}

عن شيكاغو.. مدينة الحكايات المثيرة

نجاة علي 28 يوليه 2017

 

 

 

  

حين دعيتُ منذ شهور للذهاب إلى مدينة شيكاغو لإقامة أدبية، كنت أحاول جاهدة أن أطرد عن عيني تلك الصورة النمطية التي تكونت لدي من خلال الروايات والأفلام السينمائية التي شاهدتها عن هذه المدينة، التي جعلت كثيرا منا يتخيلها  مدينة الرعب واللصوص فقط، وهي صورة ظالمة إلى حد ما، وبها قدر من الاختزال المخل لوصف تلك المدينة الساحرة، ذات الوجوه المتعددة.

ليس مبعث أهمية تلك المدينة –في نظري- هو أنها فقط واحدة من أكبر مدن العالم، وثالث أكبر مدينة في الولايات المتحدة الأميركية، ويعتبرونها العاصمة غير الرسمية للغرب الأوسط الأميركي،أو لأنها  صارت اليوم مركزا عالميا مهما للتجارة والاقتصاد والصناعة فحسب، بل لأنها أيضا مدينة ذات غواية خاصة، مثيرة للخيال بتنوعها الثقافي والبشري وبفيض حكاياتها التي لا تنتهي.

"يمكن للمرء أن يعيش في هذه المدينة الساحرة بحق لمدة شهرين متصلين دون أن يحتاج إلى وسائل لتسليته، مكتفيًا بمتعة واحدة هي السير فقط في شوارع المدينة دون أن يدركه الملل". هذه العبارة التي قالها الكاتب الأميركي "مارك توين" عن مدينة "سان فرانسيسكو" الساحرة يمكنها أن تنطبق أيضا على مدينة شيكاغو.

لا يكاد يمر عليّ يوم في إقامتي بشيكاغو إلا ويرسل إليّ أحد الأصدقاء المقيمين بالمدينة دعوة لحضور عرض غنائي أو مسرحي، وهو ما جعلني أندهش في البداية حتى علمت أن مدينة شيكاغو-تاريخيا- تملك مسارح هائلة ومواقع خاصة بالكوميديا، ما زالت مزدهرة حتى يومنا هذا. ولعل أبرز العروض الموسيقية الكلاسيكية في المدينة هي الـشيكاغو سيمفوني أوركسترا التي تقدم عروضها في مركز السيمفونيات وتعتبر من أهم الأوركسترات في العالم. كما يقدم مركز السيمفونيات العديد من الأنواع الموسيقية الأحرى المختلفة والمتنوعة ثقافيا. هناك أيضاً تقليد موسيقي قوي، حيث تشتهر المدينة بموسيقى البلوز الخاصة بها، السول، جاز وغيرها.

بدأت جولاتي في شيكاغو -التي يطلقون عليها "مدينة الرياح"- بالذهاب إلى بحيرة ميشيغان، والإبحار لمدة ساعة في باخرة كبيرة، ثم التجوال بعدها في" النيفي بير" Navy Pier ، وهو خليج يقع على بحيرة ميشيغان، وبه الكثير من المحلات والمطاعم الشهيرة .

ولأنني من الذين حلموا كثيرا بالصعود إلى الأبراج المرتفعة في العالم، أقدمت لأول مرة  في حياتي على الصعود إلى ناطحة سحاب، وتسمى " برج ويليس "  (Willis Tower) (برج سيرز" Sears سابقا)، وهي تعد أعلى ناطحة سحاب في الولايات المتحدة الأميركية؛ إذ يبلغ ارتفاعها 440 متراً، دون احتساب الهوائيات، وتبلغ طوابقها 103 طوابق، ويزورها أكثر من مليون زائر سنويا.

وكم هالني المنظر الجميل والمرعب معا في الوقت ذاته، حين وجدت نفسي أقف في غرفة زجاجية بمفردي، أسترق النظر إلى العالم  أسفل البرج وثمة ارتعاشة عجيبة تسري في جسدي كله.

وربما من  الحكايات التي لن أنساها  أبدا، تلك التي عشتها خلال فترة إقامتي هذه، حين قررت بعد القيام بعدة جولات وزيارة العديد من الأماكن في شيكاغو مثل: متحف الفن ودار الأوبرا وحديقة الألفية وأشهر المحلات والأماكن في وسط المدينة، أن أخصص يوما لزيارة ساحة "الهايماركت"، وهو المكان الذي جرت فيه أحداث تاريخية شهيرة يرجع  إليها أصل الاحتفال بعيد العمال في العالم كله، حيث حصلت  نزاعات في مدينة شيكاغو الأميركية بين العمال وأرباب العمل بعد اجتماعٍ بدأه العمال في الأول من مايو (1886) واستمر حتى الرابع منه، مطالبين بتخفيض ساعات العمل إلى ثماني ساعات، وتحسين الأجور. وقد اتسعت رقعة الاضطراب لتمتد إلى ولايات أميركية أخرى، شارك فيها عموم الفلاحين والحرفيين والتجار والمهاجرين آنذاك، فما كان من الشرطة إلا أن فتحت النار على أربعة من المضربين  في شركة ماركورميك للحصاد الزراعي فسقطوا قتلى. بعدها تجمع حشد كبير من الناس في اليوم التالي (يوم الثلاثاء 4 مايو- 1886) في مسيرة سلمية في ساحة الهايماركت لدعم العمال. وظل الحدث سلميًا إلى أن تدخلت الشرطة لفض المسيرة، فألقى شخص مجهول قنبلة على الشرطة فتدخلت قوات مكافحة الشغب مما أدى في النهاية إلى سقوط ضحايا من رجال الشرطة والمدنيين معا.

وحتى لا أضيع في وسط هذه المدينة وأصل سريعا إلى ساحة الهايماركت، أخذت خريطة معي لتعينني على الوصول إلى مكانها. فبعد أن نزلت من التاكسي بدأت أسأل عن المكان، فاكتشفت أن أغلب المارة سياح جاءوا لزيارة المدينة في عطلات الصيف. أحدهم علق على سؤالي ضاحكا

" أنا مثلك غريب وتائه في المدينة".

أخيرا وجدت أميركيا من سكان شيكاغو، الذين ولدوا بها "تقريبا في الستين من عمره" ، ففرحت وسألته عن مكان "ساحة الهايماركت" فقال لي وهو يتأمل حيرتي، إنه يعرف الاسم والحادث التاريخي الذي جرى به، لكنه لا يعرف أين يوجد بالضبط!! لكنه عرض عليّ أن يشاركني مهمة البحث عن المكان.

 بعد أن فشل الرجل مثلي في أن يحدد المكان عبر الخرائط، اتصل هاتفيا بالعديد من أصدقائه القدامى بالمدينة يسألهم عن "ساحة الهايماركت" فأجابوه نفس الإجابة تقريبا التي أجابني إياها من قبل: "نتذكر الاسم  لكننا  نجهل موقعه الآن".

بعد أن أمضينا أنا والرجل المسن أكثر من ساعتين في  البحث بلا جدوى، وجدتني مرهقة أشفقت على الرجل من شدة حرارة الشمس وارتفاع نسبة الرطوبة خاصة أننا كنا وقت الظهيرة. أصابني الإحباط حين أدركت أن المكان الذي أبحث عنه تغير اسمه، ولم يعد له وجود إلا في كتب التاريخ وخيالي فقط؛ فقد تحولت ساحة الهايماركت الشهيرة إلى مجموعة من المحلات والمجازر والمطاعم يأتي عليها الكثير من السائحين للفرجة ولتناول الوجبات الشهية دون أن يعرفوا تاريخ المكان.



*شاعرة من مصر

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.