}

من الأدب العراقي القديم: قصيدة حب آشورية

حكمت درباس 3 سبتمبر 2017
إناسة من الأدب العراقي القديم: قصيدة حب آشورية
من آثار مدينة نمرود العراقية القديمة

 

1. مقدمة

يحتل الأدب العراقي القديم، المدون باللغتين السومرية والأكادية وبالخط المسماري، مكانة مهمة في التراث البشري؛ فهو الأغنى بين آداب العالم القديم والأكثر تنوعا. بالإضافة إلى الأساطير والملاحم (أسطورة الخلق، ملحمة جلجامش، إلخ)، التي حظيت بالاهتمام الأكبر لدى الباحثين والقراء، يضم هذا الأدب صنوفا أخرى من المؤلفات، كمراثي المدن والغَزَليات والمناظرات والأناشيد والابتهالات ونصوص الفأل والتنجيم. للأسف، لم ينل هذا الأدب العريق ما يستحقه من تقدير في العالم العربي مقارنة بالوضع في الغرب، وذلك لضعف البحث العلمي وإهمال الدوائر المعنية. وإذا استثنينا بعض الدراسات الرصينة، كأعمال طه باقر (العراق) وفاروق إسماعيل (سورية)، وهما ملمّان باللغتين الأصليتين، فإن معظم الترجمات العربية جاءت منقولة عن لغات أخرى، كالإنكليزية والفرنسية والألمانية، ما يُفقد النصوص جماليتها وبعدها الشعري، ولا سيما الأكادية منها؛ فهذه اللغة تنتمي إلى العائلة السامية كما هو معروف، وتشاطر شقيقتها العربية ثروة معجمية لا يستهان بها.

نقدم في هذه الدراسة ترجمة لقصيدة غنائية تندرج تحت ما يعرف بـ"قصائد الحب الإلهي"، بطلاها هما نابو، إله الكتابة والحكمة، وقرينته الإلاهة تَشْميتو (المعنى الحرفي لاسمها هو "السميعة"، أي المستجيبة للدعوات). نُشر النص، الذي يحمل الرقم 14، في المجلد الثالث من سلسلة "محفوظات الدولة الآشورية" (تعرف بالاختصار SAA)[1]، والرقيم المسماري، الذي يتخلله تلف جزئي، محفوظ حاليا في المتحف الوطني العراقي في بغداد. كتبت القصيدة بالآشورية الحديثة، وهي لهجة أكادية سادت شمالي العراق في النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد (حوالي 1000-600 ق.م)، وتقابلها اللهجة البابلية في الوسط والجنوب. تجدر الإشارة إلى أن النص مقسم إلى سبع وحدات رئيسية من قبل الكاتب الذي يرد اسمه في السطر الأخير: "بُديلو". ويبدو أن هذا التقسيم ليس اعتباطيا، بل يتفق مع الطابع الإنشادي-الطقسي، الذي يتجلى بوضوح من خلال الاستخدام المتكرر لكلمة "لازمة" (أي إعادة) عند نهاية المقاطع أو الأبيات. وسأعود إلى مناقشة هذا الأمر وجوانب أخرى تتعلق بالشعرية بعد الترجمة.   

اعتمدت في ترجمتي على النص الأكادي بالدرجة الأولى، مستخدما الكلمات العربية الموازية (المشتركة بين اللغتين) ومستأنسا بما جاء في الترجمة الإنكليزية. ولا بد لي بداية من توضيح الرموز الواردة في النص:

- يشير القوسان المعقوفان [     ] إلى تهشم جزئي في الرقيم، تم تقدير الكلمات أو الجمل بينهما بالاعتماد على أسطر أو نصوص موازية.

- الكلام بين قوسين هلاليين (     ) أضيف استكمالا للمعنى والصياغة.

- الكلمات المكتوبة بـ الخط المائل غير مؤكدة.  

2. الترجمة

ليتكل المرء على من يشاء[2]

أما نحن، فعلى نابو متكلون

لتشميتو مُكرّسون.

ما لنا لنا؛ نابو سيدنا

تشميتو جَبَلُ اتكالنا. لازمة.

 

قُلْ لها، ذات الجدار، ذات الجدار، تشميتو:

"نجّـ(ـنا)، في المصلى امكثي!" 

ليعبق (عطر) العرعر المقدس في الحَرَم. لازمة.

 

ظِلُّ الأرْزِ، ظِلُّ الأرْزِ، ظِلُّ الأرْزِ، حِرْز الملك

ظِلُّ السرو (لـ)ـسادته

ظِلُّ غُصَين العَرْعَر حِرْز نابو خاصتي (حِرْز) دُماي. لازمة.

 

تشميتو تداعب الحليةالذهبية في حضن نابو. لازمة.

ألبسني قرطاً يا سيدي

لأتودد إليك وسط الحديقة

ألبسني قرطا يا سيدي [نابو]

لأبهجك وسط [إيدو]بّا![3]

 

سألبسكِ أساور العقيق الأحمر يا تشميتو خاصتي

[….] أساورك العقيق الأحمر

سأفتح [….]. لازمة.

 

[…..] خرجت الإلاهات

[….] كالإكليل

[…..] ….[…..]ـهم

[…..] لازمة.

 

(تهشم في النص….)

لأمسك [….]

كي أمنحكِ عربة جديدة [.….]

لازمة، مَنْ فَخذاها غزالٌ في السهل! [لازمة].

لازمة، مَنْ عظام كاحلها تفاحةُ (شهر) سِمان[4]! [لازمة].

لازمة، مَنْ كعباها مِن السّبَج[5]! [لازمة].

لازمة، مَنْ كُلُّها رقيمٌ لازورديٌ! [لازمة].

تباهت تشميتو، دخلت غرفة النوم. [لازمة].

أغلقت بابها بالمزلاج، وضعت إناءً. لازمة. 

اغتسلت، صعدت، اضطجعت في السرير. لازمة.

تنهمر دموعها في إناء اللازورد، في إناء اللازورد. لازمة.

يمسح دموعها بخرقة صوف أحمر. لازمة.

بعيدا، اسأل، اسأل، تحقق، تحقق! لازمة.

لمَ، لمَ أنت مزدانة يا تشميتو خاصتي؟ لازمة.

لأ[ذهب] معك إلى الحديقة يا نابو خاصتي [لازمة].

فلأذهب إلى الحديقة، إلى الحديقة [وإلى السيد. لازمة]

فلأذهب وحيدة إلى الحديقة الجميلة. لازمة.

لم يضعوا عرشي بين (عروش) المستشارين! لازمة.

عسى ترى عيناي قطوف فاكهتكَ! لازمة.

عسى تسمع أذناي تغريد عصافيركَ! لازمة.

بعيدا، اربط (نفسك)، أوثقها! لازمة.

اربط أيامكَ إلى الحديقة وإلى الإله (العَليّ)! لازمة.

اربط لياليكَ إلى الحديقة الجميلة! لازمة.

فلترافقني تشميتو خاصتي إلى الحديقة. لازمة.

(هو ذا) عرشها في الصدارة بين المستشارين. لازمة.

(ثلاثة أسطر مهشمة)

لترى عيناها قطوف فاكهتي! [لازمة].

لتسمع أذناها تغريد عصافيري! [لازمة]

لترى عيناها، لتسمع أذناها! [لازمة]

[…..] الثاني عشر[6]. رقيم بُديلو، الكاتب […..]

3. إضاءات على النص

الشعرية والإيقاع

يختلف الشعر الأكادي عن نظيره العربي في كونه لا يخضع لمبدأ العروض. وتتجلى الشعرية بشكل أساسي من خلال الإيقاع، الذي يعتمد -كما تبين القصيدة- على توظيف تقنيات متنوعة، كالتكرار (مفردة، عبارة، أو بيت)، والحواريات، والتناظر (مثلا: اربط أيامك - اربط لياليك؛ لترى عيناها - لتسمع أذناها، إلخ). واللافت للانتباه أيضا هو ندرة استخدام حرف العطف "و" على مدار النص (مثلا: اغتسلت، صعدت، اضطجعت في السرير)، مع أنه شائع في الرسائل والنصوص النثرية. والهدف على الأرجح هو الحفاظ على وحدة الإيقاع ومبدأ التناظر. أما الروي أو السجع، فيظهر في بعض الأبيات، مثلا: ما لنا لنا، نابو سيدنا، تشميتو جَبَل اتكالنا (في النص الأصلي المقطع الصوتي ni، وهو الضمير المتصل الدال على المتكلمين)، ولحسن الحظ تساعد العربية هنا على تمثيله نظرا للتوافق الصرفي في اللغتين. ويمكن تتبع السجع كذلك في بعض المقاطع التي تنتهي أبياتها بالفتحة أو الألف الممدودة.     

البعد الطقسي

ينتمي النص إلى طقس ديني إنشادي تخلله جلب صنمي الإلهين نابو وتشميتو فيما يشبه الزواج الشعائري (المقدس). إن التشديد على اللقاء في الحديقة ليس إلا إحالة إلى العلاقة الجنسية بين الشريكين، والتي يعكسها أيضا مجاز "الفاكهة" المقترن بالإغواء الجنسي في تراث الشرق الأدنى القديم[7]. يميل بعض الباحثين إلى مقارنة النص بسفر نشيد الإنشاد في العهد القديم مفترضين أنه يمثل أحد مصادره، فيما يرى آخرون أن النصين ينتميان إلى تراث أدبي مشترك ليس إلا. يدعم الطابع الطقسي للنص رسائل أخرى موجهة إلى الملك من موظفين ذوي شأن، نقرأ في إحداها أن نابو وتشميتو أمضيا ست ليال وسبعة أيام في سرير الزواج: "غدا، مساء اليوم الرابع، سيدخل نابو وتشميتو غرفة النوم. اليوم الخامس، ستقدم (لهما) المائدة الملكية. سيحضر المشرف. وسيتم جلب الإناء (على هيئة) رأس الأسد والعربة إلى القصر. سيمكث الإلهان في غرفة النوم من (اليوم) الخامس حتى العاشر، وسيبقى المشرف هناك. اليوم الحادي عشر، سيخرج نابو، ويمدد قدميه. سيذهب إلى حديقة التريّض ويقتل الثيران البرية. (بعدها) سيرتقي عرشه (في السماء) ثانية. سيبارك (نابو) الملك، سيدي، وبيته"[8].

 الغنائية والأداء

كما لاحظنا، يتوزع النص على سبع وحدات متفاوتة الطول، تتفق غالبا مع الطابع الغنائي-الطقسي، والذي يمكن مقارنته بالأسلوب الأوبرالي من حيث المبدأ. يسمح لنا هذا التقسيم المقطعي بافتراض توزيع للأدوار بين الجوقة ومطربَيْن، رجل (صوت نابو) وامرأة (صوت تشميتو). قامت الجوقة على الأرجح بتأدية الافتتاحية والمقطع الثاني والأبيات ذات الطابع السردي المصاغة بضمائر الغائب. أما المطربان، فأديا الحواريات (بقية الأبيات). وقد يوحي تكرار كلمة "لازمة" عند نهاية المقاطع الجماعية والحواريات باستخدام تقنيات مختلفة من الغناء (الجهير، الخفيض، الحاد) ربما تخللها أسلوب تعدد الأصوات "البوليفوني"، ولا سيما الأبيات الغزلية التي تبدأ بهذه الكلمة وتنتهي بها:

لازمة، مَنْ فَخذاها غزالٌ في السهل! [لازمة].

لازمة، مَنْ عظام كاحلها تفاحةُ (شهر) سِمان! [لازمة].

 



[1] Livingstone, A. 1989. Court Poetry and Literary Miscellanea (State Archives of Assyria 3), Helsinki, No. 14. 

[2]حرفيا "ليتكل المرء على من يتكل" وقد غيرت الترجمة إلى "على من يشاء" لتناسب السياق العربي

[3]أيدوبّا: كلمة سومرية تعني حرفيا "بيت الرقم" أي معهد إعداد وتدريب الكتبة الشبان. 

[4]سِمان: الشهر الثالث حسب التقويم العراقي القديم، ويتوافق تقريبا مع النصف الثاني من أيار والنصف الأول من حزيران

[5]السّبَج: يعرف أيضا بالأوبسيدان، وهو حجر كريم بركاني المنشأ، والأغلب أن سكان الرافدين القدماء استوردوه من الهند أو بلاد الشام.

[6]يشير الرقم 12 على الأرجح إلى يوم تدوين الرقيم

[7]حول الجانب الطقسي للنص، انظر الرابط

http://oracc.museum.upenn.edu/amgg/listofdeities/tametu/ 

[8]SAA 13 070.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.