}

مقعدٌ في العتمة: النظام الجزائري إذ يولد بقاعة سينما

ميلود يبرير 15 فبراير 2018
اجتماع مقعدٌ في العتمة: النظام الجزائري إذ يولد بقاعة سينما
أيام النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي

في نهاية الشهر السابع من سنة 1963، أي بعد عام واحد من الاستقلال، اجتمع تحت رعاية قيادة أركـــان الجيش التي كان على رأسها هواري بومــــــــدين، ثلاثمئة عضو من حزب جبهة التحرير الوطني في قاعة السينما "ماجيستيك" (قاعة "الأطلس" الآن) بحي باب الوادي في الجزائر العاصمة، ليكتبوا أوّل دستور للجزائر المستقلة. وعُرض هذا الدستور على المجلس الوطني وتمّت المصادقة عليه بعد شهر. وفي إثر هذه الفضيحة السياسية قَدّم فرحات عبّاس، الرجـــــل المتمرّس في السياسة والذي كــــــــان يرأس المجلس الوطني، استقــــالته مرددا جملته الشهيرة: "الدستور ليس بغيا كي يعهر في قاعة سينما"! وفي الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول اجتمع لمرة ثانية أعضاء جبهة التحرير الوطني في نفس القاعة ليختاروا أحمد بن بلّة مرشحا وحيدا لرئاسة الجمهوريّة، وبعدها بأربعة أيّام أصبح فعليا أوّل رئيس للجمهورية الجزائريّة.

ليس الغريب ربّما أن تكون أهمّ محطّتين في تأسيس أيّ نظام سياسي، وهما كتابة الدستور واختيار رئيس للجمهورية، قد حدثتا في الجزائر في قاعة سينما!  لكنّ الأغرب هو أنّ هذا النظــــــــام الذي وُلد في قاعة سينما، لن يبرحها أبدا!

يمكننا، إذا أردنا فهم هذا النظام، أن نتساءل مثلا عن وعي الرجال الذين كوّنوا نواته، بقراءة سيرهم الذاتية والسير التي كُتبت حولهم، غير أنّ هذه الأخيرة تبدو فقيرة وغير علمية في كثير من الأحيان، متضاربة وشعبية في بعضها الآخر، كما أنّ أيّ قراءة تحاول إخضاع تاريخ هذا النظام الطويل من التململ والأهواء الفردية والتجريبية والتردّد، لنظريات علمية ستبوء ولا شكّ بالفشل. ها هي ذي إذن مشكلة أساسية أمام تطبيقات العلوم الإنسانية والاجتماعية في بيئة لا تسير حتما وفق قوانين نعرفها أو نستطيع استخلاصها. وإلى أن نجد بدائل عن هذا النظام، من الحريّ بنا أن نجد بدائل أخرى لفهمه.

لقد استعار النظام الجزائري كلّ تقنيات السينما كي يحكم، عقب الاستقلال، تسعة ملايين من المشرّدين والمرضى والمهجّرين وضحايا الحرب، الذين كان كفاحهم أشبه بفيلم سينمائي ينتصر في نهايته ذو الحقّ الفقير والضعيف على خصمه الظّالم ذي العدّة والعتاد.

أدخل النظام إذًا التسعة ملايين جزائري إلى قاعة سينما كبيرة، لا مانع من أن يكون اسمها هذه المرة "سينما الجزائر"، وبدأ في فرض قوانين العرض:

تنبيه

"إنّ ما يحصل داخل القاعة ليس بالضرورة حقيقيا، ولكن الجمهور مطالب رغم ذلك بتصديق كل شيء والانفعال له".

العتمة

لقد حرص النظام على زرع العتمات في كلّ شيء، من تاريخ الثورة إلى أبسط تفاصيل تسيير الشأن العام، وقد يكون هذا راجع إلى ما ورثه مؤسسو الدولة الجزائرية بعد الاستقلال من كفاحهم ضدّ النظام الاستعماري الفرنسي، فلقد ورثوا تحديدا الرغبة في الخروج عن النظام والنزوع إلى العمل السري، وهذا عكس ما تتطلبه الدّولة الحديثة، وإنّه هاهنا، في نقطة الانطلاق هذه، تكمن أحد أسباب فشل الجزائر اليوم.

في مقابل هذه العتمة فرض القائمون على العرض، كما هو معمول به، مصدرا واحدا للصوت والصورة "البروباغندا الرسمية"، أُختصر المواطنون خلالها إلى مجرّد أوعية فارغة ومواضيع مستقبلة لدعاياتهم، متفرجين ممنوعين من المشاركة ومن التعبير عن آرائهم إلاّ همسا، ولأنّهم يقبعون في الجزء المظلم من الصّالة فانّهم غير مرئيين )هل تجدر الاشارة هنا إلى أنّنا لم نراكم أبدا دراسات علميّة حول هذا المجتمع وحول تاريخه، إنّه غير مرئي حتّى عبر مجهر علوم الاحصاء والعلوم الإنسانية والاجتماعية(، لهذا كان من السهل تناسيهم أو معاملتهم ككتلة واحدة، غافلين عما قد يحدث داخلها من طفرات، ولقد تغيّرت بمرور الوقت هذه الكتلة وعجزوا عن تمييزها أو التعامل معها، وبلغ تردّدهم أن حاولوا إدخال بعض العروض الكوميدية، من النّوع الذي لا معنى ولا شكل له.

إنّ العتمة والانقطاع عن العالم بالنسبة للسلطة السياسية في الجزائر هما رهان وجود بدأ يزول مع الانفتاح الذي أجبرَ الجميع على الإنضواء تحته، إلا أنّ هناك الكثيرين ممن أخذوا في الإرتطام بكل شيء والرفس واللعن جراء العمى الذي أصابهم، ذلك العمى الذي يسببه الضوء الطبيعيّ بعد أن اعتادت الأعين على عتمة السينما!

زمن العرض

بينما تراكم الجزائر تاريخا آخر بعد استقلالها يجدر تأمّله وكتابته والاستفادة من أخطائه الكثيرة، لا تراوح السلطة السياسية وكثير من النخب الثورة التي تبعها الاستقلال، كلحظة تاريخية اكتمل فيها بالنسبة إليها كلّ شيء، التاريخ والوجود والسياسة. لقد ظلّ المتفرجون في قاعة السينما مجبرين على تناسي زمن وجودهم وتصديق زمن العرض الذي يعتمد مخاطبة العاطفة الفردية والتخويف من إرتداد الماضي، لكنّ أزمنة المتفرجين قد تغيّرت وتغيّر المتفرجون أنفسهم بعد خمسين سنة ونيّف من الاستقلال، إلا إنّ العرض ما زال يحكي بطولات الثورة وانتصارنا على فرنسا "العجوز" وكرهنا لها، في حين كان يجدر بنا أن نتساءل عن انتصارات فرنسا في الجزائر بعد استقلالها، تلك الانتصارات التي كانت تجنيها بينما نحن محتجزون في قاعة السينما منشغلين بالحبّ والكراهيّة؟

أحيانا يتوقّف رأس المرء عن التفكير وعن التأمّل، وحتّى عن تصحيح الصّور التي تقع مقلوبة على جدار قرنيّتيه فيصدّق ما يرى، يرى أحيانا من بين ما يرى، أنّ فرنسا هي التي استقلت عن الجزائر، وأنّ الفرنسيين يبدون سعداء جدا لأنّهم تخلصوا من ظلم الجزائريين ومن استعمارهم وقهرهم الطويل لهم، حتّى يكاد يصدّق ما يرى!

العُزلة

مقعد لكلّ متفرّج وسط العتمة، هكذا عملت السلطة على فصل الأفراد ومنع تشكّل أيّ تجمّع أو الانتماء اليه، وهكذا أحدث منع تشكيل الأحزاب السياسية والنقابات المستقلة وحتّى الجمعيات، ثمّ التضييق عليها فيما بعد ومحاربتها وتفكيكها من الداخل، فقرا حقيقيا في الحياة العامّة وفي تشكيل مجتمع مدني متماسك) ظلّ الجزائريون يستخرجون تصاريح للخروج من الجزائر لسنوات طويلة بعد الاستقلال، وكان الأجانب وما زالوا يحصلون على تأشيرات الدخول إليها بصعوبة). إنّ العتمة وما صاحبها من سياسات، جعل "المتفرجين" يعيشون عزلة غير عادية، وفشلا في التواصل وتكوين روابط اجتماعية مدنية حتّى على مستوى صغير على شكل جمعيات محليّة فعّالة. كما أنّ التعتيم والرقابة والعزلة جعلت الفرد فقيرا من حيث بعض تجاربه الذاتية وتمثلاته التي تتطلّب حدا أدنى من المشاركة مع الآخر، وأستطيع أن أتحدّث هنا بشكل خاص عن تجربة الجسد وتمثّله، وعن المسافات التي تفصلنا عن أجسادنا، فإنّها تعيش أيضا عزلتها.

إنّ إحدى النتائج التي حصلنا عليها بعد أكثر من خمسين سنة من إقامتنا في قاعة السينما هذه، هي الجزائري المنقطع عن محيطه والمنفصل عن سلطته السياسيّة بل المعادي لها، الكائن المتشظّي والمعزول الذي يولد برأس مال من المرارة والتشاؤم.          

الكثير من الشواهد تدلّ على أنّ السلطة السياسية تتصرّف على أساس أن الجزائر قاعة سينما كبيرة، وبدل أن تغيِّر على الأقل العرض، فإنها أحدثت مؤخرا بعض التحسينات فقط، كإضافة لغة أخرى "الأمازيغية" لدبلجــــــــة محتـــــــــواه، فانصرف النّاس إلى مناقشة الدبلجة الجديدة، وتركوا العرض القديم.

 إنّ هذا لا يدع لنا شكا في تصنيف النظام الجزائري الذي حار الكثيرون في تصنيفه، فهو ليس نظاما اشتراكيا أو رأسماليا، منفتحا أو منغلقا، دكتاتوريا دكتاتوريّة مطلقة أو جزئية، إنّه ببساطة كلّ هذا ولا شيء منه، إنّه مجرّد نظام سينمائي!

*كاتب جزائري

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.