}

المشَّاء

أحمد العمراوي 13 أبريل 2017
أمكنة المشَّاء
لوحة للفنان السوري سمعان خوام

 

 

"... بالنسبة إلي، هناك فقط الترحال على طرقات لها قلب، وعلى أي طريق له قلب. هناك أسافر والتحدي الوحيد الذي يستحق الاهتمام هو أن تجتاز طوله الكامل. هناك أسافر متطلعا، مخطوف النفس" 

                         دون خوان ماتوس

 كارلوس كاستانيدا، تعاليم دون خوان، نشر تالة، ليبيا ، الطبعة، 1، 2005، ص: 5.

 1 

الكتابة والمشي. هل بينهما علاقة ترابط أم تنافر؟ حين يسير السائر على الأقدام، هل يختلف تفكيره عن المسافر في القطار؟ بالسيارة ؟ بالطائرة ؟

السفر إنعاش للذاكرة، والمشي إزعاج إيجابي لها. في رحلة الحج التي مارسها الأولون سيرا على الأقدام وعلى الدواب، ازدهرت أنواع كثيرة من الكتابات سميت بأدب الرحلات. لم يكن للمسافر المشاء بد من التفكير وهو يمشي. والتفكير يولد التحريض على النبش في الذاكرة، إخراج المكنون مكتوبا على أوراق، أو تخليده شفويا. أغلب الكتابات العربية القديمة انطلقت من السير على الأقدام، وأهم اختراع قام به الخليل بن أحمد الفراهيدي  كان انطلاقا من السير، من وقع الأقدام وحوافر الإبل. بحور وأوزان شعرية منظمة انطلاقا من السير. المشي هو السيد وهو المحرّض.

المشاء شخص يفكر بصمت، والصمت سلطة السائر في الطبيعة. طبيعة الأرض، وطبيعة النفس. قوة الصمت تسيطر على السائر ليل نهار، ولكن الاختلاف في الرؤية يقود لصمت أكثر. في الليل تطول المسافة نظرا لمحدودية الرؤية الناتجة عن الحجاب الذي يضعه الظلام بين السائر ومكان السير. والمشي ليلا يجعل الصمت سيدا، ويقوي حاسة السمع، ويجعلها أكثر الحواس أهمية. وفي كل ذلك تسجل الذاكرة ما تسجل، وتلتقط الحواس: العين والأذن والأنف كل ما تصادفه التقاطا تاما، وإذا أردت أن تكتب داخلك بصدق فعليك بالسير والمشي ليلا لتصفية الداخل من أصوات المدينة المزعج، رغم ضرورته.

 "سير القدرة". "قوة الصمت". " الإبصار". "الرحيل إلى العمق": مصطلحات تنغرس في ذهن المشاء، فيحاول إيصالها للآخرين شفاء من علل العصر.

 سِرْ على أقدامك أطول مدة ممكنة وبالتدريج، يقول لك المعلم وهو يقودك صوب أماكن مختلفة ومتنوعة. أقدامك يجب أن تذوق طعم التراب والحجر وأنت تسير، هكذا كان عمي[1] يقولل وهو يشرح  تعاليم دون خوان ماتوس من خلال كتابات كارلوس كاستانيا.

 

 2 


  الأحد 22/08/2006                       

على الساعة السادسة صباحا خرجنا من منزل عمي الكائن بحي السلام وتوجهنا للجهة الشرقية للخميسات[2]. دواوير واطئة البناء يقطعها الوادي الحار الذي يسقي بعض نباتاتها، وخاصة النعناع الذي يباع بكثرة في أسواق المدينة. كنا نلتقي بين الفينة والأخرى ببعض المارة. رجال على الأقدام، أو نساء فوق الحمير. بعض الأطفال كانوا يسيرون حفاة الأقدام والرؤوس. كان عمي يبادر بالسلام على كل من صادفه في طريقه، تارة بالعربية الدارجة، وتارة باللهجةة الأمازيغية، وحين سألته عن سر تمييزه بين من يعرف منهم العربية ومن يجهلها رد ضاحكا :: ـ من ملامحهم وحركاتهم تستطيع أن تميز، الكبار عادة يعرفون الأمازيغية، والصغار حسب التربية والعائلة.

رحلة السير على الأقدام ممتعة مع هذا الرجل المشاء الذي تلقبه المدينة كلها ب عمي وكأنه عم الجميع. يحافظ على طراوة جسده رغم كبر سنه تقريبا، وحين سألته عن أهمية المشي بالنسبةة له أجابني بفرنسية جيدة : je veux mourir souriant    آعمي. هو يحاور الأشجار والنباتات والحيوانات يقول لي:

ـ انظر إلى هذه الحيوانات كم هي مؤدبة، إذا كنت مارا بالسيارة، فإن الكلب يقوم من وسط الطريق ويتركك تمر قبل أن تصل إليه. يأخذ الأعشاب ويحدثني عن فائدة كل منها. أسماء الأشجار يعرفها وأعتقد أنها تعرفه أيضا. النباتات والتربة كل شيء يعرفه، وكأنه ولد داخل هذه الطبيعة. وحتى حركات الناس فهو يدرك مغزاها.

 الطقس حار، كنا نسير ونقطع الأرض المغبرة، ونصعد المرتفعات ثم ننزل.

ـ هذا المكان يليق بتدريب خاص، لكونه يعاكس طبيعة الإنسان، ومن ثم جسد الإنسان الذي عليه أن يتحول إلى جسد طفولي ليصير جسدا حقيقيا وطبيعيا.

أثناء مرورنا على فوهة كبيرة سألني :

- ما الذي يصنع في هذا المكان؟

- لا أدري يا "عمي". لعله غار لأحد الحيوانات. أجبته. قهقه قهقهته المعروفة وقال:

- من هنا يستخرج الكلس.

أثناء مرورنا جهة هذه الحفرة سقطتُ سقطة صغيرة استغلها عمي قائلا:

ـ انهض أيها الدابة. الآن ابتدأ جسدك في التوافق مع طبيعة هذه الأرض.

نمر على بعض الدواوير أو على دور منعزلة، فمن عادة السكان هنا الاستقرار داخل القطعة الأرضية التي  يمتلكها كل منهم. الأرض بتربتها الحمراء وأشعة الشمس الحارة ونحن نسير بلا توقف. وفي كل لحظة تعب كان يقول لي : ـ هنا سيبتدئ جسدك في التكون من جديد.


 3


فبراير 1986 في صياح يوم أحد، باكرا.

خرجنا على الساعة الخامسة صباحا، كنا ستة أشخاص كلهم ذكور. تتراوح أعمارنا،آنذاك، بين 31 و35 سنة، باستثناء عمي الذي كان يقودنا، كان عمره 43 سنة. انطلقنا في الظلام قبلل الفجر قليلا. عمي كان يشتغل في الحسابات والأمور المتعلقة بالاقتصاد بمصلحة تابعة لوزارةة المالية، أما نحن فكنا نشتغل في الحقل التعليمي، اثنان منا كانا مدرسان للغة الفرنسية واثنانن للعلو م الطبيعية وواحد للغة العربية. ابتدأت الرحلة وطلب منا عمي الصمت المطلق. حدثنا باقتضاب عن أهمية الرحلة بالنسبة للرياضيين، وهو أمر لم نكن ندركه جيدا رغم اطلاع أغلبنا على الثقافات الأخرى وعلى أسس الصوفية أحيانا. قطعنا أزيد من ثلاث كيلومترات، بعدها أوقفنا عمي وقال : ـ الآن ستبتدئ رحلتنا، قلت: ـ هل سنعدو أم سنركض يا عمي بعد أن كناا نسير. رد قائلا : ـ على كل واحد منكم أن يأخذ اتجاها في هذه التلال، نلتقي هناك، فوق تلكك الربوة،. ركزوا نظركم في اتجاه الشمس تماما، انظروا إلى القرص مباشرة، لا تزيغوا بصركم عنه، استمروا في المشي، وأعلى الربوة نلتقي.

انصرفنا، وبقي عمي قريبا مني. قال لي : ضُمّ أصابع يديك قليلا، تصور نفسك عقابا أو نسرا، اجعل رقبتك مستقيمة، وحاول إيقاف أصوات الداخل فيك. أعرف أنك تستطيع. إلغغ تفكيرك ما أمكن، فكر فقط في وقع خطوات أقدامك على الأرض. ادخل في التراب بذهنك وسر. لا تفكر إلا في سيرك. أعرف أنك ستكتب هذا يوما. الكتابة ترتبط  بالمشي. كل الكتاب مشاؤون بأفكارهم. يكتبون سيرهم الحقيقي وسيرتهم المتخيلة أو المفترضة.

لم أكن أدرك كثيرا ما يقوله لي ونحن في رحلة جسدية، فأنا شاعر يكتب القصيدة المكثفة كلحظات داخلية عليها أن تخرج قبل أن يقع ما لا تحمد عقباه. حاولت اتباع تعاليمه، وكنت أرى الشمس، وداخلها رأيت أشياء غريبة لدرجة أنني لم أكن معها موجودا البتة.

كانت الرحلة شاقة للغاية ولكنها كانت ممتعة، وكلما حاول أحدنا التوقف، صرخ عمي في وجهه :

 ـ هيا، ما زلنا في البداية.

منتصف النهار، ويقول ما زلنا في البداية. ما زلنا نسير وبعض الأجساد بدأت تتعب. هنا يبتدئ العمل الحقيقي. تعب الجسد هو إراحة للفكر، حينها سترجعون إلى مناطق الإنسان الداخلية الحقيقية. مناطق ما قبل ولادتكم.

أكثريتنا لم تكن تفهم هذا الكلام. مرت ساعتين على منتصف النهار، الساعة تشير إلى الثانية والنصف تقريبا، حاول حميد الجلوس وهو مدرس للعلوم الطبيعية، ولكن عمي صاح :

 ـ انهض، ما زال أمامنا الكثير.

ـ لا أستطيع، إن للجسد حدود يجب ألا يتعداها، رد حميد.

ـ كلا، رد عمي، فكرك هو الذي تعب، أما الجسد فلا حدود لتعبه.

نهض حميد بصعوبة أخذ يجرجر قدميه. كلنا تعبنا. كانت المرتفعات قاسية ونحن نصعدها، وحتى في النزول كنا نشعر بالإرهاق. لم يعد أحد قادرا على الكلام. لقد عم الصمت المطلق.

بدأت علامات المدينة تظهر كسراب، وأمام إحدى المنازل البدوية التي وصلناها كان رجل يحمل ماء. حاول حسن الشرب ـ وهو مدرس للعلو م الطبيعية أيضا ـ ولكن عمي رفض رفضاا باتا. طلب من الرجل قطعة طماطم، تناولها حسن بلهفة الجائع العطشان. وبعدها مباشرة أصيبب بقييء شديد. قهقه عمي قهقهته المعهودة، وقال لنا :

 ـ الآن، بإمكانكم الاستراحة قليلا.. . بعد خمس دقائق بالتمام أمرنا بالقيام،،، نهضنا بصعوبة وبعد سير شاق للغاية وصلنا إلى المدينة، وهنا قال لنا : ـ نلتقي في الحمام العمومي الرئيسي للمدينة.

 لم يحضر إلا اثنان منا للمكان المحدد. أنا وخطاب مدرس اللغة الفرنسية، مكثنا مدة قصيرة جدا في مكان شديد الحرارة، طلب منا أن نستريح مستلقين مدة 45 دقيقة لا أقل، وبعد ذلك بإمكاننا تنول ماء أو مادة حليبية دافئة. لم نستطع النوم طيلة الليل، وفي اليوم الموالي حين التقينا في المقهى، تحدثنا عما خلفته الرحلة التي استمرت أزيد من 11 ساعة دون توقف تقريبا، ولمسافة تفوق 25 كيلومترا، وبعدها بأسبوع سأفهم ما قام به عمي.

4
 

 خذ هذا الكتاب قال لي عمي، اقرأه وأعطني رأيك فيه. أخذته. كان يضعه داخل ظرف بريدي كبير نسبيا. في المنزل فتحته بمجرد دخولي. قرأت عنوانا لم يعني لي شيئا في البداية. عنوانن بحروف بارزة لطبعة أنيقة لدار نشر كاليمار  Voyage a Xtchlan لمؤلفه كارلوس كاستانيدا . تصفحته وبدأت القراءة، ولم أتوقف من ساعتها عن قراءته ومحاولة تمثله.

 في كتابات كارلوس كاستانيدا أنت أمام نهر متدفق، وفي غابة سرد حقيقية بشعابها ومفاجآتها.  كتابات مشي. وكلما قرأت جزءا من سيرة هذا العالم الساحر، ازددت مشيا في فكري وكتاباتي.

 حين سافر كارلوس كاستانيدا أول مرة لجنوب الولايات المتحدة وللمكسيك لم يكن يتوقع أنه سيسافر سفرا خاصا لا عودة منه. سفر في القلب والروح، لأن هناك فقط الترحال كما يقول دون خوان ماتوس المعلم الأول لكارلوس كاستانيدا " الترحال على طرقات القلب. على أيي طريق له قلب. هناك أسافر، والتحدي الوحيد الذي يستحق الاهتمام هو أن تختار طوله الكامل.. هناك أسافر متطلعا. متطلعا مخطوف النفس " [3]

منذ دخوله الأول لعالم السحرة والعرافين، سيخوض كاستانيدا غمار المغامرة وسيكتبها بأدق  التفاصيل، وهذا هو المهم، كتابة تجربة تماما كما يفعل كبار الصوفية.

كان الهدف من سفره هو دراسة نبتة معينة بحكم تخصصه في علو م البيولوجيا، لكنه سيتحول إلى شخص آخر. سينشغل هو أيضا بالمسكاليتو( بيوتي )، وبعشبة الشيطان (داتورا) وباوميتو(الفطر). وسيخرج بكم هائل من الأبحاث الأنتروبولوجية الخاصة به. يخلف كتبا هامة ومتعددة في هذا المجال من أهمها: الرحيل إلى إتشلان وعشبة الشيطان وسلطة الصمت وإبصار غيرها

 كانت أول الحالات التي أثارت انتباهي وأنا أقرأ هذا الكتاب لأول مرة هو هذا الحوار الذي دار بين كاستانيدا ودون خوان ماتوس حين أراد أن يستجوبه أو ل مرة. طلب منه اسم والدهه  ليسجله:

 ـ ما اسم أبيك

 ـ اسمه أبي

 ـ أقصد ماذا يناديه الناس

 ـ ينادونه أبي

 وكان أول درس سيتلقاه كاستانيدا كالصفعة هو: إذا أردت أن تعرف وأن تتعلم فعليك إلغاء تاريخك الشخص. سيدخل كاستانيدا في رحلة طويلة داخل النفس الإنسانية دون عودة.

 

    5

 بعد أسابيع، سلمت الكتاب لأغلب المشائين الذين شاركوا في الرحلة الأولى العجيبة، كل من قرأ الكتاب كان يصمت بعد الانتهاء من القراءة لأنه سيفهم ما قام به عمي، ومن أين استقاه، وسيحدثني عمي بتطويل عن صديق له اسمه فيليب وهو فرنسي أصله من الهنود الحمرر المكسيكيين الذين كانوا يمارسون المشي بطريقة دون خوان ماتوس.

 استمرت خرجاتنا بعد ذلك بشكل منظم في البداية، ثم بشكل متقطع، ثم بشكل أقل بعد أن فرقتنا ظروف العمل. البعض انتقل إلى مكناس، البعض إلى القنيطرة أو البيضاء، وأغلبنا غرق في الحياة اليومية وتربية الأبناء بالبحث عن ساعات إضافية لترميم ما تخلفه حوالة هزيلة لمدرسين كثيري الطموح. وأنا انتقلت إلى الرباط،  وبقيت رغم ذلك حريصا على هذه الخرجات، واستمرت علاقتي بعمي وثيقة أزوره بانتظام إلى مدينة الخميسات لنقوم برحلاتت صامتة.


 6 

 
رنَّ هاتفي النقال:

 ـ ألو شكون معايا

ـ ألو عمي. لا باس

ـ نلتقي نهاية الأسبوع في الخميسات، لدي شيء مهم أريد أن أسلمك إياه.

في نهاية الأسبوع كان عمي في انتظاري، وفور سلامي عليه، انصرف نحو سيارته رونو4 العجيبة، سيارة قديمة يتركها دائما مفتوحة فهو لا يخشى اللصوص لأن لا أحد يجرؤ على الاقتراب من عالمه وكأنه ساحر يخافه الكل، أخذ كتبا ذات حجم صغير وسلمني إياها كانت على التوال:

Le voyage à lxtlan _ Voir, les enseignements d’un sorcier yaqui  _ L’herbe du diable et la petite fumée _  La force du silence _ Histoire de pouvoir والمؤلف هو كارلوس كاستانيدا.

شعرت بفرحة كبيرة وأنا أتلقاها في طبعات جديدة أنيقة وجديدة. كانت عينا عمي تشرقان وهو ينظر إلى فرحتي الطفولية.

الكتابة. كتابة المشي، نحو دواخل النفس الإنسانية وبشكل مختلف تكشف عن سر مكنون يجب أن يدرك دون أن يقال كله. ذكرتني هذه الكتابات بالمجلدات الثمانية للفتوحات المكية للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي بطبعة دار الكتب العلمية التي كنت قد سلمتها لعمي ليقرأها ويقارنن  ويمارس متعة مشيه وكتابته الصامتة.

 

 

إشارات:

[1] شخصية حقيقية يطلق عليها الكل لقب عمي، مشاء كبير وقارئ للفكر المرتبط بكل ما هو  طبيعي.

[2] مدينة تقع على بعد حوالي 80 كلم شرقي مدينة الرباط المغربية تقريبا.

[3]  كارلوس كاستانيدا، تعاليم دون خوان ماتيس، ص: 5, 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.