}

من الأدب العراقي القديم: "مرثاة امرأة"

حكمت درباس 24 سبتمبر 2017

 1. مقدمة

قدّمت في دراسة سابقة لي في موقع "ضفة ثالثة"، ترجمة لإحدى قصائد "الحب الإلهي" من العصر الآشوري الحديث. نتابع في هذه الدراسة التعرف على قصيدة مختلفة من العصر ذاته تنتمي إلى أدب الرثاء، اصطلح على تسميتها "مرثاة امرأة". عثر على الرقيم المسماري للنص في أطلال مدينة نينوى (شمالي العراق)، وهو محفوظ الآن في المتحف البريطاني في لندن. وقد نشر للمرة الأولى من قبل إريكا راينر (E. Reiner) مع دراسة مفصلة[1]، ليعاد نشره منقحا في المجلد الثالث من سلسلة "محفوظات الدولة الآشورية" (SAA 3 15)[2].

تصف القصيدة، بلغة مؤثرة، مأساة امرأة ماتت أثناء المخاض. وهي مصاغة على شكل حوارية بين شخصين: الأول غير محدد الهوية (الأبيات الثلاثة الأولى)، والثاني هو المرأة الثكلى التي تسرد تفاصيل معاناتها من العالم الآخر (تتمة القصيدة).      

وفي ما يلي توضيح بالرموز الواردة في الترجمة أدناه (متعارف عليها لدى علماء الآشوريات):

- يشير القوسان المعقوفان [     ] إلى تهشم جزئي في الرقيم، تم تقدير الكلمات أو الجمل بينهما بالاعتماد على أسطر أو نصوص موازية.

- الكلام بين قوسين هلاليين (     ) أضيف استكمالا للمعنى والصياغة.

- الكلمات المكتوبة بـ الخط المائل غير مؤكدة.

2. الترجمة

لم أنتِ مقذوفةٌ كقاربٍ وسط النهر؟

محطمةٌ عوارضكِ، مفتوقةٌ[3] حِبالكِ

مستورٌ وجهكِ، تعبرين نهرَ قلبِ المدينة[4]؟

كيف لا أكون مقذوفةً مفتوقة الحِبال؟

لكَمْ كنت سعيدةً يوم حملتُ فاكهةً[5]!

سعيدةً كنتُ، سعيداً كان زوجي.

يوم مخاضي، اكفهرّ وجهي

يوم ولادتي، غَشِيت عيناي.

مفتوحة اليدين، صلّيتُ إلى (الإلهة) بيلِت-إيلي[6]:

”أمُّ الوالِداتِ أنتِ، أنقذي حياتي".

حينما سمعتني بيلِت-إيلي، سترت وجهها (قائلة):

"[…..] أنتِ، لم أنتِ مواظبةٌ على الصلاة إلي؟".

[زوجي الذي….] ..صرخ:

[لا تتركيني] يا زوجتي الفاتنة!

[……] عبْرَ السنين.

[…..] لأرضٍ آثمةٍ.

[…...] اعتدتَ الذهاب إلى قلب المدينة، صرختَ مفجوعاً.

[منذ] تلك الأيام، (حين) كنت مع زوجي،

مقيمة وإياه، حبيبي،

تسلل الموتُ خلسةً إلى غرفة نومي

أخرجني من بيتي

باعدني عن زوجي

حطَّ قَدمَي في أرضٍ لا عودة لي (منها).

3. إضاءات على النص

الشعرية

يتجلى جمال القصيدة في بنيتها الحوارية وعمق لغتها التي يمتزج فيها المجازي بالواقعي والبوح بالتفجع. فالأبيات الاستهلالية تهدف إلى إدخال القارئ (أو المستمع) إلى الجو العام بطريقة غير مباشرة عن طريق سؤال يستخدم فيه المتكلم مجاز "القارب" لوصف المرأة، وهذا المجاز شائع عادة في تعاويذ الولادة للإحالة إلى الجنين. يضعنا هذا السؤال في مواجهة صوت المرأة الثكلى الذي يتخلله حوار مع الإلهة (التي تخلت عنها) ومناجاة للزوج المفجوع. لكن الأسطر الختامية هي الأكثر بلاغة في القصيدة، حيث يُشبّه الموت باللص أو المتسلل الذي يأخذ المرأة إلى أرضه التي لا رجعة منها. ويبدو أن طبيعة النص السردية المأساوية فرضت تخففا من الإيقاع (ندرة التكرار)، أما التناظر فواضح في بعض الأبيات:

محطمةٌ عوارضكِ/ مُقطّعةٌ حِبالكِ/مستورٌ وجهكِ

يوم مخاضي، اكفهرّ وجهي/يوم ولادتي، غَشِيت عيناي

أخرجني من بيتي/باعدني عن زوجي/حطَّ قَدمَي في أرض….

الخلفية الأدبية

ينتمي النص إلى أدب الرثاء، وهو صنف معروف في التراث العراقي القديم منذ عصر الممالك السومرية؛ ولا سيما مراثي المدن المدمرة ومراثي تموز/دموزي الراعي، إله الخصب والعطاء. وفي ما يلي مقطع من مرثية لهذا الإله من العصر الآشوري الحديث: 

قُتِل الراعي وسط القطيع، الحَرّاثُ فوق الحَرْث

قُتل البستاني في البستان، قُتِل ناظر القناة أثناء كَدّه.

باكون بشدة. باكون على راعينا، على بستانينا، على ناظر قناتنا،

مَنْ أكلنا فاكهته ملء القلب، مَنْ مجّدناه بالأعناب والنبيذ[7].

ولعل جذور مراثي الحسين ومواكب كربلاء لدى شيعة العراق ضاربة في عمق هذا التراث. وقد ينطبق الأمر ذاته على مراثي المدن في الشعر العربي الكلاسيكي، كمراثي خراب بغداد خلال الفتنة التي وقعت بين الأمين والمأمون، وخراب البصرة خلال ثورة الزنج، ومراثي المدن والممالك الأندلسية لاحقا (إذا افترضنا انتقال هذا الصنف من الرثاء غربا إلى الأندلس عبر التقاليد الشعرية المشرقية)[8].

المؤلفـ(ـة) وشِعر النساء     

لا نعرف إن كان مؤلف القصيدة رجلا أم امرأة، مع أن الاحتمال الثاني يبدو غير مستبعد؛ فرهافة اللغة أقرب إلى عالم المرأة. أضف أن التراث العراقي القديم عرف شاعرات عدة، معظمهن من الكاهنات اللاتي تمرّسن في الأدب؛ ولا سيما الديني (الابتهالات والتسابيح). والشاعرة-الكاهنة الأكثر شهرة هي إنخدوأنّا ابنة الإمبراطور شرّوكين [أو صرغون] الأول الأكادي (2340-2284 ق.م)، التي تنسب إليها حوالى 42 ترتيلة مدونة بالسومرية، أبرزها "تمجيد إنانّا"[9].

ملاحظات تخص الجانب التاريخي 

ترد عبارة "ستر الوجه" مرتين في النص، الأولى في الافتتاحية على لسان السائل (سطر 3) والثانية عند الإحالة إلى رد الإلهة بيلت-إيلي السلبي على دعاء المرأة (سطر 11). يبدو من السياق أن هذا التعبير يدل على الحداد والحزن، ونفترض بموجبه أن المرأة في العصر الآشوري الحديث كانت ترتدي غطاء يشبه البرقع أو النقاب في حالات استثنائية كهذه. ولا يجب الخلط هنا مع غطاء الرأس "الإيشارب أو ما يشبهه" الذي اعتادت النساء المتزوجات في المناطق الشمالية من سورية والعراق القديمين على ارتدائه خارج البيت (مع إبقاء الوجه مكشوفا). وتبين إحدى مواد القانون الآشوري الوسيط أنه توجب على النساء المتزوجات (عاديات كن أم كاهنات) ووصيفاتهن ارتداء الغطاء، أما الكاهنات غير المتزوجات والعاهرات والإماء فلم يسمح لهن بذلك. ولا ينطبق هذا القانون على المناطق الأخرى بطبيعة الحال. ومن المعروف أيضا أن المرأة كانت ترتدي غطاء رأس خاصاً ليلة الزفاف، غالبا تقدمه عائلة العريس ويضعه على رأسها أبوها أو أخوها أو أحد ممثلي العريس. وربما كان يقوم الزوج بخلعه عند دخولها بيته. ولنا أن نشبه الغطاء في هذه الحالة بطرحة العروس الشائعة في العالم العربي ومناطق عدة من العالم. واللافت للانتباه أيضا هو أن غطاء الرأس كان شائعا لدى الرجال (ما يشبه الكوفية أو العمامة، إلخ) كما توحي المنحوتات والصور، وكان نزعه يعد من علامات العار؛ إذ يذكر شاروكين/صرغون الثاني ملك آشور (722-705 ق.م) أنه أهان رجال قبرص بأن كشف رؤوسهم: "كشفت رؤوسهم كالنساء"[10].  

 .


*شاعر وأكاديمي فلسطيني


[1]Reiner, E. 1985. Your Thwarts Cut in Pieces, Your Mooring Rope Cut: Poetry from Babylonia and Assyria. The University of Michigan Press, pp. 87-93.   

[2]‫‪SAA 3 15 = Livingstone, ‫‪A. ‫‪1989. ‫‪Court ‫‪Poetry ‫‪and ‫‪Literary ‫‪Miscellanea ‫‪(State ‫‪Archives ‫‪of ‫‪Assyria ‫‪3). ‫‪Helsinki.

[3]استخدمتُ كلمة "مفتوقة" حفاظا على روح النص الأصلي، فهي مشتقة في الأكادية من الجذر ذاته لنظيرتها العربية (ف-ت-ق).

[4]قلب المدينة: صفة كانت تطلق على مدينة آشور (قلعة الشرقاط حاليا).

[5] حملت فاكهة: عبارة مجازية تدل على الحَبَل.

[6]بيلت-إيلي: معنى اسمها "سيدة الآلهة"، وتعرف أيضا من خلال أسماء أخرى: مَمي ونينتو. وبموجب أسطورة الخلق البابلية، لعبت هذه الإلهة دورا أساسيا في خلق الجنس البشري من الطين.

[7]SAA 3 16: 17-20.

[8]حول مراثي المدن الأندلسية وخلفياتها، انظر: الزيات، عبد الله محمد، 1990. رثاء المدن في العصر الأندلسي. منشورات جامعة قارنيوس.

[9] 

للمزيد حول علاقة المرأة بالثقافة والأدب والفن في العراق القديم، انظر:

Harris, H. 2000. Gender and Aging in Mesopotamia: The Gilgamesh Epic and Other Ancient Literature. University of Oklahoma Press, pp. 151-154.

[10]حول قصائد هذه الشاعرة، انظر:

De Shong Meador, B. 2009. Princess, Priestess, Poet: The Sumerian Temple Hymns of Enheduanna. University of Texas Press

[11]للمزيد من المعلومات حول "الحجاب" في الشرق الأدنى القديم، انظر

Stol, M. 2016. Women in the Ancient Near East. (translated into English by Helen and Mervyn Richardson). Boston/Berlin, pp. 22-29.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.