}

استذكارات متأخرة عن واسط واسطة عِقد المدن

حاتم الصكر 26 مارس 2017

 

1

لا أثر فيها للحجّاج الذي ارتبط اسمه بها، ولكنْ لأحد أبرز ضحاياه مزار كبير، وعلى ثراها مشى الرسام الأول المزوّق يحيى الواسطي، متأبطاً مقامات الحريري. وتحت ثراها تنفس المتنبي سلاماً أبديًا حلم به طوال رحلته على ظهر الرياح وبصحبة القلق.

شبه جزيرة يلف دجلة ساعديه حولها ويستدير؛ ليمضي جنوبًا حتى عناقه الأزلي للفرات في مدينة القِرنة قريباً من البصرة. وسط العراق تتربع واسط؛ قريبة في قياس المسافة من المركز الحضري: بغداد، بحوالي مائة وثمانين كيلومتراً، لكنها بعيدة عنها تقاليدَ وثقافة. إنها تحتفظ لنفسها بعبق الجنوب الذي تعد هي بوابته ومفتاح الطريق إليه.

أخذت اسمها من توسطها بين البصرة والكوفة، وهما الحاضرتان اللتان شغلتا الفكر والعلم والأدب زمنًا طويلًا في بواكير التشكل الرسمي للدول على أرضنا. وظلّت تتوسط الطرق المؤدية للعاصمة التاريخية بغداد بعد ذلك بقرون.

من الماضي أيضًا تأخذ واسط رنينها السحري. ليس الحجّاج الثقفي وحده من ذَبح على ترابها من ذبح - رغم أن تأسيسها كمدينة يعود له كما تنص كثير من كتب التاريخ - هنا يرقد سعيد بن جبير الزاهد الذي ناجزَ الحجاجَ طاغيةَ العصر وجزّاره، فأوقفه في جدل عقلي أفضى لقتله، ولكنه انتصر عليه؛ فظل قبرُه شرقي المدينة إشارةً لشهادته وخلودِ اسمه وعمله، يؤمّه القرويون وأسرهم، تضيء شموعهم سواد لياليهم وظلام قبره، فيتوهج حياةً لا يعدلها خلود بشري. ويتوسلونه عوناً في شدائد أيامهم الكالحة الكثيرة، بينما تهدّم قبر الحجاج بماء دجلة الذي فاض ثائرًا ليمحو الطاغيةَ من الذاكرة، ويثأر لضحايا بطشه وجنون سلطته؛ فلم يعد يُعرف له مكان.


وآوت واسطُ ضريح المتنبي أبي الطيب الذي فتك به قاتلٌ لم نعد نعرف عنه شيئًا، وهو يعود من بلاد فارس، فيما ظل المتنبي شاغلنا حتى الساعة. درسٌ آخر في كنه الخلود ومقاومة الزوال... نتصفحه في كتاب واسط وأوراق أيامها كثيرة الحزن والألم.


طغاة متعددو الوجوه والألسنة سيجيئون من بعد، ويدفع أهل الكوت - في مركز واسط وعاصمتها - تحديدًا ثمن معارك لا يد لهم فيها بين الأتراك والبريطانيين في حصار الكوت الشهير الذي جعل الناس يأكلون كل ما ينبت على الأرض، وما يدب عليها من حيوان.

احتل البريطانيون المدينة في 29 سبتمبر/أيلول 1915 بقيادة الجنرال طاوزند (تشارلز فير فيريرز تاونسند" بعد هزيمتهم على مشارف بغداد. العثمانيون سينزلون من البصرة باتجاه الكوت؛ ليحاصروا القوات البريطانية قرابة مائة وسبعة وأربعين يومًا، كان المدنيون هم المحاصرون ضمنياً، فنالهم الحرمان الوحشي ونسجت الأخيلة وقائع غريبة لا تخطر في بال وحقائق دونها حتى الأغراب أنفسهم فيكتب طاوزند في مذكراته عن لحظة بالغة الدراماتيكية في رأيه حين اضطر ذات يوم من أيام الحصار ليذبح كلبه العزيز على قلبه ويطهوه طعاماً.

ثم يدخل الأتراك المدينة منتصرين بعد أطول حصار شهدته الحرب العالمية الأولى. وبنشوة النصر ورد فعل الخوف وغريزة الثأر سينتقمون من الأهالي بدعوى ممالأة الكفار ونصرتهم أو التجسس لصالحهم. بشر بين نارين: نار منهزم ونار منتقم. ويحترق كل شيء.

واسط تقاوم ذلك الموت باستلهام عذوبة ماضيها ورهافته، فهي موطن المزوّق والرسام الأول المعلَن يحيى الواسطي، الذي لم يكن رسام توضيح للمكتوب في مقامات الحريري بل مولّد معان وخيالات بصرية، تضاف لمتونها فتزيدها جمالاً، وتتوسع من حدود الكلمات لتلامس فضاء الصور وتخييلاتها.

التاريخ والجغرافيا يتآزران ليصنعا أسطورة هذه المدينة. المكان الذي يشع كجوهرة في غبار صيف عاصف أو تراب يغطي وجهها إلى حين؛ لكنه لا يزيل عنها ذلك الوهج. والماضي الذي يقيم في أوقاتها وفضاءاتها وأزياء سكان الأقاصي والقرى والرعاة وزارعي الحقول.

أشرف المهندسون البريطانيون عام 1939 على بناء سدتها الشهيرة التي يمر عبر بواباتها الست والخمسين ماء دجلة تاركًا ضجيجاً قوياً لا يعتاده الزائر إلا بعد أيام. فالبوابات تدفع الماء الذي يضعف بعد أن يخرج من إبطه الأيمن نهران هما الدجيلة والغراف، فتعيد بوابات سدة الكوت ضخ الماء بقوة ليتجه جنوبًا بعد ازوراره ملتفًا نحو الجنوب الشرقي، صاعداً بانتظار اقترانه بالفرات، في فتحة شط العرب المتقدمة من جهة البصرة.

هي واسط الحنين والتراث الشعبي شعراً وزياً وعاداتٍ وموطن الهبّات الثورية على النظام الملكي الذي واصَلَ صنيع العثمانيين الذين عينوا وجهاء المدن ممثلين لهم ليجبوا الضرائب، فأقطعوهم الأراضي الزراعية ليعمل فلاحوها بالسخرة كالأقنان، فكرّس واحداً من أكثر نماذج الإقطاع وقصصه العجيبة شراسة، حيث سيمتزج الفقر والألم والبساطة والطيبة.

2-

مدينة سكنت في الوعي والشعور، وصارت لها في المخيلة صورة شاخصة بعد عقود الاغتراب في شاشة الذاكرة. رغم أنني أعتقد بالفكرة القائلة بأن الأمكنة بالناس، وأن ما يبقى من تلك الأمكنة هو ما تعطيك خلال حياتك فيها؛ فيكون لكل مدينة لون ترسّخه في أعماقك وتتشكل هيئتها على وفق تلك المعايشة. من هنا تتباين محبتنا ورؤانا للمدن ونختلف أو نتفق في قيمتها وجمالياتها، بل تتبدل صورها في وعينا من موقف لآخر.

حين اخترت الكوت عام 1966 للعمل مدرّسًا للغة العربية في إعداديتها، كنت منساقًا لأكثر من مؤثر؛ منها انتمائي للمدينة في الأصل العائلي، حيث نزحت منها أسرتي لبغداد التي ولدت فيها وعشت. ولكونها الأقرب جغرافيًا للعاصمة التي كانت تعج بالأنشطة في تلك الحقبة المتوهجة في تاريخ الثقافة العراقية. لكن هاجسًا أكبر من العاملين السابقين، كان يغريني لاختيارها للعمل في التدريس هو ما تمثله في ذاكرتي عبر القراءة. حتى بالعودة لاسمها التراثي: واسط  كما تنقله المدونات، مصحوباً بالمأثورات والقصص والتاريخ الحي.

سبقني للعمل في المدرسة كثير ممن كنت أقرأ لهم في الصحافة، كالناقد فاضل ثامر، والباحث الدكتور خليل العطية، كما قابلت فيها طلابًا يشاركونني في التوجهات والاهتمام مثل علاء الدين محسن وعقيل مهدي وعبد الجبار كاظم وعلي عبد الأمير صالح، وحميد العقابي وأسعد الغريري وغيرهم. صارت مكتبة المدرسة التي يديرها تراثي وشاعر هو إبراهيم الشيخ حسون، واحدة من ألذ أمكنة حصصي التدريسية، وصرت أصحب طلابي إليها حيث نعد نشرات الحائط وما أثارته من شغب حينها، ولا سيما ما كان يحرره بعض الطلبة التقدميين في السينما والتشكيل والأدب. خارج حدود المدرسة كان ثمة تياران يعملان في الوسط جعلاني بعيدًا نسبيًا عن الحراك في المدينة؛ وهما الشعر الشعبي الذي لم يكن لي فيه إسهام ما، والشعر التقليدي المحافظ الذي يبرز في المناسبات والمباريات المدرسية. شخص واحد عقد لي الصلة مبكرًا مع ما سيكون عليه مستقبل علاقتي بثقافة المدينة، وهو القاص والفنان الشهيد حميد ناصر الجلاوي الذي تربطني به قرابة، كانت مفتاحًا لصداقة طويلة انتهت بغيابه بعد انهيار الجبهة الوطنية وتسلط حكم البعث الدموي، ونفيه للعمل معلمًا في تكريت حيث تم تغييبه هناك، ولم يظهر له أثر. كانت قراءاتنا المشتركة ولقاءاتنا بعضًا من ذلك الانفتاح المستقبلي على الاندماج في ثقافة المدينة عام 1972 في العودة الثانية لها، بعد انتهاء انتدابي للعمل مدرسًا في عدن عقب استقلال اليمن الجنوبي من الاحتلال البريطاني.

جيل جديد كان قد نشأ خلال ذلك، وظهرت أسماء تحديثية تلتم حول التجديد في الكتابة الشعرية والسردية، إضافة لمن عرفت من قبل؛ كالشاعر صاحب عبد الحسين ياسين والتشكيلي صباح بلكت وبسام صالح وصالح العبودي. وقد نشطت من خلال المتاح آنذاك من مجالات ممكنة وفي اللجنة الثقافية لنقابة المعلمين خاصة، وفي النادي الخاص بالنقابة المطل على كورنيش المدينة جرت العديد من اللقاءات والندوات. جواد الظاهر وحميد حسن جعفر وعادل العامل وسميع داود وأنا، قمنا بجمع قصائدنا لتنشر في كتيب شعري بعنوان نوارس الموجة الآتية.

كانت حداثته إشارة لما يجمعنا كشعراء ومهتمين بالحداثة. كثير منا كان يراسل الصحافة الثقافية العراقية والعربية وينشر نتاجه فيها. ولا يغفل أحد ما كان للنشاط السياسي من أثر في انتعاش الحالة الثقافية؛ فقد أتاح ائتلاف الجبهة الوطنية للمثقفين الشيوعيين ولليساريين من أصدقائهم أن ينشطوا ويلفتوا الأنظار لما يعتمل في المدينة من حراك ثقافي. تعرفنا بسبب ذلك لأول مرة على أسماء عديدة شابة مثل ياسر العطية وغني العمار ومحسن صابط الجيلاوي واسماعيل سكران وعبد صبري، راحت تتكون رويدًا وتنتشر مساهماتها الصحافية والأدبية. ولم يكن الجو الثقافي يخلو من مماحكات ومناكدات طريفة أحيانًا وحادة أحيانًا أخرى، لا سيما وتيار التقليد ظل منتعشا، وموجة الشعر الشعبي تصادر جمهور الشعر وتتناغم مع إيقاع الصراع السياسي والتسلط الشمولي. أجيال تتقدم وتتنوع الاهتمامات ويحضر بقوة؛ مسرحيون وشعراء وتشكيليون من المدينة لم ألتق بهم خلال وجودي هناك: الشاعر علي جعفر العلاق والروائي برهان شاوي والقاضي راضي الحاج حمزة الراضي، والركابيون: الروائيان عبد الخالق وهشام والفنان عبد الصاحب، والمسرحي عبود ضيدان وخليل الحركاني وشفيق مهدي وكريم ناصر وطه الزرباطي وحيدر حاشوش ورفاه الإمامي ومحسن الذهبي، والأكاديميون علي حداد وسلمان الواسطي، والناشطون في الشعر والسياسة والثقافة من شتى الاختصاصات. ومن فنانيها كعازفي الفرقة الجوزية والفنان حاضن العود الدائم وعاشقه نصير شمه.

وإذ تكر دورة السنين وأنتقل للعاصمة، سأفقد - في مفارقة واسطية نادرة - أوسط أولادي بمكيدة حبها. لقد كان مولده بحسب بطاقته الشخصية في واسط مطلع السبعينيات سببًا لدى مجاهدي الظلام وقطاع طرق الحضارة باسم الدين، كي يخطفوا شبابه ويغيبوه ذات صباح خريفي من عام 2006 وهو في طريقه لعمّان هرباً من جحيم العنف الذي تأججت نيرانه بقوة حينذاك.

وكالعنقاء تنهض من رماد حرائقها وترتقي واسط ثانية من عزلتها لتسكن القلب.

ستنشأ جامعة في واسط وفرع لاتحاد الكتاب، وتسهم المرأة في مجالات العمل. ويظل سحرها جاذباً للقلوب وهي تحيي مهرجان المتنبي سنويًا، بعد أن أقيم تمثال للمتنبي في البقعة التي يُظن أنه قتل فيها في مدينة النعمانية من ضواحي واسط. هنا سيجد المتنبي سلام روحه، وتحنو واسط بأديمها لتلفّ أحلامه وأوهامه وضجراته واختياراته وخيباته. يهدأ فلا تقلقه ريحٌ تعربد يمينًا وشمالاً وتعصف بكيانه.

وفي عودة سريعة للعراق أواخر عام 2016، يوافق إيقاعها نبض قلبي المرتجف من رعشة اللقاء بعد سنين اغتراب وهجرة، سأهدي مكتبتي التي رافقت نضجي وصباي وشيخوختي لمكتبة جامعة واسط عرفاناً رمزياً للوشيجة التي ظلت تربطني بالمدينة، وتربطها بذاكرتي. كتبي الآن في مدينة الواسطي لا تزوقها إلا أيدي - وعيون - قارئاتها وقرائها من أجيال تولد، لتدفن أسرارها في مياه دجلة التي تواصل هديرها آسفةً؛ لأنها تفارق واسط جرياً صوب الجنوب القصي، تلاحقها نوارس الشاطئ بعد أن أدركها هزال الشجن والذكرى والألم.

 

 

منظر جوّي للمدينة

سدة الكوت             

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.