}

إدوارد سعيد في إيران (1-2): توظيف وتطويع... وتقويل

يحيى بن الوليد 3 يونيو 2017
اجتماع إدوارد سعيد في إيران (1-2): توظيف وتطويع... وتقويل
البروفيسور إدوارد سعيد (Getty)

نال كتاب الأكاديمي الحداثي الأميركي والمفكر الفلسطيني الأبرز والأشهر إدوارد سعيد (Edward Said) (1935 ــ 2003) "الاستشراق" (Orientalism) (1978) اهتماما واسعا؛ وكان في أساس شهرته، بل كان في أساس وضع صاحبه في السياق الأكاديمي والفكري العالمي ككل، مثلما كان في أساس وضعه في جغرافيات متغايرة وثقافات متباعدة إلى حد التقارب في أحيان والتصادم في أحيان أخرى وغالبة. وليس غريبا أن يترجم الكتاب، حتى الآن، إلى ما يقرب من ثلاثين لغة.

وكان من المفهوم أن يسارع الناقد والشاعر السوري كمال أبو ديب، بعد عام واحد لا أكثر من ترجمة "الاستشراق" إلى الفرنسية، إلى نقل الكتاب إلى العربية (1981). وهو العام نفسه الذي ستظهر فيه الترجمة الألمانية للكتاب، ولتليه بعد عام واحد فقط الترجمة الفارسية، ولتتوالى بالتالي ترجماته إلى العديد من اللغات في الجهات الأربع من العالم، بما في ذلك بلدان البلقان. ولعل الأهم، في سياق هذا البحث، أن الكتاب تمّ تلقّفه في وقت مبكّر في إيران.

ولذلك كيف تمّ التعامل مع كتاب إدوارد سعيد "تغطية الإسلام" (1981) ذي الصلة المباشرة بالثورة الإيرانية (1979)، ومع النص السعيدي ككل، في إيران؟ المؤكد أن المدخل، هنا، هو الترجمة في "حضورها الذاتي"، وبالمعنى الذي يدرجها ضمن العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ لكن دون تفريط في خصوصيات الإقليم الثقافي؟ والظاهر أن إدوارد سعيد، أو "المنظور السعيدي" تعيينا، يحظى باهتمام في إيران... وإلاّ لما كان بإمكاننا أن نقرأ عنوان بحث مستقل (باللغة الإنكليزية) موسوم بـ"إدوارد سعيد وترجمة كتبه للفارسية" (2002) لصاحبه أكبر أفسري (Akbar Afsari).

وكان هذا الأخير هو الذي قام بترجمة "الثقافة والإمبريالية" إلى الفارسية عام 2003 بعد أن قام عبدول رحيم كوَهي (Abdul Rahim Goahi) بترجمة "الاستشراق" إلى اللغة ذاتها عام 1998. وكلاهما نقل "تغطية الإسلام" إلى الفارسية: الأول عام 2000 والثاني قبله بعام واحد (1999). وزيادة على ما سلف قام أكبر أفسري بترجمة "العالم، النص، النقد" عام 1998 وبعد أن أضاف إليه حوارا مع إدوارد سعيد.

وفي سياق غير بعيد عن الترجمة، وهو سياق التعريف بإدوارد سعيد، فإنه لا بد من التذكير بحميد أزدنلو (Hamid Azedanlu) الذي نشر، وفي عام واحد فقط (2004) ثلاثة أبحاث (بالإنكليزية): أولها تعريفي بإدوارد سعيد تحت عنوان "إدوارد سعيد" (Edward Said)، أما الثاني فذو صلة بموضوع المثقف "سعيد واستقلالية المثقف" شأن الثالث ذي الصلة بالموضوع نفسه "خواص المثقف الحقيقي من المنظور السعيدي".

وعلى الرغم من أن كتاب إدوارد سعيد (Representations of the Intellectual) (1994)، والذي حظي بثلاث ترجمات في العربية، عبارة عن ست محاضرات قدّمها صاحبها في الإذاعة البريطانية... فإنه يعدّ كتابا مرجعيا في موضوع المثقف العالمي والدور المنوط به في السياق الكوني، ولكن من دون نفي لخصوصيات الثقافات المحلية ودون سقوط في الثقافة الشعبية في الوقت ذاته؛ ذلك أن إدوارد سعيد صريح التأكيد على أنه "ابن المدينة" وليس الريف. ولذلك لا يبدو نشازا أن نعثر على أبحاث إيرانية أخرى تعنى به. والمثال على ذلك البحث المشترك (بالإنكليزية) (والمتداول في شبكة الاتصال الدولي)، حول الموضوع نفسه الذي هو موضوع "دور المثقف من المنظور السعيدي"، بين الباحثين الجامعيّيْن (Jamshid Bagherzadeh) و(Hoshang Razmdideh). وهي منسابة للتأكيد على طبيعة فهم موضوع المثقف، في مثل السياق الإيراني، التي لا تحيد عن التقديم والتعريف بالموضوع. ولذلك لم يخرج البحث عن دائرة العرض التعريفي للكتاب من خلال جرد المفاهيم المحورية والأفكار المركزية للكتاب. ومن ثم مفاهيم العالمية والدنيوية (Wordliness) والاستقلالية... موازاة مع أفكار مثل "قول الحق في وجه السلطة" والوعي باستعمال اللغة والنأي عن الإيديولوجيا والدين... إلخ. وهي أفكار متداولة في أكثر من مقال وتعريف بتصورات إدوارد سعيد ذات الصلة بمفهوم المثقف وأدواره في المجتمعات المعاصرة. ولذلك تبقى المقدمة، أو بالأحرى الخلاصة المركّزة التي تمّ بها تصدير البحث، مهمة وبخاصة من ناحية ما أشارت إليه تحت تسمية "مفاهيم حرجة" في دلالة على السياق الإيراني الفكري ومدى استعداده للتجاوب مع النص السعيدي نسقا وأفقا للتفكير في الوقت ذاته.

ولعل في التشديد على معطى الإقليم الثقافي، بخصوصيته القومية (الفكرة أو الهوية الإيرانية) وبخصوصيته الدينية الثابتة والمشخـَّصة والكاسحة (التشيّع)، ما يفضي بنا إلى تناول الموضوع من خارج اللغة الإنكليزية. ومن هذه الناحية فإن ما حصل لـ"تغطية الإسلام"، تجاوز الترجمة في حد ذاتها ولو في المنظور الذي يجعل منها مجرد أداة لمطمح النقل الحرفي أو ما يعاكس المنظور ذاته من خلال جعل الترجمة مطيّة للتأويل والتأويل المفرط في حدود ما تنصّ عليه نظرية الترجمة العامة.

ما حصل لإدوارد سعيد شيء آخر ولا صلة له بالترجمة في حضورها الذاتي ولو المهجَّن، وعلى نحو ما تنصّ عليه "النظرية الثقافية" للترجمة من خلال مفهوم "التطويع" (Manipulation)، ولا صلة له حتّى بطرائف الترجمة وتوابلها. وما نقصد إليه، هنا، هو ما لخـَّصه لنا الكاتب حسن خضر، في مقال لافت "لماذا لم نوفِ إدوارد سعيد حقّه..!!"، قائلا (ونستحضر نصه على طوله لأهميته): "للتدليل على هذا الأمر أسوق مثلاً واحداً، وأعتبر نفسي محظوظاً لأنني لم أعثر عليه في الكتب، بل سمعته من إدوارد نفسه في رام الله قبل سنوات. قال لي لقد ترجموا كتابي "تغطية الإسلام" إلى اللغة الفارسية في إيران، وتطوّع المُترجم فأضاف من عنده فصلاً جديداً إلى الكتاب، على اعتبار أن الفصل الجديد الذي يشيد بالثورة الإيرانية جزء من الكتاب الأصلي. ولعله فعل ذلك لاعتقاده بأن الكتاب يهاجم الغرب ويدافع عن الإسلام. وفي هذا السياق تجاهل المُترجم بأنني لست مسلماً، أنا علماني، وما جاء في الكتاب لا يُختزل تحت عناوين الدفاع والنقد، فموقفي مركّب وأكثر تعقيداً من ذلك بكثير. انتهى كلام إدوارد سعيد" (جريدة "الأيامّ" الفلسطينية): الجمعة: 27 نيسان (أبريل) 2010 (النسخة الإلكترونية).

وعدم "إيفاء" سعيد حقه، هنا، من "مطحنة الترجمة" التي أغدقت علينا بمخلوق عجيب وغير معروف. والأمر، هنا، تجاوز معطى استعمال إدوارد سعيد نحو لوثة استغلاله ونحو الإلقاء به في فرن الطِلاء الأيديولوجي وبركان التشحين الأيديولوجي. والظاهر أن ذلك كله مرده إلى "العلاقة الدرامية" مع الغرب الذي لم يتخلّص بدوره، على الصعيد الفكري ذاته، من "اللاشعور الكولونيالي" ومن ثوابت علاقات القوة والقوة العارية... في التعامل مع "بقية العالم".

واللافت، أو بالأحرى المفارق، هو إقحام إدوارد سعيد ضمن هذا التصوّر العقائدي الأصولي الجارف... مع أنه نذر حياته، وبنزعته الإنسانية، لمجابهة جميع أشكال الأصوليات في تجلياتها الدينية أو الطائفية أو الثقافية... إلخ. والمؤكد أن الثورة، في إيران، وبحدّتها الدينية الراديكالية، لم تكن مجرد تغيـُّر في الأفكار فقط، وإنما كانت انقطاعا في مجرى التاريخ ذاته؛ وذلك كله في المدار الذي أفضى إلى ترسيخ "دولة مركزية" بل "شمولية" (كما يطلق بعضهم عليها) كان لتوسّعها "عواقب عميقة الأثر ليس فقط على السياسة والاقتصاد، لكن أيضا على البيئة والثقافة" كما يقول مؤرخ الشرق الأوسط والمختص في تاريخ إيران أروند إبراهيميان (Ervand Abrahamian) في كتابه "تاريخ إيران الحديثة" (ص13). ومن ثمّ لم تعد الدولة (ذاتها) هوية منفصلة في ذاتها ترفرف على المجتمع... بل أضحت هوية ضخمة متورّطة في المجتمع. وكانت الحصيلة: هوية وطنية ليست موضع مساءلة سوى في مناطق سنية هامشية (ص261).

وكان من المفهوم أن يكون لمثل هذا "الخطاب الكبير" دور حاسم على صعيد تثبيت التحوّل الكبير في مفهوم الثقافة في إيران. وتجدر الملاحظة إلى أن هذا التحوّل ليس مصدره الثقافة في حد ذاتها، وإنما مصدره تسييج هذه الثقافة داخل خطاب ديني متشدّد أفضى إلى إحداث "قطيعة تاريخية" على مستوى بنيات الدولة ومؤسساتها في علائقها بالمجتمع. وكما يقول وليام د. هارت (William D. Hart) في كتابه "إدوارد سعيد... والمؤثّرات الدينية للثقافة": "عندما تنكر الثقافة الدين كشيء جدير بالاحترام والإجلال في الميدان العام، يتراجع الدين المنظّم ويتم  حصره في النطاق الخاص. وإذا كانت الثقافة تحوّلا في الفكر الديني، فإن الدولة ــ تحت غطاء السلطة المقدسة ــ هي وظيفة الدين البوليسية التي تُقوِّيها الثقافة وتحوّلها" (ص46).

إن ما حصل لـ"تغطية الإسلام"، من "زيادة"، كان استجابة لخطاب محدّد محكوم بنسق ديني/ ثقافي تأويلي. خطاب أدّى إلى إغلاق الجامعات، من التي "دينها العلم" (بالتعبير الدارج في كتابات التنوير)، وأدّى إلى اجتثاث التداخل الثقافي العربي الفارسي من خلال توقيف ترجمة الأدب العربي التي كانت قد ابتدأت في ستينيات القرن الماضي وفي إطار من الدفاع عن "راية الواقعية" في تلك المرحلة التي كانت تشهد على نوع من "الوعي التاريخي والأيديولوجي" الساخن في العالم العربي. وكان هذا التعامل مع الأدب العربي، وفي إيران "جارة العرب"، جزءًا من التعامل مع الفكر العربي ككل في تشابكه مع إشكالات وتيارات المرحلة التي سبقت الثورة الإيرانية التي أسهم في نجاحها "ماركسيون إيرانيّون" أيضا قبل أن يلوي بها "لاهوت السخط" (كما ينعته حميد دباشي في كتاب له يحمل العنوان ذاته) من خلال أيديولوجيا إسلامية راديكالية وعبر دستور يرسّخ الأيديولوجيا ذاتها. ولذلك جعلت الثورة التعامل مع المنجز الغربي، في مجال النظرية والمنهج، عملا مستحيلا.

فالترجمة محكومة بـ"أطر مرجعية" (إذا جاز أن نوظّف لغة المفكر محمد عابد الجابري)، ممّا يجعلها مقيّدة بـ"الثقافة السائدة" في بلد الاستقبال، وبخاصة في بلد مثل إيران الذي تعلو فيه الدولة على المجتمع. ولذلك فالتجاوب مع "النص السعيدي"، في إيران، ولو من داخل اللغة الإنكليزية، يظل في حدود ما يمكن أن تتيحه الدولة الدينية من انفتاح محدود ومضبوط مع الغرب. ومن المفيد أن نحيل، هنا، على واقعة طريفة عبـَّر عنها الكاتب البريطاني كامران رستكَار (Kamran Rastegar)، المحاضر في الأدب العربي والفارسي بجامعة إدنبرة (University of Edinburgh) في الجزر البريطانية، والمهتم بالأدب العربي الحديث في الشرق الأوسط ككل، ومن خلال مقال له تحت عنوان مطوّل اختزله المترجم العربي شاهر حسن كالتالي "بعد ثلاثين سنة ملف الاستشراق يُفتح مجددا"، وذلك حين راسله أحد الأكاديميين الذين يعملون في جامعة مدينة صغيرة "مرفدشت" (Marvdasht) [وهناك من يكتبها مرودشت] في محافظة فارس بوسط إيران. وهذا الأكاديمي يشرف على حلقة من الطلبة الباحثين في مجال الجغرافيا، وقد اتصل بالكاتب البريطاني بعد أن علم باشتغاله على كتاب "الاستشراق". والعملية برمّتها تدخل في نطاق التواصل مع الغربيين، من المهتمين بالمنجز السعيدي، في أفق محاورتهم والإفادة منهم والاختلاف معهم... وفي أفق استخلاص أفكار تسعف على فهم العالم (المعاصر) وبالقدر ذاته محاولة تأكيد نوع من الانتساب لهذا العالم (الجامح). ويخلص كامران رستكَار إلى أن حدث الاهتمام بأعمال المفكر إدوارد سعيد بقدر ما أسعده بقدر ما فاجأه. وكما أنه في الوقت عينه شعر بالأسف لأنه لم تكن لديه القدرة على ترجمة وتفسير عنوان كتاب ثقافي أصدره، في المدينة ذاتها، طلبة إيرانيون يتناولون فيه قضية الاستشراق.

والموضوع، من وجهة نظرنا، ليس موضوع "موقف نصوصي" فقط ومن أجل إحداث "شقوق" في الأنساق السائدة؛ وإنما هو موضوع تطلّع إلى "نصوص" معينة بغية "امتلاكها" وبغية كتابة "خطاب نقيض" من خلالها. فمن الجلي أن الاهتمام بإدوارد سعيد، وإن في إطار شعب اللغة الإنجليزية، لا ينحصر في جامعة طهران فقط بل إنه يمتدّ داخل جامعات مدن إيرانية صغيرة.

وكما أن الاهتمام بإدوارد سعيد لا ينحصر في الجامعة فقط، وإنما يرتبط بأسماء تتحرك من خارج أسوار الجامعة أيضا. وفي هذا الصدد يمكن أن نحيل على سيد محمد مراندي (Sayed Mohammad Marandi) الذي هو علاوة على كونه أستاذا لمادة الأدب الإنكليزي بجامعة طهران وجامعات خارج إيران، وعلاوة على كونه معلـِّقا منتظما في قناة "الجزيرة" في نسختها الإنكليزية كما في برامج إخبارية أخرى في قنوات عالمية، فإنه مهتم بتمثيلات الغرب وتنميطات الاستشراق لإيران.

وهناك أيضا، وفي المدار الذي لا ينحصر في الجامعة الإيرانية، وفي المدار أيضا الذي يوسـِّع من دوائر الاستشراق في البحث الأكاديمي، محمد تفكولي ترغي (Mohamed Tavakoli-Targhi) صاحب بحث "إعادة تشكيل إيران: الاستشراق، الاستغراب والإسطوغرافيا". والبحث ذو صلة بالجغرافيا التخييلية، وفي المدار الذي يجعل من المستحيل الاستقرار على أن الجغرافيا هي علم من العلوم الطبيعية فقط، وإنما هي علم من العلوم الاجتماعية. وذلك كلّه في المنظور الذي يعكس "التشكلات الخطابية" الكاشفة عن تنميطيات الغرب للشرق ضمن استراتيجيا مواكبة الثقافة للإمبريالية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.