}

بول سالوبيك: سبعة أعوام مشياً على الأقدام

فيديل سبيتي 8 فبراير 2017
كان لكل من الرحّالة والمستكشفين دوافعه الشخصية الخاصة، أو العملية، للقيام برحلته إلى هذه البقعة السرية من المعمورة أي: شبه الجزيرة العربية. وقد دفع بعض هؤلاء الرحالة حياتهم ثمناً لحب المغامرة والاكتشاف، وبعضهم أمضى سنوات طويلة من عمره متنقلا بين ربوع الجزيرة عابرا بحارا من الكثبان الرملية أو متنقلا بين القبائل يحيا حياتها ويأكل طعامها ويلبس ملبسها متلقنا عاداتها وتقاليدها. وبعض هؤلاء الرحّالة أشهر إسلامه إما عن اقتناع، أو في محاولة لدخول الأراضي المقدسة، أو لتسهيل قبوله في المجتمعات القبلية والعشائرية.

بدايات وصول الرحّالة

يؤرخ دارسو أدب الرحلات إلى الجزيرة العربية بدايات قدوم الرحّالة الغربيين برحلة لويس فاريثما البولوني إلى مكة والمدينة منطلقا من سورية سنة 1503. إلا أن التاريخ العلمي لـ "اكتشاف" الجزيرة العربية يبدأ مع رحلة كارستن نيبور أحد أعضاء البعثة الدنماركية التي أرسلها ملك الدانمارك لاكتشاف اليمن في عام 1761. وفي عام 1772 ظهر الكتاب الأول لنيبور الذي أهداه إلى ملك الدانمارك يصف فيه البلدان التي زارها، من النواحي الدينية والاجتماعية والسياسية واللغوية وفصول عن المناطق المختلفة للجزيرة.

منذ القرن الخامس عشر الميلادي بدأت زيارات الرحّالة والمستشرقين إلى شبه الجزيرة العربية، وساهمت في كثافة هذه الزيارات أهداف الإمبراطوريات الأوروبية بالتوسّع والسيطرة على طرق التجارة والممرات المائية الحيوية في البحر الأحمر والخليج العربي وجزر المحيط الهندي بغرض تأمين الحاميات البحرية وقوافل التجارة.

مع منتصف القرن التاسع عشر تركز اهتمام الرحّالة الجدد على وسط الجزيرة التي كانت تموج بأحداث وتطورات سياسية مختلفة لكونها المنطقة الوحيدة التي لم يتيسر للرواد الأوائل زيارتها. وكان على رأس هؤلاء جورج أوغست فالين وجيفورد بلغريف وكارلو غوارماني وتشارلز هوبر والليدي آن بلنت ويوليوس أوتينج والبارون إدوارد نولده وارتشيبالد فوردر وأس أس بتلر، والويس موزيل وسانت جون فيلبي.






ترحال معاصر:

في القرن الواحد والعشرين برز رحّالة معاصر، وهو الصحافي والكاتب الأميركي في مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" بول سالوبيك الحائز على جائزة "بوليتزر للصحافة". فبدأ في مطلع 2013 رحلة مشياً على الأقدام تستمر سبعة أعوام، حتى عام 2020، وتهدف إلى اقتفاء آثار أوائل البشر الذين هاجروا من أفريقيا إلى العالم الجديد قبل ما يقارب الـ 50 ألف سنة. يسير بول متتبعاً السجل الأثري الذي يرسم خط هذه الهجرة، من فترة ما قبل التاريخ، وبدأت رحلته من النقطة الأولى في وادي الصدع العظيم في القرن الأفريقي، ومنها إلى الشرق الأوسط ثم آسيا الوسطى، ثم إلى منطقة التندرا في سيبيريا، التي سيغادرها عبر مضيق بيرينغ إلى أميركا الشمالية.

 

سالبويك يروي مشاهداته السعودية:

في اليوم الذي وصلت فيه الباخرة التي تقلني إلى ميناء مدينة جدة (أكبر موانئ المملكة العربية السعودية على البحر الأحمر) قادماً من جيبوتي، أصابتني الدهشة كمن يبصر الحضارة والتطور العمراني والاقتصادي لأول مرة، بعد أن أمضيت ثلاثة أشهر متنقلاً في أكثر القرى والأماكن نأياً وعزلة في القرن الأفريقي.

جيبوتي مدينة كبيرة على الساحل المقابل من البحر الأحمر، لكن بدا أن تطورها لا يذكر مقارنة بمدينة جدة، التي بدت لي منذ النظرة الأولى مدينة حديثة ومتقدمة. في شوارع المدينة الداخلية كان كل شيء يوحي بحداثة وتحضّر، فالمباني عالية، والشوارع معبّدة بهندسة حاذقة، لم تكن هناك منحنيات ودوائر أو أتربة كتلك التي اعتدت المشي فيها خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، كان كل ذلك مباغتاً وغريباً ورائعاً في الوقت نفسه.

كان يومي الأول يوم عمل كالعادة وكان الجو حاراً والشمس قوية. حينما وصلت إلى جدة، كنت أسير في شوارع المدينة الخالية تماماً من المارّة، فالجميع في جدة تقريباً يستقلون السيارات، ولم يكن أحد يمشي سواي. كانت تلك مفارقة أخرى، فمن حيث جئت في القرن الفريقي كانت طريقة التنقل الشائعة هي السير على الأقدام، فالسيارات نادرة، وأحياناً معدومة خارج المدن الكبرى. الطرق هناك موسومة بآثار الأقدام للدرجة التي تجعلك لا تقوى على عدها.

فكرت بأن الشوارع هنا، كما في الولايات المتحدة، مصممة لإطارات السيارات لا للمشاة. كل تلك السيارات التي كانت تسير في طريقي جعلتني ألحظ كيف أن السعوديين مولعون بالسيارات، إلى حدٍ كبير الشبه بالأميركيين، وربما يكون لحرارة الجو المرتفعة والرطوبة الكثيفة دورها في دفعهم للتنقل بواسطة السيارات.

قمت بترتيب أوراقي مستعدا لاستئناف رحلتي من جدة بعدما ابتعت جملين لأعبر بهما الصحراء، وأطلقت عليهما اسمين عربيين هما "فارس" و"سيما".

سمعة المملكة العربية السعودية أنها مكان مغلق يصعب الدخول إليه، لكن لو كانت لدى الناس في الخارج أي فكرة عن مدى حرارة الناس هنا فإنني أجزم بأن هذه النظرة النمطية ستتغير، أستطيع القول بعد وصولي إلى هنا بأن السعودية أكثر بكثير من هذه الصورة.

المئة كيلومتر الأولى في طريقنا إلى خارج جدة كانت صعبة، فالشوارع مكتظة بالسيارات، والمشروعات التنموية ومشروعات البناء والأسوار تحيط بنا من كل جانب، لذا اضطررت إلى سلوك طريق متعرج أثناء مسيري، واستمر هذا لمسافة، ولم يكن ذلك مناسباً للجمال، كنت لا أكف عن سؤال مرافقي محمد: متى سندخل إلى الصحراء؟ وكان يجيب في كل مرة انتظر. وأخيراً، كنا هناك فجأة بعد أن قطعنا ١٢٠ كيلومتراً.

أثناء مسيرنا إلى خارج جدة وقبل دخولنا إلى الصحراء مررنا بمنزل صغير معزول، خرج صاحبه ودعانا فوراً للراحة وقدم لنا الشاي بكل كرم وترحاب. هذا الموقف تكرر معي كثيراً بعدها، فالأشخاص العاديون الذين قابلناهم في المملكة كانوا ببساطة الواحات بالنسبة لنا. أعرف أنا ما سأقوله أشبه بـ "كليشيه" ولكن كرم السعوديين أسطوري ويخطف الأنفاس ليس على المستوى الرسمي، إنني أعني بالذات عامة الناس ممن صادفناهم، لا يمكن أن أنسى ودهم وانفتاحهم، وردة الفعل الأولى المتمثلة بمد اليد للمصافحة.

 

"لست سائحاً، ولا ناشطاً اجتماعياً يجوب العالم، ولا أود أن أفكر بنفسي على هذا النحو، أنا رحالة وصحافي، أي بمعنى آخر أنا راوٍ للقصص رغم أنني لا أستطيع التحكّم بمسار رحلتي بشكل كامل فأترك الطريق تقودني وأسلم زمام أمري للفرص ومعطيات الرحلة في كثير من الأحيان، لكن نتائجها النهائية ستكون مرتبطة بالبشر".

البحث والتحضير للرحلة استغرقا عامين كاملين، وكأي صحافي وكاتب أقوم بواجبي كاملاً في البحث عن المكان الذي أقصده قبل أن أصل إليه لأعرف عنه أكثر، لكن لا بد من خلق نوعٍ من التوازن، لأنك عندما تقوم بالكثير من البحث تغلق رؤيتك ولا تعود قادراً على رؤية الفرص والأمور كما هي في الحقيقة، وليس كما هي في مخيلتك. أنا مستعد لإلقاء كل الأبحاث التي قمت بها في سلة المهملات فوراً لأخلق قصة جديدة والتقط فرصة عابرة بمحض الصدفة.

يجب أن أقول إنه في أكثر الأماكن النائية والفقيرة التي زرتها كنت أرى آثار الحضارة المعاصرة تحديدا في أفريقيا. كأن ألتقي برجل من قبائل "العفار" لا يرتدي الثياب، ويحمل بيده رمحاً، وبالأخرى هاتفاً خلوياً. الأطفال يعرفون فيسبوك والإنترنت في مكان تظنه للوهلة الأولى منقطعاً عن العالم الحديث. نحن نعيش في عصر حيث طفرة المعلومات الأكبر في حياة البشر على الإطلاق، وهذا غير سابق في التاريخ الإنساني.

 


مراقبة وتوثيق ومصادفات

قمت بكتابة قصص عن التغيير وما يفعله في الثقافات والشعوب، في إثيوبيا وفي المناطق النائية التي زرتها. رأيت أن الاقتصاد العالمي قد سبقني إليها عبر المستثمرين الأجانب، وقد سرت عبر مصانع تكرير السكر العملاقة هناك، وكنت أسير ببطء لأفهم ما تفعله تلك المشاريع هناك، وما الذي تفيد به هؤلاء الناس، أي السكان المحليين من قبائل "النوماد" الذين يقف بعضهم ضدها لأنها دخيلة على ثقافتهم، ويرحب بها البعض الآخر لأنها تتيح لهم فرص وظيفية وتحسين نمط معيشتهم. لو كنت صحافياً عادياً لكنت حاورت 20 شخصاً وأمضيت أسبوعا ورحلت، لكنني لم أرد أن أقدم أجوبة سطحية على أسئلة عميقة تتعلق بتلك المجتمعات، لذا بقيت هناك لمدة عشرين يوماً متنقلا بين الناس، وكانوا يأتون ويجلسون متحلقين حول النار في المساء ويناقشون أحوالهم ومآلهم وآمالهم من تلقاء نفسهم أمامي، وكان ذلك رائعاً بحق إذ إنها الوسيلة التي كانت تروى القصص بها عبر التاريخ. وهكذا تستطيع أن تؤثر في أفكار الناس عبر مناقشتهم وجعلهم يرون من خلال الزوايا المختلفة للموضوع.

كتبت أيضاً عن موضوعات علمية بعض الشيء مثل الجينات البشرية، وتاريخ الإثنيات، وكتبت عن قوة الذاكرة في السفينة السورية التي عبرت بها البحر الأحمر إلى هنا، كانت باخرة لنقل الأغنام والجمال وكان ربانها ومسؤولوها سوريون فيما الطاقم من جميع جنسيات العالم. وكان الوضع في سورية يشغلهم بالكامل، هؤلاء الرجال في عرض البحر لم يكن لديهم مكان ليعودوا إليه بعدما دمرت الحرب منازلهم. استطعت تغطية هذه القصة بشكل لم يسبق لي قط في حياتي الصحافية فعله، ولا أظن أنه سيمكنني القيام به حتى لو زرت سورية. فعلت ذلك عبر ذاكرة الرجال في السفينة، لقد كانوا مثل جزيرة سورية في منتصف البحر الأحمر، وكانت رحلة حزينة.

 

الإرادة على المحك

يبدو السير لمدة سبعة أعوام في شتى أنواع الظروف البيئية والجوية أمراً عسيراً، ويتطلب إرادةً قوية والتزاماً كاملاً بالهدف، إلى الآن مررت بأوقاتٍ شعرت فيها بأنني لست مستعداً للمضي أكثر على الإطلاق، وفي أوقاتٍ أخرى شعرت بأنني أسير على الطريق الصحيح، وأنني بكامل تركيزي. هناك تراجع وتقدم على الدوام، لكن فائدة السير تكمن في كونه يبطئ حركتي ويمنحني وقتاً وصفاءً لأفكر كثيراً وأجري تقييماً، ولو كنت أعبر الطريق بالسيارة، أو بوسيلة مواصلات سريعة لم أكن لأملك هذا الوقت. ومن ناحية أخرى فإن السير صعب ومتعب، والجو حار جداً، ورائحتي أصبحت تشبه رائحة الجمال تماماً، ولكنني ازددت يقيناً وإدراكاً لقدرة الإنسان المذهلة على التأقلم. مع مرور الوقت تتلاشى هذه الأفكار بعيداً لصالح التركيز والعمل ومتابعة الطريق، تماماً كالجمال.

ثمَّ، أليس الأصعب أن نكون في مكاتب مكيفة كصندوق كبير على مدى ثلاثة أرباع حياتنا، أليس من الصعب ألا نعرف عن الواقع في الخارج سوى ما نراه عبر الزجاج الشفاف، أجد هذا عقوبة أشد من التعرّق والإعياء في الخارج على الطريق حيث الواقع والظروف البيئية الحقيقية، وحيث يمكنك أن تنظر إلى الأفق على اتساعه وتتوجه إلى أي نقطة تريدها. عندما تكون في سيارتك وتغلق زجاج النوافذ، وتدير جهاز التكييف، والموسيقى، أو تتحدث إلى أصدقائك فأنت لست حقاً هناك، إنك في مكانٍ آخر يختلف عن الواقع الحقيقي، وهذا أحد أهداف رحلتي هذه، أريد أن أتخلص من كل هذه النفايات لأجبر نفسي على أن أكون في الواقع.


حدود وسياسة

أحياناً تعيقني الخلافات السياسية فالحدود تكون مغلقة أمامي ولا مجال لعبورها ببساطة، ولا أستطيع عبورها بطريقة غير قانونية، العوائق تصبح جزءاً من الرحلة كلما تعمقت فيها، مشيت ستمائة كيلومتر في منحنى في القرن الأفريقي اضطررت لقطعها بشكل متعرج وعبر طرق وعرة جداً وكلفني ذلك ضعف الوقت وضعف المسافة، والسبب كان صراعاً ونزاعاً مسلحاً بين القبائل التي تقطن المنطقة على الموارد الطبيعية فيها. كنا ندور حول الطريق بين العيسى والعفار، كان دليلي يقودني في طرق يعرفها ويحفظها في ذهنه ولم تكن على الخارطة، كان يقول لي إذا سرت على الطريق ستصاب على الأرجح بطلقٍ ناري مباشرة، كنا كأننا نعبر في تلك المرحلة من الرحلة خطاً غير مرئياً عبر النزاعات الأثنية والحروب، وكان ذلك محبطاً لأن القرى التي أقصدها كانت أمامي وعلى مسيرة يومين فقط، لكننا لم نستطع ذلك واضطررنا لقطع المسافة في خمسة أيام من أجل سلامتنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.