}

القاهرة ومدريد: ثقافة المدينة من أسطح بيوتها

أحمد عبد اللطيف 3 أكتوبر 2017
أمكنة القاهرة ومدريد: ثقافة المدينة من أسطح بيوتها
أسطح بنايات مدريد

 

يمكن التعرف إلى أي مدينة عبر شوارعها، الضيقة والواسعة. وعبر ميادينها، الرحبة والكثيرة أو الضيقة والنادرة. وعبر مطاعمها وباراتها ومقاهيها. يمكن التعرف على المدينة عبر واجهات محلاتها، سوبر ماركتاتها وأكشاكها، أرصفتها وخطوط المشاة بها. وعبر إشارات المرور الموجودة أو الغائبة التي تعمل أو مجرد ديكور. وعبر لافتاتها، المرصوصة على واجهات البنايات أو المعلقة على مداخل العمارات أو التي تعمل كدليل للغرباء. ويمكن التعرف على المدينة عبر ملابس نسائها، نظرات رجالها إليهن، المسافة بين الأفراد، اللامبالاة والنظرات المختلسة، أو المعاكسات اللطيفة أو العنيفة. يمكن التعرف عليها أيضًا عبر بوابات المباني وأبواب البيوت، عبر المآذن والقباب أو أبراج الكنائس والكاتدرائيات. وعبر هذه التفاصيل التي تعكس بُعد المدينة الثقافي، يمكن ملاحظة مساحة الحرية، علاقة الحاكم بالمحكومين، عناية السلطة بالمواطنين أو إهمالها لهم، القدرة على التظاهر في ميادين واسعة، أو التسليم المطلق في حالة كون الميادين مجرد تقاطع طرق. لكن شيئًا آخر يمكنك التعرف عبره على المدينة: أسطح البيوت والبنايات، شكلها، معمارها، استخدام السكان لها أو هجرها، انفتاحها على الهواء الطلق أو انغلاقها تحت خرسانة أو سقف خشبي. هنا يمكن التعرف، بالمقارنة، على مدينة القاهرة ومدينة مدريد، وإن كانت المقارنة صالحة لمدن أخرى عربية وغربية.

 تبدو أسطح بيوت القاهرة عارية، تواجه السماء بشجاعة أو بسذاجة، تثق وتطمئن بأن السماء لن تغدر بها. ربما تعلّم سكان القاهرة على طول تاريخها الطويل أن المطر نادر، وأن قليلًا من المطر لن يؤدي إلى خراب كبير. لذلك فتحوا أذرعهم له كضيف مرحب به في شهور الشتاء التي تقلصت. لكن أسطح القاهرة، رغم ما يجمعها في الانفتاح على السماء، تبقى متنوعة. أسطح تحولت إلى غرفة الكراكيب، كل ما لم يعد يلزم البيت بات مآله في الهواء الطلق أعلى البناية: كراتين تجمع كتبًا، ملابس قديمة استحالت لأسمال لا أمل فيها، أثاث قديم قوضته السنوات وشقاوة الأطفال، علب بويه تبقى فيها القليل قد ينفع بعد ذلك فلا داعي لإلقائها في القمامة، أحذية قديمة متهالكة تحمل خطوات طويلة وتاريخًا شخصيًا، وحقائب يد وسفر عبرت عليها أزمنة وشاهدت بلدانًا أخرى وربما توارثتها أجيال. القاهري عادة لا يتخلى عن أشيائه، تتحول الأشياء غير المستخدمة لمتن حياته، والسطح هو مستودع الأمانات. القاهري دائمًا لديه أمل ممتد أن الزمن قادر على إعطاء قيمة للأشياء المهجورة، مثل أمل المصري القديم في تمتع الميت بملابسه وأوانيه وزيناته فبدلًا من صنع مقبرة صغيرة تكون مستقرًا أخيرًا للجسد المنهك، صنع لموتاه مقابر في شكل بيوت يمكن أن تحل محل بيوت الدنيا. أسطح القاهرة أيضًا تضم ملابس الموتى، إذ بعد سنوات من نومها في الدولاب يكتشف الأهل أنها تشغل مساحة بلا جدوى، في حين أن لا أحد يتمتع بقدرة ارتداء ملابس موتاه أو موتى الآخرين، في ذلك تطيّر وفأل سيئ، والمصري متطيّر في أغلب حالاته. سطح القاهرة، بهذه الصورة، يشبه تاريخ العائلة، تاريخ يمكن أن يلخص وضعها الاجتماعي والثقافي، ويمكن أن يشير لاهتمامات الأجداد، كأنه كتاب مفتوح، كتاب العائلة المفتوح. بالإضافة لذلك، ثمة أسطح تضم عششًا للدجاج، لم يتراجع الأمر كما يبدو وإن تقلص، وهنا تتشابه أسطح المدينة مع أسطح القرية، حيث الطيور تشارك البشر حيواتهم. وإن كانت عشش الدجاجات قد تقلصت، فـ غيات الحمام قد انتشرت أكثر، على الأقل أكثر من سنوات الثمانينيات. الغيات المربعة والعالية، عند غروب الشمس، تنطلق منها عشرات الحمامات في أسراب تشبه النوارس. في لحظة كهذه، تستحيل الأسطح أكثر شاعرية، شاعرية التناقض: حمامات تنطلق في أسراب فوق أسطح مليئة بالكراكيب وفوضى الأشياء.

أسطح القاهرة أيضًا، المعمور منها والمهجور، تبدو فوضوية مثل المدينة، مثل سكانها، مثل إشارات مرورها وعشوائية سير عرباتها. لكن هذه الفوضوية ليست مريعة، إنما جذابة، حتى وإن تخلت عن النظافة المألوفة والنظام المحبب. فوضوية الأسطح منظمة على طريقتها، هل هناك ما يسمى بجمالية الفوضى؟ ربما ينطبق المصطلح على هذه الأسطح، خاصة أسطح الأحياء شبه الراقية شبه الشعبية (مثل أسطح حي المنيل) حيث هناك من يهتم بكنسه ورشه بالماء ليكون مكانًا ملائمًا للسهرة أو للتمتع بلحظات الغروب مع العائلة، هذا المكان المهيأ للجلوس في فصول الصيف تحديدًا يتجاور، بتناقض، مع أثاثات متهالكة وملابس موتى وأحذية قديمة.

 للسطح القاهري استخدام آخر: نقطة تلصص. تلصص المراهقين على الجارات بينما يتحركن في بيوتهن بطمأنينة مرتديات قمصان النوم الشفافة أو الشورتات القصيرة خلف نوافذ مشرّعة أو مواربة. ربما المرات الأولى لمشاهدة المراهقين لجسد المرأة الواقعي، وليس في الفيديو أو التلفزيون، كانت عبر سطح بيت. من هناك يصعب أن يتهمك أحد بالتعدي على حرماته، إذ تنظر في مرمى نظرك، وكلما كنت حريصًا في تصنع اللامبالاة ظفرت أكثر بنظرات مختلسة. انتبه نجيب محفوظ لأهمية السطح في رواياته القاهرية، فكان مكانًا لتبادل الغراميات خاصة في ثلاثيته، وانتبه له علاء الأسواني في "عمارة يعقوبيان" فمثّل الوجه الآخر لصراع الطبقات وتكوين طبقة جديدة هي طبقة "سكان السطوح". ولعل السينما المصرية استطاعت منذ نشأتها التقاط هذه الأهمية، إذ استخدمت السطح كمكان لسكن أبطال، كما كانت عشش الدجاج ملجأ للهروب.

 أسطح القاهرة، بتأملها، لا تضم أشياءً قديمة وكراكيب فحسب، بل تضم أيضًا أفرادًا، سكانها، ربما من المغتربين القدامى أو الجدد، وعادة في منطقة وسط البلد وحولها وإن كانوا أيضًا في الأحياء الشعبية. هكذا تحتوي الأسطح على غرف كنتوءات في ظهرها، غرف لها سقف خشبي لكنه ليس في مأمن كامل من غدر السماء في أوقات الشتاء القاتمة. مربعات مثل علب الكبريت قد تشغل ما يقرب من نصف السطح هي الأقدر على مشاهدة المدينة من بعد آخر، وكشف عوراتها المختبئة في الصخب والزحام. سكان هذه العلب مهمشون أيضًا، حيواتهم فائضة، وجودهم فائض على وجود سكان المدينة، وتطلعاتهم لا تبتعد كثيرًا عن النزول إلى إحدى شقق العمارة التي يسكنونها. وجودهم الفائض يضاهي وجود الأشياء المركونة حولهم، أشياء باتت فائضة عن الحاجة لكن لا يمكن الاستغناء عنها. يشبهون الأشياء في أنهم تاريخ المدينة، تاريخ الغربة والانتقال من الريف للمدينة. ولأنهم قدماء مثلها، يعرفون أكثر، إذ اتساع الرؤية أمامهم يكشف لهم قاهرة أخرى، ليست القاهرة الغنية والفقيرة فحسب، ولا القاهرة الحانية والمتوحشة في ذات الوقت، إنما القاهرة العجوز، غير القابلة للزوال، غير المتجملة ولا حتى بأدوات زينة رخيصة. قاهرة الكراكيب والفوضى التي تحيط بعلب الكبريت، وصورتها المكبرة في الشوارع ولافتات الأطباء والمحامين ومعامل التحليل وواجهات العمارات الباهتة لقلة المطر.



 أسطح بنايات القاهرة


أسطح مدريد، في المقابل، مغلقة. لها شكل هرمي يشبه اليدين المضمومتين لأعلى في تضرع، يدان بذراعين يتوارى خلفهما سطح بنفس المسافة، يتطلع للوجود عبر نوافذ زجاجية صغيرة، تدخل الضوء والشمس وتحجب المطر والريح. يشبه السطح المدريدي القبّعة الأوروبية، يشبه المظلة، كأنه لحماية الجسد أكثر منه مكانًا للسكنى. شكل السطح جاء استجابة للتقلبات الجوية، طريقة مثلى لمواجهة المطر الهادر، قطرات المطر المنزلقة على جانبيه تشبه الساقطين من مرتفعات، تشبه بشكل آخر السائرين في شوارع المدينة، حيث الشوارع المائلة سمتها المميزة. هبوط سريع وصعود شاق. بتركيبتها هذه، ليس للمدينة بعد آخر، إذ سكان الأسطح محض سجناء في زنزانة جمالونية، يتطلعون للسماء عبر لوح زجاجي، لوح يحجز الهواء ولا يمكّن الناظر إلا من مشاهدة لون واحد: اللون السماوي، بدرجاته المتدرجة بين الفاتح والقاتم. بعض الأسطح لها نافذة جانبية وليست علوية، لكن ثقافة النظر منها غائبة، على عكس فضيلة الفضول القاهرية. ما الفارق، إذن، بين ساكن السطح وساكن البدروم؟ لا شيء غير قدرة ساكن البدروم على مشاهدة الأرض وسيقان المشاة. لذلك كان منطقيًا أن دارت إحدى روايات خوان خوسيه مياس حول طفل يراقب العالم من نافذة بدروم، إذ عبر هذه الغرفة أنت أكثر التصاقًا بالحياة. لو كتب ميّاس الرواية في القاهرة كان سيختار السطح القاهري للتجسس على المدينة، حينها لن يكتفي بوصف حركات السيقان وتتابعها، بل بأحجام البشر المتساوين حين تكون نقطة المراقبة مرتفعة عدة طوابق. لهذا السبب، اختار طارق إمام في روايته "هدوء القتلة" أن يتطلع بطله السفاح إلى مدينة القاهرة من مكان مرتفع، مكان يبدو كسطح غرائبي يضم في مكوناته غرابة المدينة نفسها، ومن هذا المكان المرتفع يقوّض فكرة القاهرة المتسعة، إذ تبدو له مدينة صغيرة. إمام ينظر إلى القاهرة من السطح، ومياس ينظر إلى مدريد من بدروم.

     الأشياء الفائضة في البيت المدريدي محلها حاويات القمامة، فالبيوت لا تتسع للماضي ولا لتاريخ العائلة، حتى الفكرة القديمة عن غرفة للكراكيب لم تعد مطروحة. التخلص من الأشياء القديمة بات مبدأً، تكفي أشياء الحاضر، ملابسه وأحذيته وصناديقه المغلقة وأثاثاته القليلة. لا مكان لملابس الموتى ولا ذكرى لخطواتهم. الأسطح مؤجرة كذلك لمهمشين، ومثل القاهرة، يحلمون بالنزول لأي طابق آخر، بالهروب من الزنزانة. هم أيضًا مغتربون بطريقة ما، ربما جاؤوا من مدن أو قرى بعيدة، وربما أبناء المدينة لكن لم يعثروا فيها على أرض لأقدامهم. وعلى عكس رحابة سطح القاهرة، والمناظر التي تقرأ من خلالها المدينة، يبدو السطح المدريدي أنيق من الخارج بائس من الداخل، محض قبعة. أناقته من الخارج هي ابنة لثقافة المعمار، منح جمال خارجي ومريح للبصر، صنع لوحة. لكن الذي فكر في السطح بهذا الشكل، جسد وقبعة، لم يخطر له أن أشخاصًا قد يسكنون تحت القبعة لأن الجسد لا يسعهم، والقبعة، التي ترهب أصحاب الكلوستروفوبيا، تحجب الحياة لا تمنحها.

     من خلال تأمل السطح يمكن ملاحظة أن القاهرة ومدريد مدينتان متناقضتان، رغم أن كلًا منهما عاصمة قديمة، ورغم أن كلًا منهما أسسها المسلمون. التأسيس الأول خلّف وراءه الشوارع الضيقة ما يؤدي لجو رطب ودوامات هوائية، وشعور بالألفة مع الجيران، فأزقة مدريد تتشابه مع أزقة القاهرة القديمة. غير أن كلًا منهما تطورت بعد ذلك في طريق معاكس للأخرى. شوهت القاهرة بناياتها وتوسعت في أسطحها، كأن السطح شاهد على التحولات بقدر ما يرمز للفضول والتواصل غير المشروط، فيما جمّلت مدريد مبانيها وأغلقتها من الأعلى فصنعت قطيعتها. تنوعت القاهرة ما بين قاهرة المعز والخديوية والحديثة، محتفظة بتاريخها متجاورًا، فيما تتشابه مدريد في عمارتها فتبدو كضربات موسيقية على نفس الوتر، لتنتج نفس اللحن المتكرر، حتى أحياؤها الجديدة محاكاة للأحياء القديمة وإن تخلت قليلًا عن فخامتها. لذلك فالقاهرة مدينة أكثر صراحة، أكثر تعريًا، أكثر سذاجة حتى في مداراة نقائصها، فأسطحها المكشوفة لا تتجمل وإن حاولت أن تتصنع تبدو مثل عجوز صبغ شعره لكن التجاعيد ترسم ملامح وجهه. مدريد، بأسطحها المغلقة، مدينة محيّرة، ظاهرها غير باطنها، ووراء أناقتها أنفاس تصارع الحياة، فوراء منظر الأسطح البهي أفراد يبحثون عن نسمة هواء عبر نافذة زجاجية.

    أسطح كل مدينة منهما، في النهاية، تكشف رؤية السكان لمدينتهم وفضولهم في التعرف إليها من بُعد غير أرضي، من على مسافة غير قريبة، مسافة تسمح بالتعاطف مع السائرين في الشوارع، أو لا تسمح برؤيتهم. كل منهما أيضًا قادر على كشف هويته، فأسطح القاهرة تطل على مآذن وقباب كثيرة ومنتشرة، ومن خلفها أبراج كنائس تعبّر عن نفسها بخجل لكن وجودها يعكس المزيج الثقافي. في أسطح مدريد، إن استطعت أن تتطلع إلى المدينة، قد يلفتك أبراج كاتدرائيات كبيرة متباعدة فيما بينها، فيما يشغل المسافة بينها بيوت وبنايات بشرفات صغيرة وأنيقة وألوان موحدة.    

    

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.