}

مقاهي المدينة مصاطب القرية

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 30 نوفمبر 2017
اجتماع مقاهي المدينة مصاطب القرية
مقهى دمشقي

  كان كارل ماركس يردد دائماً أن السلعة أقوى من المدفع، فهي قادرة على دك أقوى الأسوار الصينية. ومع اكتشاف القارة الأميركية في عام 1492 غمرت العالم كله سلع أميركية جديدة لم تكن معروفة من قبل، وصارت البشرية في ما بعد غير قادرة على الاستغناء عنها البتة، كالتبغ والبطاطا والذرة والبندورة. والطريف أن البندورة التي وفدت إلى حلب في أواخر القرن التاسع عشر باسمها المحرّف عن الايطالية Pomma Dora نفر الناس منها وراحوا يتساءلون: كيف تكون من الخضراوات  ولونها أحمر؟ ولهذا لقبها الحلبيون بـِ "مؤخرة القرد"، وأصدر مفتي المدينة فتوى بتحريمها (أنظر: جورج طرابيشي، من النهضة إلى الردة، بيروت: دار الساقي، 2000). أما السلع غير الأميركية التي غزت بقاع الأرض فاقتصرت على الشاي (من الصين) والأرز (من الشرق الأقصى) والقهوة (من بلاد العرب)؛ فالقهوة تاريخياً ليست تركية على الإطلاق كما هو شائع اليوم (Turkish Coffee)، ويرفض اليونانيون والأرمنيون بإصرار وعناد تسمية القهوة بـِ "القهوة التركية"، فيما يردد كثير من العرب هذه العبارة كالبُلهاء غير عارفين أن القهوة عربية – حبشية في منشئها الأصلي القديم. ومهما يكن الأمر فإن كثيراً من الأسماء والمصطلحات السارية يخالف منطوقُ لفظِها مضمونَها. فجزيرة غرينلاند على سبيل المثال لا خضرة فيها قط بل ثلج وبياض. أما آيسلندا فلا جليد فيها بل كلها مراعٍ خضر، و"الصندوق الأسود"، وهو ذاكرة الطائرة، لونه برتقالي، والغرين كارت الأميركي الذي تهفو إليه قلوب الملايين من البشر لا لون أخضر فيه البتة. وعلى هذا الغرار فإن الكلام على "المطبخ التركي" وأشكال الطعام فيه، والتغني بمغلّظاته وبمعجناته وحلوياته، فيه تحريف وتضليل لأن المطبخ التركي حديث نسبياً، وهو مستعار من المطبخ الحلبي بالدرجة الأولى، ثم من المطابخ اليونانية والأرمنية بالدرجة الثانية. والمشهور أن السلطان سليمان العثماني حين احتل سوريا في سنة 1516 استاق المهندسين والبنائين والصُناع والحرفيين إلى القسطنطينية التي تحوّل اسمها بالغلبة إلى اسطمبول، فخلت دمشق وحلب من هؤلاء، وازدهرت عاصمة السلطنة أيما ازدهار. ولاحقاً نبغ مهندسون وبناؤون وصُنّاع أتراك فاقوا أقرانهم كسنان باشا مثلاً.

السوريون الأوائل

 كانت العرب تسمي الخمرة قهوة، ثم اتخذت دلالة اللفظ، بالتدريج، معنى آخر هو شراب البُن المغلي. والبُن شجرة عرفتها الحبشة في البداية قبل أن تنتقل إلى اليمن. وقد أولعت بها جماعات وأفراد من الصوفية لأنها كانت تساعدهم على قيام الليل ومقاومة النعاس. وفي الأخبار المتواترة أن أول من نقل القهوة من الحبشة إلى اليمن عبر ميناء زيلع هو عمر الشاذلي أحد أقطاب الطريقة الشاذلية في النصف الأول من القرن الخامس عشر. وأول الأماكن التي شهدت شرب القهوة جماعياً كانت في رواق اليمن بالأزهر في القاهرة. ويروى أن السلطان سليم تعرف إلى القهوة في رواق اليمن بعد احتلاله مصر في سنة 1517، فنقل كميات منها إلى اسطمبول. وهكذا راحت القهوة تنتشر في البيوت التركية في عهد السلطان سليمان القانوني، وظلت الحال على ذاك المنوال إلى أن تمكن شابان أحدهما حلبي يدعى حكم والثاني دمشقي يدعى شمس (وفي رواية أخرى أن "شمس" إمرأة) من الاستحصال في سنة 1554 على ترخيص بافتتاح مكان لشرب القهوة في حي طاخطا قلعة، أي القلعة الخشبية، في اسطمبول قريباً من قصر توب قابي. والزقاق الذي أُسس فيه ذلك المقهى صار اسمه "زقاق تحميص". ومهما يكن الأمر، فالثابت هو أن أول مقهى عربي ظهر، أول ما ظهر، في دمشق في سنة 1530، وأول مقهى في اسطمبول أسسه سوريان، وأول مَن أسس مقهى في أوروبا، وفي مدينة براغ بالتحديد، هو الدمشقي جرجس الذي وصل إلى المدينة في سنة 1707، وراح يبيع القهوة متجولاً، إلى أن وُفِّق إلى افتتاح مقهى "برج الجسر" في سنة 1714.

المقهى والمدينة

  لم تعرف المدن العربية التاريخية المقاهي في صورتها النمطية إلا في عصر الحداثة. أما ما عرفته تقليدياً فقد اقتصر على الحانات والخانات والمقاصف ذات الدنان والخوان والقيان، فكان العربي حين يأتي إلى دمشق مثلاً ينزل في الخان (مثيل الفندق اليوم)، ويربط راحلته في المكان المخصص للدواب (الزريبة أو الاسطبل)، ثم يذهب فوراً إلى الحمام للتخلص من وعثاء السفر (التعب وغبار الطريق)، وبعد ذلك يقصد الجامع لأداء صلاته. وفي العشيات يختلف إلى الحانات للهو والسماع إذا كان من عشاق المتعة. وتقدم لنا دمشق القديمة مثالاً على ذلك ما برح حياً حتى اليوم؛ فخان أسعد باشا العظم يجاور حمام نور الدين زنكي، والإثنان لا يبعدان إلا قليلاً عن جامع بني أمية، والخان والحان والحمّام والجامع لا يبعد واحدها عن دار الحكم وعن دور اللهو والقصف إلا خطوات. وهذه العناصر الأربعة، أي الخان والحان والحمام والجامع، شكلت معاً مظهراً جميلاً  من مظاهر الاجتماع الانساني في المدينة العربية التقليدية. لكن تلك الحال تغيرت جذرياً في المدينة العربية الحديثة التي راحت العصرنة تغمرها منذ أواخر القرن التاسع عشر فصاعداً، وتحولت المقاهي رويداً رويداً، من مكان تقليدي إلى مكان تلتقي فيه الثقافة بالمال وبالسياسة أحياناً، وتُعقد فيه الندوات الفكرية والسياسية والأمسيات الشعرية والموسيقية، وتُنظّم في أرجائه معارض الفن التشكيلي وحفلات توقيع الكتب... الخ. وبهذا التحول المطابق لتحولات المدينة تغيرت أجواء المقهى كثيراً ؛ ففيما كانت المقاهي مقصورة على الرجال وحدهم، بخلاف الحانات، صارت اليوم ملتقى للنساء والرجال، ولفنون الحب والعشق ولضروب النميمة السياسية، علاوة على العسس والمخبرين الذين يرصدون أنفاس الناس ويترصدون حركاتهم كما هو شأنهم منذ عهد طويل. وفي هذا الميدان نتذكر أن أمراً سلطانياً (فرمان) صدر في سنة 1558 بناء على فتوى من شيخ الإسلام أبو السعود يقضي بإغلاق المقاهي في السلطنة العثمانية التي وصل عددها في اسطمبول وحدها إلى خمسة وخمسين مقهى. وكانت ذريعة شيخ الإسلام آنذاك أن تلك المقاهي تحولت منتديات لاجتماع المثقفين والسياسيين الذين لا يتورعون عن انتقاد السلطان والسلطنة. واستمر المنع طوال عهدي مراد الثالث ومحمد الثالث، لكن القهوة ظلت تُشرب في البيوت سراً حتى بعد إصدار السلطان مراد الرابع المخبول فرماناً مشهوراً قضى بإعدام كل من يتعاطى القهوة والتبغ والأفيون. وفي عصرنا الحديث أسس السوريان سيف الدين الخُجا وعبد المعطي شاهين مقهى الدولتشي فيتا في بيروت الذي صار مقصداً للمخابرات اللبنانية والسورية والمصرية جراء كثرة المنفيين السياسيين فيه أمثال أكرم الحوراني ورشدي الكيخيا (من سورية)، وعلي صالح السعدي (من العراق)، ومحمد أحمد المحجوب (من السودان) وغيرهم. وفي إحدى المرات راح زهير السعداوي (من ليبيا)، وهو مؤسس جمعية الندامى ومن أظرف الشخصيات التي عرفتها بيروت في طور تألقها وازدهارها، يتحدث إلى الصحافي ميشال أبو جودة (رئيس تحرير جريدة "النهار" وكاتب عمودها الافتتاحي اليومي) بصوت مسموع أمام أحد المخبرين، واستغرق الاثنان في الكلام على قضايا فلسفية عويصة، وخلطا حابل الحديث بنابل العبارات غير المفهومة. وقام المخبر بعمله خير قيام، فسجل ما سمعه ورفعه إلى رئيسه الذي لم يفهم منه شيئاً، بل اكتشف أن الأمر كله كان فخاً هاذياً ومكيدة ساخرة وقع فيها ذلك المخبر المسكين الذي نال توبيخاً وتقريعاً جراء جهله.

الحداثة والرثاثة

في سنة 1689 وصلت القهوة إلى أميركا، وجرى افتتاح أول مقهى في مدينة بوسطن في سنة 1696. وتمكنت الرأسمالية الأميركية أن تسطو على القهوة كما سطت على الهامبرغر الألماني والبيتزا الايطالية، فصار هناك American Coffee، وغزت النسكافيه العالم. وتتوزع معظم أذواق الشاربين اليوم على صنفين تقريباً هما: الإسبريسو والكابوتشينو. أما القهوة العربية فصادرها الأتراك وغيّروا اسمها إلى "القهوة التركية" مثلما صادروا لواء الاسكندرون وحوّلوه إلى "إقليم هاتاي". وانزوت القهوة العربية في دول الخليج العربي وحدها، وهي قهوة لا علاقة لها البتة بحبات البن الحبشي أو العدني المحمصة، بل هي عبارة عن حبات الهال المغلية، بحيث أن لونها يصبح أصفر وليس أسود. وعلى أيدي الأميركيين زحزحت القهوة الشاي عن موقعه قليلاً، وباتت سلعة كونية مثل البندورة والبطاطا والتبغ والذرة والشاي والأرز.

* * *

   كان المقهى مكاناً لتزجية الوقت وشرب الشاي والقهوة ولعب الورق والنرد والداما واالدومينو وتدخين النارجيلة ولقاء الأصحاب ومراقبة الغاديات الجميلات والرائحات الفاتنات على غرار مصاطب القرية. وكان، في الوقت نفسه، وسيلة تواصل بين المدينة وأريافها؛ فأبناء الأرياف اعتادوا انتظار حافلات الركاب التي تنقلهم إلى قراهم في مقاهي الأحياء، فهم عابرون وليسوا رواداً دائمين، خلافاً لمقاهي المدن التي لها روادها المخصوصون، والتي اشتُهر من بينها الهورس شو والويمبي وكافيه دو باري في بيروت، والهافانا والبرازيل والقنديل في دمشق، وغروبي وريش في القاهرة، والمعقدين وحسن عجمي والبرازيلية في بغداد. وكانت للمقاهي تأثيرات مهمة في سلوك الناس وفي وظائف العائلة، وساهمت في ظاهرة تجزؤ الأسرة؛ فالرجل في المقهى بدلاً من البيت، والمرأة لدى الجيران، والطفل في الشارع (راجع: علي الوردي، شخصية الفرد العراقي، بغداد، لا ناشر، 1951). غير أن المقهى اليوم ما عاد على هذا النحو، بل ارتبط بعالم الانترنت والكومبيوتر المحمول، وصار مكاناً للعمل أيضاً، وراح يقدم إلى جانب القهوة بصنوفها الكثيرة، السندويشات والحلويات والعصائر وقطع البيتزا والمناقيش. إنه اختلاط الحداثة بالرثاثة بالمال والاستثمار في مكان واحد، وهذه هي تحولات المدينة العربية التي جعلت المدن مجرد ملاجيء متراصفة للنوم والعمل والأكل والنفايات، ولا تحتاج إلا قليلاً من الثقافة وكثيراً من اللهو والمتع السريعة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.