}

أمكنة نجيب محفوظ: جغرافيا القاهرة عبر الأزمنة

أحمد ندا أحمد ندا 13 ديسمبر 2017
المشي في شوارع القاهرة مغامرة يومية لمن يعيش فيها، مدينة التناقضات البديعة، كل تفاصيلها تؤدي إلى النتائج وعكسها بالكامل. هنالك عالم أدبيٌ كامل ينتظر عيونًا لاقطة تستطيع أن تنتزع شعريتها وثراءها. القاهرة مدينة منتفخة بتاريخها ومعطياتها الاجتماعية والعمرانية، مرهَقة ومرهِقة، على الرغم من سخط سكانها منها، فما زالت قادرة على إعطاء نفحات جمال تخصّها، المدينة التي لا تنام، لكل وقت سكانه وأعماله ومزاجيته الخاصة. فليس من الغريب أبدا أن ينام العالم أجمع، فيها حياة تستيقظ لسكان الليل الأخير، حياة صاخبة في هدوئها، ثرية في فترات صمتها الممتدة.

لكن المشي في القاهرة بغرض التجوال شيء، وتتبع الجغرافيا المحفوظية شيء آخر. نجيب محفوظ هو الأديب ابن القاهرة بامتياز، وهو من عايش تغيراتها العمرانية والاجتماعية عبر عقود تسعة. هي "مكانه" في الواقع والسرد، وكلا المكانين المجازي والحقيقي، كما يقول الكاتب شريف الشافعي في كتاب "نجيب محفوظ.. المكان الشعبي في رواياته": "ها هي أمكنة روايات نجيب محفوظ تمتثل لقانون التغيير الأزلي، العطفة تتحول إلى الشارع. والحانوت إلى سوبر ماركت. والملاية اللف إلى فستان. والبيت الحجري القديم إلى عمارة شاهقة. وتبقى الأثريات والعمائر الإسلامية العتيقة وطائفة الحرفيين والصنايعية المتأصلين يبقى هؤلاء كلهم ليحفظوا جسد الجغرافيا من التلاشي وروح التاريخ من الذوبان".

رغم أن المكان في الرواية ليس هو المكان الطبيعي أو الموضوعي وإنما هو بناء لغوي سردي، قد يكون فيه من الواقع بعض تفاصيله، لكن يظل المخيال هو قانون بنائه. الواقع في العالم المحفوظي، يتبدى كقطاع طولي من ذلك العالم، حيث المكان أحد أبطاله، وهو - أي محفوظ - الشاهد على تحولاته الاجتماعية الكبرى.

أما زالت تحمل المدينة أثر محفوظ؟ أما زالت شخصيات رواياته في "زقاق المدق" و"خان الخليلي" و"القاهرة الجديدة" و"بين القصرين" والسكرية" و"قصر الشوق" و"ثرثرة فوق النيل" ماثلة في الواقع الحالي، والفارق الزمني بين أعمار رواياته والمكان الآن يزيد عن النصف قرن؟ لا نقصد في هذه الجولة في الزمان والمكان، السؤال عن معرفة محفوظ نفسه، بل محاولة إبصار ما بقي من عالمه، ورصده للبناء الاجتماعي في منطقة هي في معظمها "أثرية" بنت القاهرة الفاطمية فالمملوكية.




زقاق المدق: البحث عن آثار "حميدة"


حتى وإن لم تكن من قرّاء رواية "زقاق المدق 1947"، لا بد أن الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه (1963)، من إخراج حسن الأمام، قد مرّ عليك. حميدة "شادية" بحضورها المغناج الشهواني، وعباس الحلو "صلاح قابيل" المحِب، وفرج "يوسف شعبان" عتبة طموح حميدة. أو سمعت عن الفيلم المكسيكي المأخوذ عنها "زقاق المعجزات 1994" للمخرج أرتورو ريبستين. الرواية والفيلم المصري صارا جزءا من الوعي الجمعي المصري، حميدة تجاوزت تمثلها لطموح بنت من الطبقة الشعبية في طموحاتها للترقي الطبقي. أما المكان، فهو أكثر الأماكن المحفوظية حفاظًا على ملامحه وتغييرًا في آن معًا.


يقول الدكتو نبيل راغب، في حديثه عن الرواية في كتابه "قضية الشكل الفني عند نجيب محفوظ": "إن الذي يدفع نجيب محفوظ إلى أن يجنح إلى الرواية الاجتماعية، هو أن البطل الحقيقي في رواية زقاق المدق ليس حميدة، أو عباس الحلو، أو فرج إبراهيم، إنما هو الزقاق نفسه، وباقي الشخصيات في الرواية لا تقوم إلا بدور الأبعاد المجسمة للتكوين الاجتماعي والنفسي للزقاق".

يتبدى ذلك في وصف المكان بالرواية "آذنت الشمس بالمغيب، والتف زقاق المدق في غلالة سمراء من شفق الغروب، زاد من سمرتها عمقاً أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب على الصناديقية، ثم يصعد صعوداً في غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن ويحف بالجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهي سريعاً كما انتهى مجده الغابر ببيتين متلاصقين يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة".




صار المكان دون ناسه، لم يبق منه إلا "قهوة" تشبه قهوة كرشة كما سردها محفوظ في الرواية، الزقاق صار أكثر تهالكًا، اجتماعيًا وعمرانيًا، فلم يعد بالزقاق إلا قهوته وبعض المحلات الحديثة. لم يعد ثمة ساكنين كما في فترة كتابة الرواية، البيوت شبه المتداعية، صارت جزءًا من الأعمال التجارية فيه.

"من يحمل الماضي تتعثر خطاه"، كما يقول محفوظ في الحرافيش. لا نبحث ههنا في استعادات نوستالجية لما اصطلح على تسميته "زمنًا جميلًا" ولا هو حسرة على حال مكان، صار في كثير منه أطلال من الماضي، بل محاولة "فهم" تحولات المدينة، وكيف تهالكت بعض مناطقها الحيوية، بفعل الزمن والدولة والتغيرات الاجتماعية الحادة.

في الزقاق، لم أتورط في الحديث عن محفوظ بين من يبدو عليهم أنهم زوار أعماله الصباحية، لا سكانه، إلا أن صورة لنجيب محفوظ في القهوة استوقفتني، وجعلتني أتراجع، سألت أحد عمالها "تعرف مين ده؟"، فقال "نجيب محفوظ طبعًا"، يرد علي بفخر واندهاش، سألته ثانية: ومين هو نجيب محفوظ، فقال "أنت ما شفتش فيلم حميدة وفرج؟ أهو ده اللي كتب الفيلم، والمفروض إنه حصل هنا في الصنادقية"، اندهشت مرتين: مرة لأنه لم يذكر اسم الزقاق مرة واحدة، وثانية عندما ذكر اسم الشارع نفسه. فيما يبدو أنها المعلومات الوحيدة التي يعرفها عن كاتب نوبل، لم أحب أن أسأل عن حكاية "تكفيره" ومحاولة اغتياله، ولا عن هذر نائب البرلمان المصري الذي رأى في محفوظ كاتبًا يستحق العقاب بتهمة "خدش الحياء ونشر الرذيلة" في روايته. الفخر والدهشة في عيني عامل المقهى جعلاني أفترض أنه يعرف أن محفوظ "صاحب قيمة" ما كبيرة، بعيدًا عن هلاوس الإسلام السياسي والدولة.. كان الزقاق شبه خال حتى من باعته، سألت عامل المقهى، فذكرني أن اليوم هو "الأحد"، يوم أجازة الجميع.

يخرج الزقاق على شارع الصنادقية، أحد امتدادات شارع المعز لدين الله الفاطمي الشهير، الممنوع دخول السيارات وعربات النقل إليه منذ عام 2005، ما حوله إلى مكان تجارة راكد على أصحابه، رأى محافظ القاهرة وقتها أن أفضل وسيلة للحفاظ على المنطقة الأثرية الفاطمية بتحويلها إلى "فاترينة"، المحافظ الذي لا يفهم طبيعة التاريخ وعلاقاته في هذه المنطقة وأن جزءًا أساسيًا منها هو بحياة من فيه، لا أن يتحول إلى واجهة عرض، وليس أدل على ما صار إليه شارع المعز، وانعدام الحيوية فيه، في مقابل بعض الروح التي ما زالت تسري في خان الخليلي كأن التاريخ ما زال ممتدًا فيه. أحدهما - وهو المعز - مقتول تاريخه بخيالات الفرجة، والآخر - الخان - حيوي وحي.

الصنادقية من الشوارع الأقدم في المنطقة، في قاهرة المعز، سميت بذلك الاسم لأنها كانت سوقاً لصناعة وبيع الصناديق الخاصة بالعروس. وفيه عاش المؤرخ الجبرتي وكتب يومياته. وكما وثقها نجيب محفوظ، وثقها الرسام النمساوي لودفيج دويتش، الذي وثق بصريًا في نهايات القرن التاسع عشر بعض تفاصيل القاهرة الفاطمية وآثارها.




خان الخليلي أو ما بقي من التاريخ


".. واتجه إلى خان الخليلي يتسمت هدفه الجديد، فعبر عطفة ضيقة إلى الحي المنشود، حيث رأى عن كثب العمارات الجديدة تمتد ذات اليمين وذات الشمال، تفصل بينها طرقات وممرات لا تحصى، فكأنها ثكنات هائلة يضل فيها البصر وشاهد في ما حوله مقاهي عامرة ودكاكين متباينة - ما بين دكان طعمية ودكان تحف وجواهر - ورأى تيارات من الخلق لا تنقطع، ما بين معمم ومطربش ومقبع، وملأت أذنيه أصوات وهتافات ونداءات حقيقة بأن تثير أعصابا قلقة كأعصابه".

حتى أحمد عاكف، بطل رواية خان الخليلي، كان يتعالى على الشارع وقت انتقاله إليه في ثلاثينيات القرن الماضي، هربًا من لظى الحرب العالمية الثانية. المكان ما زال مفعًما بتجارته وأصواته التي "تثير الأعصاب"، على الرغم من تسلل البضائع الصينية إلى معروضاته الإسلامية والفرعونية. المشغولات النحاسية والفضية، قطع الأرابيسك ما زالت تحيي زوارها بفيض ومودة. غير أنه لم يعد مكان سُكنى، "العمارات ذات اليمين وذات الشمال" خلت من ساكنيها، بعدما حولته القرارات الإدارية إلى فاترينة مثل كل ما في القاهرة الفاطمية، وكأن المنطقة تتمثل المقولة المحفوظية من رواية السراب: "ما البيت ببناء وعمارة وهندسة، ولكنه برج ثابت فى الزمان يأوي إليه حمام الذكريات، الساجع بالحنين إلى ما انقضى من أعمارنا".

ما زالت قبة الخان تغطيه كما كانت، كما بقي يحمل لقب الخليلي نسبة إلى السلطان جاهركس الخليلي، أحد سلاطين المماليك الجراكسة، الذي أسسه عام 1382 ميلادية، الآتي من مدينة الخليل بفلسطين المحتلة، أي منذ ما يزيد على 620 عاما على أنقاض مقابر الخلفاء الفاطميين في مصر والتي عرفت باسم "تربة الزعفران"، وكان لهذه التربة رسوم وعوائد يحرص عليها كل الخلفاء الفاطميين من حيث زيارتها والتردد عليها وإنارتها والتصدق أيام الخلافة الفاطمية.


فلما رغب جاهركس في بناء هذا الخان، نبش "تربة الزعفران" وألقى بما كان بها من عظام على التلال الموجودة خارج القاهرة معتذرا عن ذلك بأن الفاطميين كانوا كفارًا لأنهم "شيعة"!

وكان المعز لدين الله قد استحضر معه من القيروان توابيت ثلاثة من أسلافه ودفنهم في مقبرته، حيث دفن هو وخلفاؤه أيضاً. وحي خان الخليلي هو واحد من ثمانية وثلاثين سوقاً كانت موزعة أيام المماليك على محاور القاهرة، ويقع وسط المدينة القديمة. يقول عنه المقريزي إن الخان مبنى مربع كبير يحيط بفناء ويشبه الوكالة، تشمل الطبقة السفلي منه الحوانيت، وتضم الطبقات العليا المخازن والمساكن. وفي ربيع الثاني سنة 917 هـ/ يوليو/ تموز سنة 1511م هدم السلطان الغوري خان الخليلي وأنشأ مكانه حواصل وحوانيت وربوعا ووكالات يتوصل إليها من ثلاث بوابات. وقد هدمت هذه الحواصل والحوانيت وأعيد بناء الخان بعد ذلك.

فتن الخان الرسام البريطاني والتر تيندال الذي وثقه في إحدى لوحاته في الفترة بين 1900 و1915، أي قبل مرحلة التوثيق المحفوظي. وكأن معروضاته من النحاس والفضة ما زالت ماثلة كما هي.

ملحمة السيد أحمد عبد الجواد


لأنه من الصعب الآن تبيان حدود مناطق الثلاثية الشهيرة، كانت الجولة في شارع المعز لدين الله الفاطمي، والذي كان "بين القصرين" قديمًا، حسب إحدى الروايات الأثبت. فهو واحد من معالم القاهرة الإسلامية، عمره يزيد عن الألف عام. بداية ملامحه جوهر الصقلي حين بنى قصراً للمعز لدين الله الفاطمي عرف باسم القصر الشرقي الكبير المطل على الشارع، ويقابله من الجهة الأخرى القصر الغربي الصغير للمعز للعزيز بالله نزار بن المع. وموقع هذا القصر اليوم المكان الذي يحتله مسجد الحسين وخان الخليلي ممتداً إلى المكان الذي توجد فيه الآن المدرسة الظاهرية وقبة الملك الصالح نجم الدين أيوب.عرفت المنطقة الواقعة بين القصر الشرقي والقصر الغربي باسم "بين القصرين".

غابت ملامح المنطقة بتفاصيلها كما رواها محفوظ في الثلاثية، لم يبق إلا بعض المشربيات بوصفها المحفوظي الشهير، فيما تظهر بعض أطباق "الدش" فوق الحوانيت التي "طورتها" المحافظة، معطية انطباعًا "مربكًا" لحال المنطقة. وعلى الرغم من محاولات التنظيف المستمرة، للأسف تنتشر النفايات بين الشقوق وفي الأزقة، وكأنها تتمثل المقولة المحفوظية، من رواية المرايا "انظر إلى قذارة الشوارع في قلب المدينة! سيأتي يوم يطالب فيه الذباب بحقوق المواطن!".

هنا كان مرتع السيد أحمد عبد الجواد، أو "سي السيد"، الشخصية التي صارت "منقوعة" في الوعي الجمعي المصري والعربي أيضًا، النموذج الأصلب للشرقي بكل تناقضاته. و"أمينة" الزوجة العربية بكل خضوعها، غير أن المكان الذي وصفه محفوظ لم يعد موجودًا.

يقول الباحث السياسي المهتم بتاريخ القاهرة وعمرانها، محمد نعيم، لضفة ثالثة: "السكرية وقصر الشوق كلها مناطق صغيرة جدًا في الجمالية، ليست أحياء بالمعنى الفهوم للكلمة. ورأيي أن القاهرة القديمة سائلة جدًا اجتماعيًا وبقيت بهذه السيولة لعقود طويلة. من الصعب أن تقول إن السكان فقراء لأنه لا فقر في الجيل الثالث والرابع من سكان هذه المناطق أو من بقي منهم على وجه الدقة. أيضًا فالناس في هذه المناطق تنتقل اجتماعيًا، والعائلات تمتد لكن يبقى منها الكثير، فمن يبقى إما (حد) كسول أو متعلق بها أو متعثر. قديمًا كانت هذه الأحياء تضم كل الفئات الاجتماعية، الآن أصبحت أكثر أحياء طبقة وسطى، وسطى ودنيا، ذلك ما يحافظ على صمودها الأخلاقي، رغم تغيرها العمراني لكبير، وما زال فيها تجار وتجارتهم. أي أن لا خصوصية، غير أن المكان مركزي جغرافيًا في القاهرة وفيه آثار مهمة كثيرة، وعشوائياته قليلة، لكنه تقادم تجاريًا، وذلك ما جعله متهالكًا".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.