس هذه الهوية على المسافة بينهما؛ ويتمثل مضمون هذه المسافة في التضاد بين النظام والفوضى؛ أي بين عالم منظم، وعالم غير منظم تسوده علامات الفوضى. وبالتالي فهوية الغير منظور إليها من خلال هوية ذات الرحالة أو يتم قياسها عليها بما يفيد هذا القياس من حكم قيمة يتمثل في التضاد بين الإيجابي والسلبي؛ أي بين هوية إيجابية وهوية سلبية. لكن الهوية هنا هي مسندة إلى المكان الذي له صبغة اجتماعية واقتصادية، وبالتالي ليس التقابل بين هوية الذات والغير إلا تقابلا بين منظور الدولة الحديثة، ومنظور الدولة التقليدية المخزنية؛ فهذا التقابل يقتضي حوارية تحيل بطبيعتها إلى التعدد بوصفه فهما لتشكل علاقة الذات بالآخرين انطلاقا من بعد لصيق بتحققه الزماني والمكاني. ويستتبع فهم الذاتية هنا-حسب الباحث محمد الحيرش- بما هو مجال الأفعال والممارسات كفعالية وسيرورة إنتاجية خاضعتين لمستلزمات حركة التاريخ. ومن أهم ما يمكن الوقوف عنده في هذه المقارنة هو ذكر الإحصاء والضرائب؛ فهما معا يرتبطان بالعلم، وأهميته في تنظيم المجتمع. وهكذا تصبح المقارنة بين هوية مؤسسة على العلم وشروطه، وبين هوية غارقة في الجمع.

 

 

 

هكذا نستنتج أن السارد في هذه الرِّحْلِة، والذي هو شخصية أندري شوفريون الواقعية غالبا ما كان ينقل انطباعاته التي ارتسمت في ذهنه حول الأمكنة التي مر بها وأهلها؛ وغالبا ما كانت هذه الانطباعات تُبْنَى انطلاقا من ثنائية (المألوف/ الغريب) من خلال مقارنة بين أوربا والمغرب. وهذه المقارنة تكون أحيانا ضمنية غير مباشرة كما رأينا في النص السابق المستشهد به. وعلينا أن ندرك أن المقارنة تامة بين أندري الذي يمثل أوربا إلى جانب المقارنة الدالة على الهوية المتضادة نجد ما يدل على هذه الأخيرة في وصف علاقة الذات بالمكان التامة من خلال ذكر الصعوبات والمشاق التي عانت منها في السفر، وقد حددت هذه المشاق في: الإقامة في الخيام، والسفر عبر الدواب، والمشي المضني في الشمس. وتظهر الغاية من إيلاء أهمية قصوى لوصف المعاناة في أثناء السفر في كونه (السفر) يشير إلى الهوية بطريقة ضمنية؛ إذ يدل انعدام وسائل الراحة على مكان قاس، غير ملائم لثقافة الأنا ومنظورها للسفر؛ وهو منظور مؤسس على ما يزخر به المكان الأوربي من وسائل تساعد المسافر على عدم المعاناة؛ ويدل وصف المكان بالقسوة على الحال به؛ أي الغير الذي هو المغربي مما يعني أنه يتصف بالقدرة على التحمل والصبر والمكابدة. ويبرز هنا التضاد بين نمطين من الحياة: النمط المريح، والنمط الشاق؛ وهما نمطان يعكسان هويتين مختلفتين: هوية المديني الذي أَلف نمط العيش المرفه، وهوية البدوي الذي ألف نمط العيش القاسي "كانت الشمس في قبة السماء حين وصلنا إلى محطِّ رحالنا. ومنذ ثلاث أو أربع ساعات ظلت حارقة رغم الحُجب التي وضعناها على رؤوسنا. قرب دوار صغير هناك حقل، وهضبة صغيرة من العشب مخصصة منذ زمن طويل للمسافرين. هناك، علينا إقامة خيامنا تحت حماية الدّوار. قطع الرجال كوم الشوك (التي لا تزعج غير الأوربيين) وأزاحوا الأحجار الكبرى. وفي الحال كان المخيم قد صار جاهزا؛ فقد مر الأمر بشكل أسرع من مشاغل الرحيل. تناولنا الغداء ثم قضينا العشية الطويلة تحت الخيمة حيث تتركز الحرارة وتتهادى الرياح" (ص41). نجد في هذا المقطع عنصرين دالين على الهوية من خلال المكان: عنصر الحرارة الحارقة، وعنصر الشوك؛ ودلالتهما على الهوية تتمثل في التضاد بين القدرة على التحمل وعدمها. ويبرز هذا التضاد من خلال عبارة "غير الأوربيين" التي تحمل في طياتها تقابلا بين هوية الأوربي وغيره في علاقته بالمكان؛ حيث الشوك لا يزعج الأهالي بينما يزعج الأوربيين؛ فالآخر يرى نفسه "عنصر تفوق ثقافي/ عرقي، ولذا كان الوعي الغربي هو الذي يصوغ كل موضوع يتعلق بالشرق" كما يذهب إلى ذلك عبد الله إبراهيم انطلاقا من جعل الأنا تمثل الذات الواعية بوصفها "جوهرا ثابتا ومحل الأعراض المختلفة، أو باعتبارها "مجموعة الحالات النفسية المتغيرة والمتصلة معا".

2- الرحلة والهوية والموقع الاستكشافي:

يقصد بالموقع الاستكشافي ما يحمله اسمه من دلالة؛ فهو قائم على استكشاف الواقع، وذلك من خلال رصده، والبحث فيه عن عناصر جديدة تغني رؤية الذات الساردة إليه ومعرفتها أيضا. فكيف تحكم هذا الموقع في بناء السرد في "رحلة إلى المغرب"؟

أول شيء نقف عنده في هذا التحكم هو أن هذا الموقع يقوم على وحدة السارد الذي هو أندري شوفريون-كما يحدده عبد الرحيم جيران- وجل الأحداث تنقل عبره، ولا يسند نقلها إلى غيره كما هو الحال بالنسبة إلى جميع النصوص السردية التي تعنى بالرحلة؛ وهذه الوحدة تقوم على وحدة الفكر في علاقته بالواقع؛ حيث يكون السارد وهو ينقل العالم منطلقا من فكرة حوله، ويحاول أن يختبرها فيه بالبحث عنها في تفاصيلها؛ فالرحالة يكون عنده أفكار حول المكان الذي يرتحل إليه؛ وهذه الأفكار تؤثر في رؤيته إليه. كما أنه يحاول أن يتأكد من صحتها عبر البحث الذي يقوم على الوصف. وهكذا تتخذ الأفكار في "رحلة إلى المغرب" مجالا للسرد من طريق تجسيمها بوساطة الحبكة؛ وتتعلق الفكرة التي يختبرها الرحالة عبر هذه الحبكة بهويته الدالة على هوية جماعية متعلقة بالإنسان الأوربي بعامة، ومفاد هذه الفكرة يتمثل في تفوق الأوربي على الغير الماثل في الإنسان المغربي، بما يفيده من حكم قيمة تتعلق بتحقيره والحط من شأنه كما هو الأمر بالنسبة إلى العلاقات التي قام بها مع شخصيات التقى بها كقائد القافلة، والخدم، وبعض المسافرين، والقنصل الفرنسي، وأمير المؤمنين.. فالحكاية لا تشكل وحدها أهمية بالغة في هذه الرحلة، بل أيضا الطريقة التي كتبت بها. غير أن الفكرة هي مسبقة وعامة ويأتي السرد ليختبر وجودها ويعطيها التفاصيل الدقيقة لتصير مجسمة ومخصصة. والفكرة تتسم أيضا بكونها مكونة انطلاقا من رؤية ثقافية وأخلاقية تتحكم في عملية البحث عنها في الواقع. ويتضح هذا الإشكال من خلال المقطع الذي يتحدث فيه الرحالة عن الجنس، ويورد فيه قصة الصوفي:" كان سيدي فضول خديما ومريدا لسيدي الحاج العربي شريف وازن منذ ثلاثين سنة. وحين كان الشريف يوما في مدينة تطوان، حيث يعيش حياة البذخ والترف، وبعد أن نفد ما كان يملكه من مال، أبصر في سوق النخاسة زنجية أعجب بمنظرها وتاقت نفسه إليها فرغب في شرائها. فأسرَّ لخديمه فضّول بحرجه فأنا فأجابه هذا الأخير"بِعني أـنا إذن" وبعد تردُّد وحيرة، أجابه الشريف إلى طلبه، وبيع المريد فضّول بمقدار هام مكَّن الشريف من الحصول على الزنجية. إن هذا التقديس الكبير للولي الصالح، وهذا الاهتمام الصادق بهموم بدنه، هي فضائل تجعل المريد ندًّا للولي. لهذا نعت الناس فضّول بـ"المربوط"، وصار الناس يلتمسون بركته في الأزقة والشوارع. إنها علامة يتعذّر تفنيدها للتوحّد بالخالق، وبامتلاك قدرات خارقة تمكنه من ارتياد جنان الله مع الصالحين. فصار الرجل مجنونا، وجثمانه لا يزال لحدّ اليوم مرتعا للكرامات في القبَّة البيضاء لضريحه بالقصر الكبير، التي يسهر أهلها بتفانٍ على تقديسه وصيانته" (ص109). بعد أن تحدث الرحالة عن العلاقات الجنسية في المغرب، وعن عشق الأغنياء للزنجيات يورد هذه القصة ليؤكد الهوية الغيرية كما كان يتصورها، وبالاطلاع على ما سبق على هذه القصة نكتشف أن الرحالة أتى إلى المغرب وفي ذهنه فكرة عامة حول الجنس في الإسلام، لكن الواقع الذي رصده جعله يخصص هذه الفكرة، ويجسمها بطريقة يريد من خلالها إبراز التناقض بين ما يأمر به الدين والواقع. هذا فضلا عن الطابع الساخر الذي يميز اشتغال الموقع الاستكشافي. وما تظهره هذه القصة هو كون الموقع الاستكشافي يتأسس على الكشف عما هو غريب وغير مألوف ومخالف للأنا وثقافتها؛ وكأن السارد يحاول أن يجد لألف ليلة وليلة امتدادا للواقع الذي ينقله؛ حيث نلاحظ في أثناء قراءتنا الصفحات التي يخصصها للجنس وكأننا نقرأ بعض الحكايات الواردة في ألف ليلة وليلة والتي تحكي عن العلاقات الجنسية وبخاصة هنا تلك التي تتعلق بالأغنياء والخيانات الزوجية، والنساء العجائز اللواتي يسهلن هذه الخيانة. 

ويتميز الموقع الاستكشافي في "رحلة إلى المغرب" بكون السارد ينطلق من عدم وضوح العالم الذي يرتحل إليه (المغرب) والسعي إلى فهمه؛ حيث تصير الرحلة كلها شكلا سرديا يتوخى تكوين معرفة صحيحة حول ما كان مجرد علامة استفهام، لكن الفهم هنا لا يعني فراغ ذهن السارد من رؤية حول ما يريد فهمه، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا. وإنما يعني الفهم الملموس الذي يسعى إلى رصد الواقع كما هو عبر استخدام حاستي البصر والسمع؛ إذ يهتم البصر بالتقاط التفاصيل الملموسة والحية للإنسان والأشياء والأمكنة، ويهتم السمع بنقل الحكايات والأفكار، لكن عملية السعي إلى فهم العالم تتم دائما انطلاقا من المقارنة بين الثقافة الخاصة بالرحالة، والثقافة الخاصة بالغير، ويظهر هذا جليا في مقارنته بين المدينة الأوربية والمدينة الإسلامية بالمغرب: "بيد أن العلاقة الخفية التي نخمّنها بين هؤلاء الرجال والأشياء أشدُّ عمقا من ذلك. في أوربا، تكون البنية المادية لمدينة ما على مقاس الشعب الذي يقطنها؛ فبناياتها هي عبارة عن أشخاص متمايزين. وكل واحد له عمره وأسلوبه ومظهره الجسماني الذي يجعله شخصا متفردا؛ والقدماء يختلفون عن المحدَثين، كما يختلف الباريسي في القرن الخامس عشر بعقله وصورته وملابسه عن الباريسي اليوم. ونحن نتصوَّر تتابُعا متقطّعا من العصور كان لكل واحد مظاهره الخارجية وروحه. وإذا ما نحن تأملنا الأزقة الحديثة، فإن كل منزل يحمل مع تاريخ بنائه توقيع مهندسه، ويسجل ذلك في المحافظة العقارية. وأجزاؤه المختلفة صالحة لاستعمالات خاصة كنا نجهلها البارحة. وهي قابلة للتغيير؛ بحيث يمكن أن تكبر أو تفصل أجزاؤها. وخلف أبسط عمل من هذه الأعمال الإنسانية يحس المرء بإرادة متفردَّة، سواء تعلق الأمر بالمالك أو بالباني. بالمقابل فإن مدينة من مدن الإسلام تكون مجهولة المرجع وجماعية، بحيث إنها تجمع في غشاء وحيد بال حيث يتغلف في القشرة نفسها لا تعددا أو متوالية من الحيوات الفردية، وإنما حياة واحدة. إن هذه الحياة تتابع من قرن لآخر، دائما هي هي لا تتغير، تعبر عنها الحركة نفسها، وتسيرها التيارات نفسها، ولا تتغير إلا بالاندحار التدريجي للمبدأ الذي كان في أصل تطورها. إن ذلك الغشاء يمتد في الزمن بشكل سكوني، من غير أن يسعى أي مبدأ فعال ونشيط أن يجعله يتكيف مع وظائف جديدة. إنه يتغير، لكن بذاته، من فرط الدّيمومة، عبر الفعل الخفي للقوى المحلّلة، بحيث تبدو كأحجار تتفتَّت، وتتآكل من فرط الحُزاز، وواجهات الأسوار التي تنفلُّ، وشقوقها التي يتعلق فيها العشب، وأساسها الذي يندس في الأرض شيئا فشيئا. إنها مظاهر مؤثرة للمنجزات الإنسانية، بمقدار ما تستعيدها الطبيعة إلى مجالها الخالد. حينها، فإن الشكل المرئي للمدينة يكون للشعب بمثابة وجود أزلي كما هو وجود الجبال المحيطة، مقبول سلفا كما هو حال هذا المنظر الطبيعي الذي يتلقى، عبر كل جيل يولد فيه وينغرس فيه، طابعه وشخصيته من ذلك الشكل المادي كما من الأشكال غير المرئية للديانة، ليتركها للجيل اللاحق كما تلقاها" (ص72).

لا ينقل السارد الرحالة ما يدور في ذهن الشخصية، وإنما ينقل ما يعتريه من صراع بين أشكال الفكر وهو يتعرض لضغط الواقع؛ والمقصود بهذا أن فكرة تفوق الهوية الأوربية مع الرغبة في إثباتها تتعرض إلى اختبارها من قبل الرحالة السارد في الواقع بوساطة محاولة فهم الغير، ويتأتى هذا الفهم بوساطة استعمال الوصف الذي ينصب على معيش المغربي، وحياته، وتصرفاته. لكن الرحالة السارد لا يكتفي بهذا الوصف، بل يعمل على مقارنة معطياته بمعطيات الذات بوصفها ممثلة لأوروبا المتحضرة، ويجب أن نشير إلى أن هذه المقارنة الناتجة عن الوصف لا تقف عند حدود نقل ما ترى العين أو تسمع الأذن فقط، بل تعمل على إصدار أحكام قيمة في صدد الواقع: "اللقالق هنا هي الكائنات الحية الوحيدة مقابل غفيان بني البشر وخمولهم. هذا الشعب المسكين الجامد يندثر في البؤس والتعفُّن وفقر الدم، والتطيُّر الوضيع، أي في حياة أجدبتها إدارة قاتلة، وإرادة أُعدِم فيها المجهود بالنّهب والسلب الذي يمارسه العمال والقواد، الذين لا يُنَصَّبون هناك إلا لذبح الآخرين. هذا الخمول لا تخطئه العين. والأزقة التي لا يوجد بها حتى بلاط الحجر العربي البدائي، عبارة عن دروب تتجول فيها ببطء مدهش أشكالٌ إنسانيةٌ مغلفةٌ بالعباءات. وهنا وهناك امرأةٌ أكثر تَواريا من ميّت في كفنه، ورجل ذو مشية خاطفة بلا هدف، لينتهي إلى الارتخاء في الغبار" (ص27)؛ ففي هذا المقطع يتبين أن الرحالة السارد ينقل ما يراه بالعين من خلال الكشف عن العناصر المفاجئة التي لم يكن يتوقع رؤيتها، لكنه لا يكتفي بهذا الكشف بل يصدر أحكام قيمة على ما يراه، وذلك من خلال النعوت السلبية التي يلحقها بالأشخاص وطبيعة المكان، والكشف عن الظلم الذي يلحق بالإنسان، غير أن هذه الأحكام القيمة تعتبر بمثابة شواهد ملموسة على الفكرة والرؤية العامتين المنطلق منهما. السارد الرحالة يقول في مستهل نص الرحلة" ركبنا سفينة عتيقة من مائة وخمسين طنا تُنهي هنا أيامها؛ ولأنها لم تعرف النظافة منذ زمن، فقد أصبحت سفينة عربية"(ص5)؛ فالسفينة رمز للإنسان العربي، وبالتالي فهو متصف بالاتساخ وعدم النظافة؛ فهذه فكرة تختزن حكم قيمة عاما، وتأتي الأحكام العامة التي تتخلل الرحلة فيها لتفصل فيها بطريقة ملموسة؛ وهذا ما أشار إليه إدوارد سعيد عندما وصفه بكونه "نمطاً من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة السيطرة عليه".

كما يتميز بناء الموقع الاستكشافي في هذا النص بخاصية المراوحة بين الامتعاض من هذا الغير، والإعجاب ببعض مظاهر حياته وسلوكه "في كل بلد من بلاد الإسلام، يبدو الموت هينا وأخويا، ويُقَدّم لنا في قلب طبيعة ساحرة مآثرها وصورها" (ص30)، فهذا النص يبرهن خاصية الإعجاب بإحدى خاصيات الثقافة الغيرية؛ وهو يتضمن حكم قيمة إيجابي، لكن الأمر يصير مجرد توهيم يعبر عن المراوحة التي أشرنا إليها سابقا؛ والدليل على هذا أنه يحكم على خمول الحضارة العربية من خلال من خلال الموت في نص آخر يتعرض فيه إلى ظاهرة غسل الأموات: "ثم ها هو "مغسلُ الأموات"، وهو عبارة عن حوض كبير ليق بالأسوار تدوَّرت جنباتُه من كثرة الاستعمال. هنا، ومنذ قرون لا يعرف أحد هنا عدَّها، يؤتى بالأموات لغسلهم قبل تكفينهم. وجثمانا بعد جثمان، توالت في هذا المغسل أجيال أهل فاس، وسيمر بها بلا شك أولئك الذين أراهم هناك منكمشين في وضعيتهم الفاترة، في هذه اللحظة، ويغفون من غير إغلاق أعينهم" (ص30). نستنتج من هذا النص أن الفكرة المسبقة حول الهوية الغيرية لا تظل كما هي، وإنما تتعرض إلى التغير جزئيا من دون أن تدمر كليا كما يشير إلى ذلك الباحث شعيب حليفي. لهذا تأتي طريقة اشتغال الموقع الاستكشافي من خلال تأكيد الأصل الثقافي للفكرة (التفوق) من طريق التغيير فيها فحسب؛ وهذا التغيير ناجم عن عناصر إيجابية قليلة تتمثل في الغير.

*ناقد مغربي

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.