}

يوميات القدس: طريق الآلام

بيير لوتي 1 مارس 2017
أمكنة يوميات القدس: طريق الآلام
لقطة استشراقية خارج أسوار القدس

يؤرخ هذا النص لتفاصيل رحلة  الكاتب الفرنسي جوليان فيو Julien Viaud المعروف باسمه المستعار بيير لوتي Pierre Loti 1850-1923 إلى فلسطين قبل ما يقارب مائة وثلاثين عاماً. جدير بالذكر في هذا السياق، أن هذه الرحلة التي قام بها بيير لوتي عام 1894 قادته إلى أريحا والناصرة والجليل وغزة علاوة على القدس.
تعتبر هاته اليوميات تأريخاً لمشاهدات الرحالة في الجغرافيا المادية والرمزية للمدينة المقدسة التي تعتبر قبلة الديانات التوحيدية الثلاث. ويمكن للقارئ في هذا السياق القبض على العمق الإنساني لبيير لوتي من خلال حرصه على التزام الحياد والموضوعية وعزوفه عن المسبقات السلبية في سياق تعاطيه مع الحمولة الدينية للأمكنة؛ وهو ما يشكل نقيضا للنزعة العنصرية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، وخصوصا في ما يتعلق بالسرود الرحلية الأوروبية التي اهتمت بالشرق والإسلام. ويمكن للقارئ أن يحيط علماً بكون اليوميات الخاصة بقبة الصخرة والحرم الإبراهيمي الشريف ومسجد عمر وحائط المبكى مديحاً للتعدد التاريخي الطبيعي الذي وسم هذه المدينة المقدسة في ظل الحكم العثماني والذي أصبح أثرا بعد عين في ظل الاحتلال الصهيوني.


النص:

مارس 1894

حل يوم دخولنا إلى القدس الذي طالما فكرنا فيه من قبل شأننا في ذلك شأن حجيج الزمن القديم وعلى امتداد الأربعين يوما التي قضيناها في الصحراء. استيقظنا قبل شروق الشمس على  ريح عنيفة. ولولا أشجار الزيتون التي كانت تحف بنا، لصارت خيامنا نهباً للرياح.

يتحتم علينا أن نرتدي ثيابنا على عجل وأن نطوي خيامنا ونحزم أمتعتنا، وسرعان ما ألفينا ذواتنا في الخارج فوق الحجارة الحافة بالحديقة على حافة الطريق في غمرة صباح كاب وبارد. هكذا وشأن الرحل الذين يلفون أنفسهم نهبا للضياع والقلق، فإننا امتطينا صهوة جيادنا قبل ساعتين من التوقيت الذي فكرنا فيه كي ندلف إلى المدينة المقدسة ونبحث عن مأوى نهائي لنا.

أشرقت الشمس وكانت شاحبة وذات صفرة فاقعة تثير الفزع. كانت شمسا تثير الدوار وتندس وسط غيوم فظيعة وخلف زوابع من الغبار والرمل. كان كل شيء يهتز ويطير بتأثير الريح التي كانت ما تفتأ حدتها تزداد.

مشينا على امتداد ساعة من الزمن وسط زوابع من الغبار تقفوها زخات عنيفة من المطر كانت تطوي برانسنا مثل أجنحة وتصفع وجوهنا مثل ضربات السياط بشعر جيادنا.

هناك تلوح لناظرنا مدينة كبيرة تبدأ في الظهور رويدا رويدا فوق جبال صخرية ومثيرة للشجن - ركام من البنايات المتفرقة والأديرة والكنائس تنتمي الى كل الأشكال والبلدان ومن خلال المطر والغبار الحاد، يلوح كل ذلك وفق طريقة مثيرة أيضا للحيرة، وبين الفينة والأخرى  تحجب سحب كثيفة عابرة كل هذا المشهد.

لم يكن ثمة في الجانب الأيسر للجبال غير بعض البنايات المثيرة للخيبة، ولكن من الجانب الأيمن توجد أيضا القدس العتيقة كما هو الشأن في الصور الساذجة للكتاب المقدس. وتبدو المدينة المقدسة شديدة التميز من بين كل المدن بأسوارها المتبعثرة في فوضى وسقوفها الحجرية وقبابها الصغيرة. القدس الرمادية والعالية والمنغلقة على نفسها خلف أسوارها وتحت سماء سوداء.

وفي غمرة هبوب عنيف للريح مر القطار وهو يطلق صافرته؛ و كان من جراء ذلك أن هاجت خيولنا وتحولت أفكاري إلى شتات مطلق وعصف هشيم.

وصلنا إلى جرف سحيق بمحاذاة طريق متعرجة ووسط الركام البسيط والمثير للأسى للبنايات التي تغمر التلة الواقعة يسارا - الفنادق ومحطة القطار والمصانع- والأسوار المعتمة التي تشبه القلاع والتي تغمر التلة الواقعة يميناً. أناس من كل الجنسيات يعمرون حواف الطريق: أتراك وعرب وبدو، ولكن خصوصا هاته الوجوه القادمة من الشمال التي لم نكن نتوقع رؤيتها هنا ويتعلق الأمر بحجاج روس فقراء يرتدون ما يشبه الأسمال، وما يميزهم لحى بيضاء طويلة وخوذات من الوبر الكثيف.

وها نحن نصعد صوب المدينة ذات الأسوار العالية التي تطالعنا بأبراجها وصوامعها وبتشكيلها الحزين بشكل مثير للغرابة من خلال هذه الحشود البشرية وعبر هذه الطريق الظافرة العامرة بأشكال من الحصار والمعارك وحيث سقط الآلاف من الصليبيين دفاعاً لا محالة عن العقيدة. استغرقنا في غمرة لحظات في فهم وإدراك المكان الذي نوجد فيه ثم أعقب ذلك شعور بالانفعال العميق. بيد أن ذلك حدث بشكل خاطف وعابر، ولم يلبث أن انحسر بوطأة الضجيج وعنف الريح وصخب القاطرات ووكالات السفر. وحين وصولنا إلى الأعلى مررنا تحت الباب الدائرية للقدس في غمرة من اللاوعي وبتلك العجلة غير المفكر فيها التي تميز من لا يفكر في غير الوصول إلى الفندق. وتحت المطر الذي بدأ في التهاطل بإيقاع سريع وطوفاني وشديد البرودة.

إبريل 1894

آثار لا تقدر بثمن

المطر الطوفاني الذي لم يتوقف البتة جعلنا حبيسي الفندق منذ ليلة أمس إلى أن جن الليل. وما زال المطر على حاله اليوم تحت سماء شمالية. افتقدنا الإحساس بوجودنا في القدس بتأثير حدة الطابع المألوف والاعتيادي لهذا الفندق الغاص بالسواح واضطرارنا للانحباس داخله بجوار المدفأة ونحن بمخبرنا الأوروبي. تبدو ذكرى دخولنا بالأمس إلى هذه المدينة الرمادية ومن خلال هذه الباب السارازانية وعلى صهوة هاته الخيول التي دوختها الرياح أشبه بحلم.

كنت مأخوذا داخل احدى الصالونات بمعيّة أميركيين وبريطانيين بمشاهدة صور أحدث الصحف الصادرة في أوروبا والاستعلام دون أهمية أو مبالاة عن الأحداث الصغيرة التي جرت أثناء فترة ترحالنا فيما جماعة من تجار منتجات القدس السوريين يمطروننا بأشياء تدل على الورع والتقى مصنوعة من الخشب والعاج من قبيل جيتشيماني وسام سبيلكر ولو مالفير؛ وهو ما جعلنا نتساءل عما إذا كانت هاته الأشياء موجودة حقيقة وعلى مقربة منا. وقد أجلنا رؤية ذلك إلى وقت لاحق بسبب هذه السماء الغائمة والكابية التي لا تكاد تصفو. ومهما يكن فقد كنّا دون عجلة وعمدنا دون وعي إلى الحيطة والتحفظ بسبب خشيتنا من خيبات عظيمة.

على الرغم من ذلك غادرنا في المساء الفندق للمرة الأولى. جاء قنصل فرنسا السيد ل لكي يصحبنا بكل ظرف وبين زختي مطر إلى زيارة الآباء الدومينيكان الذين يقيمون في الجوار خارج الأسوار والذين استجابوا بإلحاح منه كي يضطلعوا بدور الدليل ذي المعرفة الضافية داخل المدينة المقدسة. استقبلنا الآباء الدومينيكان داخل صالون الرهبان وما يسمهم ذلك الهدوء الرصين الذي يميز رجال الدين. وقد أحسسنا للوهلة الأولى بأننا في حضرة رجال من المقام الرفيع وضالعين في العلم.

وفي الحديقة التي اقتادونا إليها في الأول قام هؤلاء الآباء بتنقيب عميق واكتشفوا آثارا لا تقدر بثمن. وما تفتأ أرض القدس هاته بكاملها غاصة بالأطلال والوثائق المجهولة، وهي التي جرى فحصها وتقليبها مرارا وتكرارا وعلى امتداد تاريخ من الحصار والهجوم والتدمير التي كانت عرضة له.

على بعد ثلاثمائة متر من باب دمشق قتل القديس اتيان داخل حقل وكي تخلد الإمبراطورة اودوكسي ذكرى الشهيد فقد قامت ببناء كنيسة. وأثناء تنقيبهم على الأساس العقدي لهاته المعطيات فإن بعض الكهنة عثروا من جديد على بقايا هذه الكنيسة. كانت أرضيتها المصنوعة من الفسيفساء سليمة وأساسات أعمدتها الرخامية محطمة وعلى ارتفاع قليل من الأرض. إنه خسرويه الرهيب المدمر الأكبر للنصارى والذي قام في أواسط القرن السابع الميلادي بإعدام هذا الفضاء المقدس. على مقربة منه تلوح أساسات الدير الأكثر تواضعا والذي شيده الصليبيون تخليدا لذكرى القديس اتيانوس الذي لم يلبث الطوفان السارازيني الذي ضرب القدس أن جعلها بدورها أثرا يعد عين. كل هاته البقايا البائسة والجليلة تبدو لنا منقوعة في ماء المطر ووسط الفضلات الخبيثة وهي مختلطة بهذه الأرض التي احتفظت بها وأخفتها طيلة قرون. وفي لحظة شعت أرواحنا وتمثلت هذا التراكم من الأزمنة والعصور واستشعرت في الآن نفسه القلق على الزمن الذهبي الغابر.

سقط المطر مدراراً وغسل بالماء الغزير رخام وفسيفساء الإمبراطورة اودوكسي. وكان علينا والحالة هاته أن نركض للاختباء داخل المقابر التي اكتشفها الكهنة أيضا تحت حديقتهم. محراب جنائزي بقبور مرصوصة على شكل طوابق وحيث رميم العظام التي يقدر عمرها بأكثر من ألفي سنة ويقوم الآباء الدومينيكان بدفن أبناء الطائفة فيها وهم نصارى زمننا الحاضر الذين يعانون من شتى القلاقل والمشاكل والذين يرقدون جنبا إلى جنب مع أخوان الزمن الغابر.

 وفي المساء استعدنا شأن الأمس بساطة وألفة الفندق. كنّا نفكر ونحن قرب المدفأة وسط الجرائد والصور والسواح وتجار السبحات في هذا الجزء من القدس الذي اطلعنا عليه غب زيارة محكومة بالصدفة. ولم يلبث تفكيرنا أن جنح إلى القديس سيبولمر وحديقة جيتشيماني الموجودين على مرمى حجر. لقد صرفنا يومين ونحن في غمرة الانفعال المتولد عن هذا الجوار ونحن موزعون بين التوق إلى الرؤية والمشاهدة والخشية منها وفي غمرة هذا المطر المثير للشجن الذي يبدو سقوطه متعمدا وكي يتيح لنا ذريعة ملاءمة للانتظار.




إبريل 1894

كثيرون يموتون هذه الأيام

صادفت هذا الصباح خارج أسوار القدس مشهد دفن حاجة روسية. لا نكاد نحصي عدد من يموتون في فلسطين أثناء هذه الرحلات. امرأة عجوز ذات صفرة شمعية فاقعة ترحل مكشوفة الوجه ومحمولة من لدن بؤساء آخرين.  وسوف يتوالى تدفق الحاجات والحجاج بالمئات. التنورات الباهتة والقبعات الوبرية الكثيفة واللحى الرمادية للموجيك الروس والحشود الفظيعة والكابية هنا. لكن الإيمان الظافر يشع من النظرات وهاهم يغنون جماعة أغنية دينية مرحة وينظرون إلى المرأة العجوز باعتبارها سعيدة ويغبطونها لأنها ماتت في الأرض المقدسة. آه. كم هو عظيم إيمان هؤلاء!!

في المساء وعند غروب الشمس وحين انتهائي من زيارة رهبان كنيسة القديسة آن، وجدتني على مرمى حجر من قصر هيرودوس وبداية طريق الآلام وعلى مقربة  من الباب المحروس للحرم الإبراهيمي الشريف.
أطلعني رهبان القديسة آن على كنيستهم العتيقة التي يعود تاريخها إلى فترة الحروب الصليبية واقتادوني بعدها إلى حديقتهم كي يطلعوني على المسبح الذي تم الكشف عنه قبل فترة قصيرة بفضلهم. اصطحبوني بعدها إلى دهاليزهم العميقة حيث يفترض تقليد ذو مصداقية لا بأس بها احتواءها على بيت القديسة آن والدة مريم العذراء وحيث يبدو في كل الأحوال وقبل مرور القديسة هيلين أن غرباء جبل الكرمل من نصارى القرنين الأول والثاني كانوا ينزلون عبر ممر سري كي يقوموا بشعائرهم السرية.

كان هذا الماضي يعاود الحياة من جديد في عقلي وأنا أغادر هذا الفضاء الجليل، وكان لزاماً علي الآن وأنا في غمرة هذا الغروب الذهبي الصامت، أن أصعد بين الأسوار والأطلال البائسة طريق الآلام، كي أصل إلى الأحياء الجديدة حيث كنت أقيم بجوار باب يافا.

على يساري أغلقت بوابة الحرم الشريف والتي أصبح من المستحيل الدخول إليها بعد أذان المغرب، وقبالتي يمتد بسرعة ووسط أسوار حزينة زقاق موت يفضي إلى طريق الآلام.

هذه الطريق كما نقدسها في أيامنا هاته والتي لم يتم الاعتراف بها إلا انطلاقا من القرن السادس عشر الميلادي متخيلة فيما يهم تفاصيلها وواقعية في ما يتعلق بوجهتها وخطوطها العريضة خصوصا في حي الأطلال هذا الذي يحيط بقصر هيرودوس، فإن الأمور قد شهدت بعض التغيير بحيث تحولت الطريق المبلطة الرومانية القديمة بمحاذاة فضاء المعاناة والعذاب لتصبح على عمق أقدام تحت الأرض الموعودة الآن وبعض هاته الأسوار العتيقة التي ما تفتأ مدفونة والتي ما تفتأ قائمة ربما عاينت مرور المسيح وهو ينوء تحت وطأة الصليب.

الطريق مقفرة هذا المساء وقد استوطنت العتمة بعض المواضع التي تشهد ضيق مساحته مع نزر من النور الذهبي الذي يغمر حواف الصخور الحمراء. ويبدو أن الشمس في طريقها إلى الغروب. وما تفتأ أصوات الأرغن وبعض الأغاني الدينية تنبعث من  دير رهبان القديسة آن الذي عمد إلى إغلاق ابوابه.

يتجه هذا الطريق صعودا في وعورة وضيق وعتمة بين صفين من الأسوار العتيقة التي تتخللها في بعض المواضع أقواس عظيمة وبقايا جسور تخترقها بطريقة فوضوية وتلقي عليها بوفرة من الظلال. هاته الأسوار التي يبلغ علوها وارتفاعها ثلاثين قدماً مبنية بحجارة واسعة رومانية أو سارازانية وذات لون دموي. ونتبين في بعض المواضع التي تشهد على تآكل وتدهور هاته الحجارة بعض الأعشاب ومن حين لآخر نعثر على دعامات متآكلة ومنخورة تسند هاته الحجارة.

ثمة أزقة أخرى تتقاطع مع هذا الزقاق وهي شأنه فارغة وميتة ودون انفراجات من أي نوع وموصولة بأقواس ثقيلة مفرطة في الاستقامة أو منحرفة وتمتد في البعيد في غمرة عتمة جنائزية. لم نكن نرى بالكاد غير أشباح عابرة وفي عمق الأزقة بعض النساء المحجبات  والبدو الملتحفين بمعاطف رمادية اللون.

هي ذي العبارة التي وجدتها منقوشة في لوحة رخامية بيضاء مثبتة في أعلى أحد الأبواب – Hic Flagelannit -   وهو ما يعني أننا بجوار الدير الذي شهد جلد المسيح، وهو ما يعني أيضا أننا قاب قوسين أو أدنى من طريق الآلام. هي ذي الثكنة التركية التي شيدت في المكان الذي كان يحتضن منزل هيرودوس والذي يعتبر المحطة الأولى في طريق الصليب. انطلاقا من هذا المكان وانتهاء بكنيسة القيامة فإن كل المحطات سوف يتم تعيينها لي بفضل تدوينات أو أعمدة.

تضحي موسيقى رهبان دير القديسة آن أكثر غموضا واضطرابا وأنا أبتعد، وتوشك الآن على التلاشي في البعيد رغم الخشوع الصامت الذي يخيم على القدس مع غروب الشمس. لكن ها هي ذي أغنيات أخرى وألحان دينية وأصوات أرغن وأنا أمر بجوار دير آخر تحت القوس الروماني ويتعلق الأمر براهبات صهيون اللاتي كن ينشدن خلف الأسوار تحية للمسيح المخلص.

يواصل طريق الآلام صعوده الوعر والمتوحد وبين الحين والآخر نباغت بشقوق وانعراجات مباغتة تتخلل المنازل الكابية وها هي آخر أشعة الشمس الذهبية تتلاشى من فوق حواف الحجارة الأكثر ارتفاعا وها هي أغاني راهبات صهيون توشك على الاضمحلال. لكن فوق هاته الأسوار التي تسجن جسدي يتشكل جانب آخر من القدس في غمرة ظلال رمادية في قلب السماء الساخنة: كتلة من القباب الصغيرة التي يتجاوز عمرها مئات السنين، ومنارتان متوجتان احتفاء بحلول شهر رمضان بأنوارهما الليلية.

لم تعد تصلني أغاني راهبات صهيون، لكن صرخات دينية أخرى تتسم بحدتها وحماستها تندفع في آن واحد من أنحاء متفرقة من المدينة وتعبر الفضاء مثل قذائف بعيدة المدى. إنهم المؤذنون الذين يدعون إلى صلاة المغرب. آه أيتها القدس إنك مقدسة بالنسبة للمسيحيين والمسلمين واليهود، وهو ما يفسر هذه الفوضى المتخلقة من البكاء والأنين والصلوات.

يصعد طريق الآلام باطراد وتخترقه بين الفينة والأخرى مثل جسور فظيعة مطروحة من عَل منازل سارازانية وتتطلع من فوق من خلل نوافذ حذرة مغطاة بمصاريع أو سياجات حديدية. لقد انتهى المؤذنون من الدعوة إلى الصلاة ويلقي الغروب والصمت بجلالهما على طريق الآلام الذي رأيته بالأمس عاديا ومثيرا للخيبة في غمرة شمس النهار. لقد حول غموض العتمة شكله ويتحول اسمه الذي يكفي أن أردده في داخلي إلى موسيقى مقدسة ويبدو أن الذكرى العظيمة تشدو من خلل هاته الحجارة.

لقد وصلت بأناة إلى المحطة السابعة في طريق الصليب، وتحديدا عند الباب التي خرج منها السيد المسيح كي يصعد إلى تلة غلغثة. ويلزمني إذن أن أعبر بغتة مكانا ضاجا وعامرا بالعرب والجمال وغب سكون وعزلة الجانب السفلي من المدينة. إنه سوق خان الزيت، وهو حي يتشكل من أزقة صغيرة مغمورة كليا بالأقواس بفضل عناية الصليبيين، وأصبح الآن مركزا للحركة التجارية الصاخبة للبدو. السوق معتم تماما وثمة قناديل منارة داخل الحوانيت التي يباع فيها الزيت والحبوب. تعرضت للدفع داخل الأزقة الضيقة من لدن المارة المرتدين البرانس، وقد دوختنا صرخات الباعة ونواقيس الجمال. لم يلبث السكون أن عاد بعد مغادرتنا لهذا السوق المفتوح ولم تلبث الأغاني الدينية أن عادت في نهاية كنيسة القيامة. وكما هي العادة فإن الكنائس مفتوحة على مصراعيها وتنبعث من داخلها الصلوات والأدعية. هذا المساء كان دور الأرمن المتلفعين بسواد الحداد، وكانوا يغنون عند مدخل الكنيسة ويباركون بالبخور الحجارة المقدسة وكان الراهب الذي يشرف على الطقوس معتمراً لتاج أحمر اللون.

انتهى الأرمن من طقوسهم ولم يلبثوا أن ابتعدوا بشكل طقوسي داخل التشعبات المعتمة للكنائس وبسرعة مفرطة كما لو كانوا في عجلة من أمرهم للصلاة بخشوع في مكان آخر غير هذا الذي يشتمل على كل مظاهر التقديس، وحيث تكون كل الحجارة مغمورة يوميا بالبخور وعرضة للقبلات المنقوعة بالدموع. وما أن أمعن غناؤهم في أغوار الأقبية حتى بوغتنا باقتراب صخب آخر كان يصعد بعنف وثقل من الأغوار المعتمة مثل حشود تتحرك أو منهمكة في غمغمة صلوات هامسة داخل جدران قبو مضخم للأصوات. كان الأمر متعلقا بكوكبة من الحجيج القوقاز في طريق عودتهم من الأديرة الواقعة تحت الأرض وكانوا في طور المغادرة بعد أن انتهى يومهم. وبوصولهم إلى كنيسة القيامة قاموا بالطواف حولها وهم يقبلون كل حجر ويحملون الأطفال كي يمكنوهم من التقبيل، وكانت عيونهم مرفوعة بخشوع صوب السماء ومخضلة بالدموع.

هل من الممكن ألا تكون كل هاته الأشكال من الضراعة والخشوع والتبتل وإن كانت مفرطة في طابعها الطفولي والتقديسي ومدموغة بسذاجة مجهولة مسموعة من أحد؟ أقصد هنا إله أو مجرد سبب متعال لمن خلق هؤلاء البشر ثم قذف بهم إلى المجهول. وهي هاته الكائنات أسيرة القلق من الألم والمعاناة والمتعطشة إلى الخلود واللقاء من جديد. لا لم يسبق لي أن عاينت هذه الوحشية المقيتة وإن بدت لي عصية على القبول مثل هذا المساء. وها هو هذا التعليل الذي ليس ثمة أبسط منه، والذي يضاهي في عتاقته هذه الفلسفة التي حكمت عليها بأنها مفتقرة إلى أية قيمة، يكتسي في هذا الفضاء وفي غمرة هاته التجليات العظيمة لليأس والإحباط الإنسانيين داخل كنيسة القيامة ما يشبه القوة. وها هو يوقظ في داخلي وبطريقة غير متوقعة وهادئة الآمال القديمة والميتة. وها أنذا أبارك بإخاء من أجل هذا الخير الذي أتاحوه لي هاته الأرواح الطيبة التي تعبر بجواري والتي تهمس داخل الظلمات بصلواتها المدموغة باليقين.

 



[i] Pierre Loti. Voyages 1872-1913. Robert Laffont. 1983.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.